في 22 شباط/فبرابر، أعلن المسؤولون الأمريكيون والروس وقف إطلاق النار في سوريا، وسرعان ما أعقب ذلك إعلان نظام الأسد أن الانتخابات البرلمانية ستُجرى في 13 نيسان/إبريل. ولا يدعو أي من هذين الحدثين إلى التفاؤل. وفي الواقع، تتقيّد موسكو ودمشق بخطة السلام التي وضعتها الأمم المتحدة في قرار مجلس الأمن رقم 2254، ولكن بشروطهما الخاصة وبصورة مؤقتة فقط. وحتى الآن، ما زال الرئيس فلاديمير بوتين متقدماً بخطوة واحدة على واشنطن وشركائها في لعبة الشطرنج السورية المستمرة.
عزل تركيا
إن أحد الأسباب التي دفعت روسيا إلى قبول وقف إطلاق النار هي بكل بساطة حاجتها إلى استراحة بعد الهجوم الكبير الذي شنته في الأسابيع الأخيرة، والذي حقق فيه الجيش السوري وحلفاؤه عدة مكاسب من ناحية الاستيلاء على الأراضي وذلك بدعم جوي روسي. على الجيش أن يقيم حالياً خطوطاً دفاعية قبل أن يشن هجمات جديدة. ويُعتبر وقف إطلاق النار أيضاً وسيلة مرحب بها لدرء الهجمات المضادة من قبل الثوار.
إلا أن المنفعة الأساسية من الإعلان بالنسبة إلى روسيا قد تكون نفسية، وتتمثل على وجه التحديد بجعل تداعيات عرضها الأخير لقوتها العاتية تنكشف جلياً وبالكامل أمام داعمي الثورة، خصوصاً تركيا. فرسالة موسكو لأنقرة واضحة: “إذا لم تسحبي دعمكِ للمعارضة وتغلقي الحدود، سنقوم نحن بذلك بمساعدة الأكراد السوريين، ونرسل لكِ مليوني لاجئ إضافي خلال هذه العملية” (انظر المرصد السياسي 2557، “أسوأ ما في أزمة اللاجئين السوريين قادم إلى أوروبا”).
وعلى الرغم من التصريحات الحادة التي أدلى بها مؤخراً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يعتقد بوتين على ما يبدو أن أنقرة ستواجه صعوبة كبيرة في حشد الإرادة السياسية الضرورية لإرسال قوات فعلاً إلى سوريا. كما يدرك أن جماعات الثوار المدعومة من تركيا لا تتمتع بالقوة الكافية بنفسها لكي توقف تقدم الجيش السوري الذي يدعمه القصف الروسي الثقيل. وفي غضون ذلك، لا تريد واشنطن دعم التدخل التركي، في حين أن المملكة العربية السعودية منشغلة إلى حد كبير في اليمن ولن تتمكن من تقديم دعم ملحوظ في سوريا.
وحتى الآن تُعتبر أفعال تركيا نفسها مثيرة للجدل أيضاً. فقد أطلقت عدداً قليلاً من قذائف المدفعية على ممر أعزاز في سوريا، مستهدفةً بذلك «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري وجناحه العسكري المعروف بـ «وحدات حماية الشعب». ولم تكن تلك الخطوة غير كافية لمنع الأكراد من التقدم هناك فحسب، بل دفعتهم على نحو أكثر عمقاً إلى أحضان موسكو أيضاً، وهذا بالذات هو أكثر ما تخشاه موسكو. كما سمحت تركيا رسمياً لمئات الثوار من محافظة إدلب في سوريا بعبور أراضيها والدفاع عن أعزاز في وجه «وحدات حماية الشعب»، الأمر الذي لم يسبق لأنقرة قط أن سمحت به حتى في وجه تقدم تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، وبالتالي، كانت النتيجة الأساسية لهذه الخطوة كشف الغموض الذي يشوب السياسة التركية في سوريا.
ورداً على ذلك، سعى بوتين إلى تصوير نفسه كـ “حامي” الأكراد السوريين. ففي 20 شباط/فبراير، قدّمت روسيا مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي، يُدين القصف التركي على القرى الكردية في سوريا. وبينما جوبه الاقتراح بالرفض من قبل الغرب، كان له ثقل واضح من الناحية الرمزية. والآن بما أنه قد أُعلن عن وقف إطلاق نار برعاية الولايات المتحدة وروسيا، فقد تُعتبر أنقرة مسؤولة عن خرقه إذا ما قامت الميليشيات التي تدعمها تركيا بمهاجمة «وحدات حماية الشعب» وحلفاءها الأكراد/العرب ضمن «قوات سوريا الديمقراطية» أو إذا قامت تركيا نفسها بقصف الأكراد مجدداً.
