خلفيات الموقف الأميركي في سوريا

خلفيات الموقف الأميركي في سوريا

الموقف الامريكي من الازمة السورية

ثلاثة عوامل شكلت الموقف الأميركي من الصراع في سورياوعليها، أولها توجس وقلق أميركي من الفكر السلفي السني ومخرجاته، في ضوء تكاثر الحركات “الجهادية” وقيام بعضها بعمليات إرهابية في جهات العالم الأربع. 

فمعظم خسائر أميركا خلال احتلالها للعراق وقفت خلفها حركات “جهادية” سنية، خاصة مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وممارساته الوحشية، وهو ما أحدث تحولات عميقة في الوعي الأميركي للمنطقة، وتغيرا في نمط التعاطي الأميركي معها.

ثانيها التكلفة المالية والاقتصادية لمغامرات جورج بوش الابن في أفغانستان والعراق التي قدرت بـ 3 تريليون دولار، وهو ما انعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية الأميركية ودخول الاقتصاد الأميركي في أزمة تضخم وانكماش غير مزاج الرأي العام الأميركي من التدخلات الخارجية ولعب دور شرطي عالمي.

وثالثها حاجة أميركا إلى تهدئة سياسية وأمنية في منطقة الشرق الأوسط، حيث إسرائيل ومنابع النفط، كي تستطيع التخفيف من أعبائها للتفرغ لملفات إقليمية ودولية ومواجهة تحديات وأخطار تمس مصالحها ومصالح حلفائها في مناطق أخرى.

رؤية ستيفن والت
على هذه الخلفية تبنت الإدارة الأميركية الحالية تصورا طرحه البروفسور ستيفن والت،‮ أستاذ في جامعة هارفارد‮ ‬حول السياسة الأميركية تجاه المنطقة، يقوم على أن الشرق الأوسط يعيش في أتون ثورة عميقة،‮ ‬لا يزال مستقبلها‮ ‬غير محدد، تتخللها صراعات عديدة، كالسنة ضد الشيعة، والعرب ضد الفرس، والعلمانية ضد الإسلام، والديمقراطيين ضد السلطويين‮.. ‬إلخ‮. ‬

تبنت الإدارة الأميركية تصورا طرحه ستيفن والت،‮  يقوم على أن الشرق الأوسط يعيش في أتون ثورة عميقة،‮ ‬لا يزال مستقبلها‮ ‬غير محدد، تتخللها صراعات عديدة، كالسنة ضد الشيعة، والعرب ضد الفرس، والعلمانية ضد الإسلام، والديمقراطيين ضد السلطويين‮.. ‬إلخ

وفي إطار هذا الموقف المتشابك وغير الواضح، فإن الإستراتيجية الأفضل للولايات المتحدة في المنطقة يجب أن تقوم على تقليص وجودها فيها، وإنشاء نظام لتوازن القوة بين القوى الإقليمية‮. ‬

وذكّر والت بانتهاج الولايات المتحدة لهذه السياسة في الفترة من‮ ‬1945‮ ‬إلى‮ ‬1990،‮ ‬حيث لعبت دور الموازن أو المعادل الخارجي في الإقليم وكانت لها روابط أمنية قوية،‮ ‬ومصالح إستراتيجية واضحة في العديد من الدول‮. ‬وكان هدفها الأساسي هو منع أي دولة من السيطرة على الأقاليم،‮ ‬وعلى تدفق البترول، معتمدة في ذلك على تحالفات محلية، بينما ادخرت قواتها‮ ‬المسلحة‮ ‬خارج الإقليم‮ ‬من أجل التدخل عند الضرورة.

‬وأشار إلى تخلي الولايات المتحدة عن هذه الإستراتيجية الناجحة عام‮ ‬1991،‮ ‬بتبنيها إستراتيجية‮ “‬الاحتواء المزدوج‮”، فبدلا من استخدام العراق وإيران في موازنة بعضهما بعضا‮ ‬أخذت واشنطن على عاتقها مهمة احتوائهما معا‮.‬ ثم زادت إدارة جورج بوش الابن الطين بلة بتبنيها إستراتيجية التحول الإقليمي وتغيير النظم،‮ ‬التي قادت مباشرة إلى كوارث في أفغانستان والعراق، وساعدت على تغذية الإرهاب وانتشاره في بقاع الأرض‮.

