الأستاذ الدكتور غادة عامر
استاذ هندسة الطاقة وزميل أكاديمية ناصر العسكرية
تبدأ الخلافات حول جائزة نوبل السلام بدءا من الخلاف على المؤسس نفسه، حيث أن مؤسسها هو ألفريد نوبل، الكيميائي ورجل الأعمال السويدي الذي ابتكر الديناميت في عام 1867، وذهب بعد ثماني سنوات لتسجيل براءة اختراع أخرى لنوع جديد من المتفجرات، والتي أصبحت ابتكاراته تستخدم على نطاق واسع من قبل كل من الجيوش والإرهابيين، والأهم أنه كان يملك شركة الأسلحة “Bofors” بوفورس، التي لعبت دورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل منتجات الحديد والصلب إلى مصانع للمدافع والمواد الكيميائية التي تستخدم في الأسلحة، وقد اتجه نوبل لعمل جائزة للسلام بعد أن توفي أخوه “لودفيج”، في عام 1888، وأخطأت إحدى الصحف ونشرت نعيًا تحت عنوان: “تاجر الموت قد مات”، فوهب ثروته لجوائز نوبل التي كانت ولا تزال من بين أغنى الجوائز في العالم.
ربما كان يعتقد نوبل أن هذا من شأنه أن يفعل شيئًا للتكفير عن المذابح الهائلة والدمار الذي تسببت به اختراعاته.
كانت جائزة السلام (وهنا أتكلم عن جائزة نوبل للسلام تحديدا وليس جوائز نوبل الأخرى في الفيزياء، والكيمياء، الأدب، والطب أو علم وظائف الأعضاء)، كما هو منصوص عليها في وصية نوبل الأخيرة، الموقعة في عام 1895، تُمنح كل عام “للشخص الذي يجب أن يكون قد عمل أفضل عمل للإخاء بين الأمم ولنشر السلام، أو قدم ابتكارا أو فكرة من أجل إلغاء أو تقليص الجيوش والأسلحة”.
لكن.. ما لم يكن يعرفه، ولا يمكن أن يعرفه نوبل، هو أن سباق التسلح الذي كان سيلعب دورًا رئيسيًا في اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914 قد بدأ للتو، وأن من حفز اندلاع تلك الحرب الشركات المصنعة للأسلحة مثل شركة “بوفورس” التي يمتلكها نوبل نفسه! وقد تسبب هذا بالفعل في أول جدل كبير في تاريخ الجائزة.
وبالطبع لم يقف الجدل الي هذا الحد.. فهناك الكثير ممن منحوا الجائزة وهم ابعد ما يكونوا عن السلام، بل في بعض الأحيان قدمت جائزة نوبل للسلام لمجرمي الحرب، فعلى سبيل المثال لا الحصر: كان أول رجل يحصل على الجائزة عام 1906 هو الرئيس الأمريكي “ثيودور روزفلت”، الذي كان في رأي الكثير من الناس لا ينبغي أبدا منحه جائزة للسلام، لأن الجائزة منحت له بحجة عمل روزفلت كوسيط لإنهاء الحرب بين روسيا واليابان في عام 1905، لكنه لم يكن معروفًا حقًا بأنه “رسول سلام”، فقد قاد روزفلت فوج سلاح الفرسان الأمريكي في كوبا، وعندما أصبح رئيسا أظهر تصميمه على رؤية الولايات المتحدة كقوة عظمى تستخدم القوة العسكرية، ولا سيما في منطقة البحر الكاريبي، ولاستخدامه المفرط في استخدام القوة العسكرية وجدت العديد من الصحف الأمريكية أن الجائزة التي منحت له غريبة، وعلقت صحيفة نيويورك تايمز بعدها أن “ابتسامة عريضة أضاءت وجه العالم عندما مُنحت الجائزة لأكثر مواطني الولايات المتحدة حروبًا”.
وفي عام 1912 منحت الجائزة الي “إيليهو روت” الذي شغل منصب وزير الحرب ووزير الخارجية الأمريكية، وكان في وقت لاحق عضوا في مجلس الشيوخ وأول رئيس لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، الذي تم التحقيق معه من قبل لجنة في مجلس الشيوخ الأمريكي للإشراف على القمع الوحشي لحركة الاستقلال الفلبينية.