تأجيج الانقسامات في صفوف الثوار
أعلن بوتين أنه ملتزم بالضغط على دمشق لاحترام وقف إطلاق النار، ودعا الرئيس أوباما إلى القيام بالمثل مع حلفاء أمريكا المحليين. بيد أن داعمتي الثورة الأساسيتين، تركيا والمملكة العربية السعودية، تصران على ضرورة تنحي بشار الأسد، فيما يفترض وقف إطلاق النار بشكل أساسي إبقاءه في السلطة لأجل غير مسمى. وحتى لو وافقت القوى الخارجية على الاقتراح، سيكون من الصعب إقناع جميع جماعات الثوار بالالتزام به. وفي الواقع، من المرجح أن معظم هذه الجماعات تَعتبر اتفاق واشنطن مع موسكو بمثابة خيانة. وتشكل الانقسامات الداخلية ضمن المعارضة عائقاً إضافياً أمام تنفيذ وقف إطلاق النار، مما يزيد من تقويض مصداقية الولايات المتحدة. وفي المقابل، يميل حلفاء موسكو إلى توحيد الآراء والانضباط.
وتكمن صعوبة أخرى كبرى في أن اتفاق وقف إطلاق النار يستثني جماعة الثوار «جبهة النصرة»، ذراع تنظيم «القاعدة»، التي تُعتبر تنظيماً إرهابياً بنظر واشنطن وموسكو. وتنتشر هذه الجماعة القوية على كافة الجبهات السورية، من درعا إلى حلب، كما تسيطر على مدينة إدلب وتتحكم بفصائل الثوار الأخرى في تلك المحافظة. وفي ظل هذا الوضع، كيف يُتوقع من حركة «أحرار الشام» [الإسلامية] وحلفاء آخرين مقربين من «جبهة النصرة» الالتزام بوقف إطلاق نار إذا استمرت الطائرات الروسية بضرب قوات «جبهة النصرة»، لا سيما وإذا تم استهداف هؤلاء الحلفاء نفسهم بحجة أنهم يأوون مقاتلين تابعين لـ «جبهة النصرة» ؟ وبالطبع، ستستفيد المعارضة على المدى الطويل من خلال فصل نفسها عن أحد فروع تنظيم «القاعدة»، ولكن في السياق الحالي، لن يؤدِ ذلك سوى إلى تأجيج الانقسامات في صفوف الثوار وربما جرّهم إلى حرب بين الأشقاء، وهو سيناريو قد تَبادر بلا شك على ذهن بوتين.
احتمال شن هجوم ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»؟
في أعقاب الهجوم الناجح الذي نفذته في محيط حلب، أصبح بإمكان القوات الروسية والسورية مواجهة عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في شرق المدينة. وستتميز هذه الخطوة عسكرياً بتعزيز الدفاع عن حلب وتوسيع المحيط الأمني للمدينة وحماية طريق الإمداد الوحيد بين حلب وباقي المنطقة الخاضعة لسيطرة النظام، علماً أنه تم إغلاق هذا الطريق بانتظام بفعل هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية»، وآخرها في 20 شباط/فبراير.
اضغط على الصورة لعرض نسخة أكبر.
بإمكان الجيش السوري أن يشن أيضاً هجوماً مشتركاً ضد قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» بالتعاون مع «قوات سوريا الديمقراطية». على سبيل المثال، يمكن أن تتقدم قوات النظام في “كويرس“ (على طريق حلب- الرقة) و”أثريا” (على طريق السلمية- الرقة) نحو الشمال الشرقي، فيما تتقدم «قوات سوريا الديمقراطية» جنوباً من “سد تشرين”. وقد تترتب عن هذه الخطوة عدة نتائج على الأرجح. أولاً، قد تقضي على وجود تنظيم «الدولة الإسلامية» على الضفة الجنوبية لـ “بحيرة الأسد” وتسمح للجيش بإعادة الاستيلاء على القاعدة الجوية في مدينة الطبقة، التي تمت السيطرة عليها في تشرين الثاني/نوفمبر 2013. وبالتالي، ستصبح قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» بين حلب ونهر الفرات منفصلة عن “عاصمتها” في الرقة. ثانياً، ستتمكن «قوات سوريا الديمقراطية» من شن هجمات بين عفرين وكوباني للانضمام إلى الكانتونيْن الكردييْن في الشمال. ثالثاً، من خلال الاستيلاء على مدينة الطبقة، سيصبح الجيش في مركز جيد للتقدم نحو الرقة، التي سيؤدي سقوطها إلى إضفاء الشرعية على الأسد لتسلم ولاية رئاسية جديدة وتبرير التدخل الروسي “ضد الإرهاب” في سوريا.