ورأى والت أن الحل الأفضل للولايات المتحدة هو العودة إلى إستراتيجيتها السابقة القائمة على توازن القوى وإنشاء نظام جديد لتوازن القوى في الشرق الأوسط عبر الانفتاح على إيران‮ ‬وتطبيع العلاقات معها.

مغازلة إيران
بدأت إدارة أوباما في ضوء هذا التوجه بمغازلة إيران (رسائل إلى الشعب الإيراني بمناسبة عيد النيروز، مديح للدور الحضاري والثقافي الإيراني، مديح للعقل الإيراني العملي والإستراتيجي) لإغوائها واستدراجها للدخول في مفاوضات حول برنامجها النووي كمدخل لرفع العقوبات وتطبيع علاقاتها بالغرب وعودتها إلى المجتمع الدولي، على أمل أن يؤدي هذا الاتفاق والانفتاح إلى تهيئة الظروف لإقامة توازن جيوسياسي جديد في الإقليم قائم على دعامتين: دعامة سنية (السعودية) ودعامة شيعية (إيران) يتيح لواشنطن التفرغ لمواجهة تحديات أخرى في أقاليم أخرى (الصين في الشرق الأقصى، وروسيا في شرق أوروبا)، وقد دخلت في مفاوضات سرية مع إيران في سلطنة عُمان قبل انطلاق مفاوضات 5+1 التي نجحت في عقد الاتفاق النووي.

لم يمر السيناريو الأميركي بسهولة، فقد واجهته عقبات كبيرة بسبب الانقسام الداخلي الإيراني بين تيار تصدير الثورة (يوصف بالمتشدد) وتيار الدولة (يوصف بالإصلاحي) فمراهنة الإدارة الأميركية على تيار الدولة وعلى نجاحه في الإمساك بمفاصل السلطة في طهران، كنتيجة لعقد الاتفاق النووي معه، ودفعه للعب دور في توازن جيوسياسي جديد في الإقليم في مواجهة دول الخليج العربية وتركيا، كل ذلك دفع الإدارة الأميركية إلى الإصرار على توقيع الاتفاق النووي.

كما سعت أيضا في الوقت ذاته إلى امتصاص ردود أفعال تيار تصدير الثورة بغض الطرف عن تحركات إيران ونشاطاتها التخريبية في دول الإقليم، ودورها في عدم الاستقرار الذي شهدته دوله، لكن دون كبير نجاح حيث بقي تيار تصدير الثورة الذي لا يناسب مصالحه حصول انفراج مع الغرب وعودة الدول الغربية إلى إيران “لاختراقها وحرف الثورة الإسلامية عن مسارها ورسالتها”، يقاوم الدخول في المفاوضات، وصعد من تدخلاته في دول الجوار، وحرض ضد التفاهم مع الولايات المتحدة، وأطلق رموزه تصريحات عن بعث الإمبراطورية الفارسية وسيطرة إيران على أربعة عواصم عربية، لاستمالة الرأي العام الإيراني عبر تجيير انتصارات إيران وتحولها إلى قوة عظمى إقليمية، وقدرتها على مجابهة دول “الاستكبار”، في مواجهة التيار الثاني الذي يدعو إلى عقد اتفاق حول البرنامج النووي لرفع العقوبات وإنهاض الاقتصاد الإيراني وتطوير قدرات إيران العلمية والصناعية والإنتاجية، وحل مشكلات الفقر والبطالة والتضخم وتلبية طموحات الشعب الإيراني، واعتماد سياسة التأثير في المحيط عن طريق القوة الناعمة.

