الحكمة هذه الأيام مغربية، ربما لأن المغرب العربي عرف ابن خلدون قبلنا، نحن أبناء المشرق، وهو الذي أدرك أن أحوال العالم وأممه ونحله تتغير كلما تغيّر الزمان، والعاقل هو من أدرك الحكمة، واتعظ بها، وتعلم الدرس وأتقنه. والحكمة المغربية، اليوم، هي ما سمعناه من الرباط، مما لم يقله حاكم عربي من قبل، أمام أي مؤتمر قمة سابق، إذ كان القادة يتسابقون على عقد مؤتمرات القمة في عواصمهم، ويتنافسون على احتضانها، ويستعدون لها بكل الأبهة والفخامة، ويرسمون “خطبة الافتتاح” على وفق مقاسات ما يرتسم في أذهان مواطنيهم من آمال، وما يكابدونه من آلام، يختارون التعابير السلسة والأنيقة، والكلمات التي غالباً ما تكون “حمالة أوجه” ترضي كل الأطراف، وتلتقي مع كل المشارب، وعندما ينفضّ سامر القوم، ويعود القادة إلى عواصمهم، يكتشف مواطنوهم أنهم عادوا بلا حمص.
بعض القمم التي عبرت كانت مهرجانات للخطابة، تفرغ من مهامها بمجرد غلق المايكروفونات وآلات التسجيل، وبعضها كانت موائد غداء وسمر، تنتهي بتبادل العتاب وتبويس اللحى، وبعضها لتسجيل المواقف أمام الصحافة، وتصفية حسابات قديمة علناً.
في تلك القمم، تناقش القادة، وتباحثوا، وحللوا، وأطلقوا المبادرات، لكن ذلك كله كان “جعجعة بلا طحين”. وبعضهم تشاتموا داخل الغرف المغلقة، وتقاذفوا بالصحون، وهم على موائد الطعام في واقعات مشهود لهم بها، وقد ضحك العالم عليها، لكنهم كانوا يخرجون إلى الهواء الطلق بكامل وقارهم وأناقتهم، ليواجهوا الكاميرات، وعلى شفاههم ابتسامات رضا مفتعل.
لكم تسمّرنا، نحن المواطنين المغلوب على أمرنا، أمام الشاشات وأجهزة الراديو، لنعرف ما يجري، نغالب ظنوننا، ومخاوفنا، ولا نملك غير الصمت، وغير الصبر نداري به أيامنا الحالكات، لكن الحكمة المغربية فاجأتنا من حيث لا ندري، لتصرخ في وجوهنا أنه آن أوان الجد، ولتنذرنا “أن العالم العربي يمر بمرحلة عصيبة، بل إنها ساعة الصدق والحقيقة التي لا يمكن فيها لقادة الدول العربية الاكتفاء بمجرد القيام، مرة أخرى، بالتشخيص المرير لواقع الانقسامات والخلافات الذي يعيشه العالم العربي، من دون تقديم الإجابات الجماعية الحاسمة والحازمة”. الحكمة المغربية تريد من قادتنا أن “لا يقفوا مكتوفي الأيدي، أو أن يلعبوا دور المتفرّج الذي لا حول له ولا قوة”. هي أيضاً تريد أن تخلي مسؤولية المغرب، فيما لو انعقدت القمة على أرضه، وعدم قدرته وحده، وفي غياب “صحوة عربية” على اجتراح المعجزة، وتقديم قيمةٍ مضافةٍ في سياق الدفاع عن قضايانا المصيرية، وبالأخص القضية الفلسطينية، وهو البلد العربي الذي استطاع أن يظل في منأى عن العواصف الماثلة التي توشك أن تطيح بما بقي.
تذكّرنا الحكمة المغربية أن سبعين عاماً مرّت منذ قمة أنشاص، وما يقرب من ثلاثين قمة عبرت، بحساب القمم الاعتيادية والطارئة والمستجدّة، وفي معايشة أجيالٍ ثلاثة، لكننا ما نزال نلوك المفردات القديمة نفسها، نتحدّث باللغة العتيقة نفسها عن إنقاذ “وطنٍ”، أوشك أن يكون لغيرنا، ممنين النفس كذباً أن الطريق طويل، وأن لا بد من أن ينقضي جيل، ويفنى جيل آخر في الكفاح المر، قبل أن نستكمل عدّتنا وعتادنا، على وفق الصورة التي رسمها شاعر حالم في أيام زمان.
وفي الأعوام السبعين، تغير العالم كله، ولم نغير ما بأنفسنا، وقد اجتاحنا الطوفان، وتقلصت مساحة بلداننا، بعدما ابتلعت إسرائيل جزءاً، واستوطنت إيران جزءاً آخر. وهيمن الغرب على مقدراتنا، واستيقظنا، ذات فجر معتم، لنكتشف ولادة دولة “داعش” الهجينة التي يبدو، وسط مكابراتنا وعنادنا، أنها باقية وتمتد.
ولم نعد، مع عبور الأعوام السبعين، نواجه حرباً واحدةً ضد عدو موصوف ومعروف، إنما تعدّدت حروبنا وتناسلت، إلى درجة أن حرباً جديدة كل يوم تنسي الناس حربهم القديمة، واتسعت حرائق بيوتنا، وتمزّقت خرائط بلداننا، ووقعنا عشرات وثائق الاستسلام، ورفعنا الرايات البيضاء، وأدمنا الهزائم والكوارث والنائبات، واعتدنا العيش في أقبية التعذيب، والزنزانات من دون أن يرف للحاكم جفن.
تعلق الحكمة المغربية الجرس، تصارحنا أن الحاكم لم يعد لديه ما يقدّمه، لكن آذاننا، هي الأخرى، من كثرة الطرق الشديد عليها لم تعد تسمع.
الحكمة المغربية والقمم العربية
عبد اللطيف السعدون
العربي الجديد