في عام 1973، حصل وزير الخارجية الأمريكي “هنري كيسنجر” على الجائزة لدوره في التفاوض على اتفاقات باريس للسلام، التي أنهت حرب فيتنام رسميًا، إلى جانب نظيره الفيتنامي “لو دوك ثو”، لكن ثو رفض الجائزة، مشيرًا إلى أن الاتفاقات لم تنهي بعد عملية القتل، بل أن القتال استمر لمدة عامين آخرين بعد حصول كيسنجر على الجائزة حتى النصر النهائي للفيتناميين الشماليين، حتى أن كيسنجر قرر عدم حضور الحفل وتبرع بأموال الجائزة للجمعيات الخيرية.
وقبلها كانت يدي كيسنجر ملطخة بالدماء لأنه كان المهندس لحملة قصف ضد خطوط إمداد المتمردين في كمبوديا التي تسببت في فقدان ما بين 40،000 و100،000 من الكمبوديين، حتى انه استقال اثنان من أعضاء لجنة نوبل احتجاجا على حصول كيسنجر على الجائزة.
وفي عام 1991 حصلت “أونغ سان سو كي” عن نضالها اللا عنفي من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي متورطة في جريمة الإبادة الجماعية ضد مسلمي الروهينجا في ميانمار!
كما أن “شمعون بيريز” حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1994 مع اسحاق رابين وياسر عرفات، وكان بيريز قبلها قد قام بشكل منهجي في تعزيز القدرات النووية لإسرائيل – وهو أمر يتعارض تمامًا مع اشتراط اللجنة بأن الجائزة يجب أن تذهب إلى من يساعدون في تجريد بلادهم من السلاح، فما بالكم بالسلاح النووي.
والأكثر من ذلك، بعد عامين من الجائزة، كان بيريز مسؤولاً عن مذبحة أسفرت عن مقتل 106 أشخاص في بلدة قانا اللبنانية!
في حين أن هذه الأمثلة من أكثر الأمثلة فظاظة، هناك العديد من الفائزين الآخرين في مجال السلام الذين كانوا خيارات مشكوك فيها للغاية، بما في ذلك باراك أوباما، والزعيم الكولومبي خوان مانويل سانتوس، وتوكل كرمان التي باعت وطنها… وغيرهم.
وفي يوم الجمعة الماضية أعلن فوز رئيس الوزراء الأثيوبي “أبي أحمد” بجائزة نوبل للسلام، لتحقيقه السلام مع إريتريا، والغريب في الأمر أنه لم يتم منح الجائزة إلى الرئيس الإريتري “إسياس أفورقي”، شريك أبي في المحادثات، مع أن المتعارف عليه في السنوات الماضية، أنه يتم منح الجائزة لجميع الأطراف التي اشتركت في عملية السلام، لكن قرار منح جائزة نوبل للسلام لعام 2019 لأبي أحمد فقط كان مفاجئًا، حتى أن رئيس لجنة نوبل بيريت ريس أندرس قال “إن السلام لا ينشأ عن تصرفات طرف واحد”!. والأغرب انه وعلى الرغم من هذا الاتفاق لإنهاء الصراع بين البلدين الذي منح أبي الجائزة عنه تم العام الماضي، إلا أنه من الناحية العملية، لم يتم تنفيذه إلى حد كبير، ولم تكن هناك فوائد تذكر للإريتريين.
فهل منحت الجائزة له فعلا عن عملية السلام مع أريتريا؟ أم لما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي “نيتنياهو” عن أبي أحمد في آخر لقاء معه “أعتقد أن التزام أبي أحمد بالمساعدة يفتح لنا الفرص التي لم تكن لدينا من قبل”؟!
في الواقع، أصبحت جائزة نوبل للسلام ملوثة لدرجة أن بعض نشطاء السلام يرفضون الارتباط بها، مثلا اليهودي “مردخاي فعنونو” التقني النووي الإسرائيلي الذي أمضى 18 عامًا في السجن بسبب تسريب تفاصيل البرنامج النووي الإسرائيلي، الذي طلب مرارًا حذف اسمه من قائمة المرشحين لجائزة نوبل للسلام، في رسالة إلى لجنة نوبل في عام 2009 ، قال إنه لا يريد “الانتماء إلى قائمة الفائزين بمن فيهم شمعون بيريز، الرجل الذي يقف وراء السياسة الذرية الإسرائيلية”.