رأى تيار تصدير الثورة في انتصار الثورة السورية انهيارا لكل انتصاراته السابقة، في سوريا ولبنان والعراق واليمن، وتهديدا لصدقيته لدى الشعب الإيراني وإجهاضا لدوره في تحديد سياسة إيران ونظامها السياسي، فوظف إمكانيات الدولة الإيرانية والحرس الثوري وخاصة فيلقالقدس بقيادة الجنرال قاسم سليماني، وأرسل المستشارين العسكريين والفنيين في مجال الاتصالات، والسلاح والذخيرة ورصد اعتمادات مالية ضخمة لتأمين احتياجات النظام السوري وتغطية قيمة وارداته، وحرك أذرعه الطائفية (حزب الله اللبناني ولواء أبي الفضل العباسوعصائب أهل الحق ومنظمة بدر وكتائب حزب الله الشيعية العراقية بداية، ومتطوعين شيعة أفغانا وباكستانيين تاليا) للقتال إلى جانب النظام السوري.

توازن جيوسياسي
استثمرت الإدارة الأميركية الموقف بأن منحت تيار تصدير الثورة ساحة يستعرض فيها بطولاته ويروج فيها لمشروعه كي لا يعرقل مفاوضاتها مع الحكومة من جهة، وكي تستنزف إيران أكثر، ويشعر قادة تيار تصدير الثورة بأهمية الاتفاق للتخلص من نظام العقوبات واستعادة الأموال المجمدة لصرفها على مشروعه “الثوري” من جهة ثانية.

سيتيح التركيز الأميركي على الشرق الأقصى -لمواجهة التمدد الصيني، وشرق أوروبا للحد من تنمر القيصر وتهديده لدول البلطيق والاتحاد الأوروبي– للدول الإقليمية الكبيرة لعب دور أكبر في الشرق الأوسط وقضم نفوذ أميركا والإضرار بمصالحها فيه

وقد وظفت أميركا موقفها هذا في خدمة إقامة توازن جيوسياسي جديد عن طريق تشجيع المعارضة السورية على التصدي للنظام عبر الإعلان عن فقدانه للشرعية والمطالبة برحيله من جهة وغض الطرف عن قيام السعودية وقطر وتركيا بدعم المعارضة بالسلاح والمال من جهة ثانية لمواجهة التدخل الإيراني في سوريا، كما صمتت على التدخل العسكري الروسي لأنه -وهو ينقذ النظام وحليفته إيران من هزيمة محققة بعد أن نجحت المعارضة بالوصول إلى تخوم الساحل حيث عصبية النظام وحاضنته- أنقذ تصورها للحل.

فقد تبنت حلا للصراع في سوريا وعليها قائما على رفض التدخل العسكري المباشر فيه، لأن مشاركتها ستعني تحقيق انتصار عسكري لصالح الثورة السورية وحلفائها ما يخل بهدفها إقامة توازن جيوسياسي في المنطقة، وأيضا على رفض الحل العسكري والترويج لحل بالتراضي بين النظام والمعارضة على قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” كي تفسح المجال لكل من إيران والسعودية بأخذ حصة وازنة في النظام السوري الجديد.

وبذلك تكون قد حققت خطوة ثانية على طريق إقامة التوازن الجيوسياسي الجديد، حيث سبق لها أن حققت خطوة أولى بتسليم العراق للتنظيمات الشيعية وتحويله إلى عراق شيعي، كجزء من معادلة التوازن المطلوب بين السنة والشيعة، وحمت النظام الشيعي في العراق، لأن انتصار الثورة السورية سيؤثر على العراق دون أدنى شك ويمنح السنة هناك فرصة لاستعادة حقوقهم التي تغول عليها النظام الطائفي، وأخذ حصة مناسبة في النظام القائم.

سيتيح التركيز الأميركي على الشرق الأقصى -لمواجهة التمدد الصيني، وشرق أوروبا للحد من تنمر القيصر وتهديده لدول البلطيق والاتحاد الأوروبي- للدول الإقليمية الكبيرة لعب دور أكبر في الشرق الأوسط وقضم نفوذ أميركا والإضرار بمصالحها فيه، وهو ما سيجعل التوازن السني الشيعي حلا مناسبا لإشغال المنطقة بصراعاتها الخاصة، وتلك حالة ستدفعها إلى الحرص على استرضاء الولايات المتحدة وخطب ودها والعمل على كسب تأييدها ودعمها عبر المحافظة على مصالحها ونفوذها في الإقليم.

علي العبدالله
الجزيرة