إلا أن الرقة ليست على ما يبدو الهدف في الأشهر المقبلة. وبالأحرى تكمن الأولوية على الجبهة الشرقية في إعادة فتح الطريق بين دير الزور ودمشق من خلال انتزاع مدينة تدمر من تنظيم «الدولة الإسلامية». وسيساعد وقف إطلاق النار على تنفيذ هذه الخطة حيث أنه سيضمن هدوءاً نسبياً للجيش السوري على الجبهة الغربية.
الانتخابات تتويج للعملية
تنسجم دعوة الأسد إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة في نيسان/إبريل مع الدستور، ولكن واقع مجيئها قبل شهر من توقيتها الرسمي يشير إلى ارتباطها بإعلان وقف إطلاق النار. فمن خلال استباق الجدول الزمني للانتخابات، ينوي الأسد على الأرجح تسخير المعارضة السورية من خلال وضع يده على عملية “الانتقال السياسي” التي تم التعريف عنها للأسف بعبارات غامضة في قرار مجلس الأمن رقم 2254.
أما بالنسبة إلى الانتخابات نفسها، فستُجرى بالطريقة المتشددة المعتادة. فالبرغم من أن حزب البعث لم يعد من الناحية التقنية الفصيل الحاكم بموجب دستور 2012، يمكن توقع الطرق والنتائج الانتخابية. وستشارك فصائل المعارضة المدعومة من قبل روسيا على الأرجح في الاقتراع، في حين أن الفصائل المدعومة من قبل المملكة العربية السعودية سترفض بلا شك المشاركة.
ويبقى العامل المجهول الكبير ما إذا كان «حزب الاتحاد الديمقراطي» سيشارك في الانتخابات. ففي عام 2014، منع الحزب الكردي حصول اقتراع رئاسي على أراضيه، ولكنه قد لا يفرض مثل هذا الحظر على الانتخابات البرلمانية. غير أن دمشق قد تمنع «حزب الاتحاد الديمقراطي» من المشاركة في الانتخابات لسبب آخر: بما أن الحزب متواجد في ثلاث محافظات سورية فقط، فهو لا يلبي المعايير الدستورية للانضمام إلى البرلمان. وبالرغم من ذلك، من مصلحة الأسد أن يتيح التمثيل الوطني للأكراد إذا ما أراد تعزيز شرعيته، لذلك قد يحاول إقامة “حكومة وحدة وطنية” معهم تلبّي المتطلبات الغامضة التي وضعتها الأمم المتحدة [فيما يتعلق بالعملية الانتقالية].
خيار الغرب
بعد مضي خمس سنوات على اندلاع الحرب السورية والكارثة الإنسانية الناتجة عنها وإقامة معقل جهادي على أبواب أوروبا، يجد القادة الغربيون أنفسهم أمام خيارين: إما قبول ما تقدّمه موسكو (مع جميع السلبيات المحتملة المفصّلة أعلاه)، أو التمسك بالهدف الذي يزداد صعوبة وهو الانتقال السياسي المشروط برحيل الأسد. فلدى هؤلاء القادة مخاوف مبررة إزاء التهديدات الإرهابية المحلية والتدفق المستمر للاجئين، ولكن إذا ما قبلوا التداعيات الظاهرة لوقف إطلاق النار، فإن تركيا، التي هي ربما أهم داعم للمعارضة، ستجد نفسها عندئذٍ معزولة ومرغمة على الحد من دعمها للثوار. وفي هذا الصدد، يبقى ملايين اللاجئين الذين أنتجهم الصراع أفضل وسيلة ضغط يمكن أن يستخدمها بوتين لإرغام أعداء الأسد على وقف الأعمال العدائية.
فابريس بالونش
معهد واشنطن