عندما طُلب إليه أن يصف الشكل الحالي للشرق الأوسط، استخدم مسؤول إسرائيلي زائر التعبير العبري “غام فيغام”، والتي يُترجم إلى شيء من قبيل “إنه يركض في اتجاهين في الوقت نفسه”.
وما تزال شظايا الفسيفساء الشرق أوسطية حادة وخطيرة كما هو حالها دائماً، لكن المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين والعرب يقولون إنه أعيد ترتيب تلك القطع خلال السنوات القليلة الأخيرة –وأنها أصبحت الآن تتراكب معاً بطرق مختلفة ومدهشة في غالب الأحيان. وهناك القليل من الفرص لأن يكون المراقبون قد توقعوا هذه المخاطر الجديدة أو عرفوا عنها أيضاً. وغالباً ما يُنظر إلى الرئيس أوباما أنه بطة عرجاء، تحجل مبتعدة عن مسرح الشرق الأوسط خلال الأشهر العشرة الأخيرة المتبقية من رئاسته. لكن سرعة الخطوات وإيقاعها يُرجح إلى حد كبير أن تكون من وضع وزير الخارجية جون كيري، وهو رجل ما يزال لديه شيء ليثبته كدبلوماسي.
مهما يكن ما ستكشف عنه الأشهر المقبلة، فإن سنة 2016 سوف تشكل خيارات الرئيس الأميركي المقبل. وقد فعل أوباما المغادر، الذي كان يأمل في تغيير التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ذلك جزئياً –حيث شجع الآخرين على القيام بأدوار عسكرية أكبر في المنطقة،- -سواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ- لكنه حافظ على أهمية الدبلوماسية الأميركية.
ولكن، ما هي قطع الأحجية جديدة؟ أولاً، هناك سورية التي يمكن القول بأن تشكل فشل أوباما الأكبر في السياسة الخارجية. وعلى الرغم من وجود جوقة من الرافضين، نجح كيري في إقناع مختلف الخصوم في سورية -روسيا وإيران وتركيا والمملكة العربية السعودية والأردن ونظام بشار الأسد، والمعارضة السورية المنقسمة- بالقدوم إلى داخل نفس خيمة للعمل على وضع تفاصيل اتفاق لوقف إطلاق النار.
تبقى هذه العملية الدبلوماسية هشة، ومعتمدة على حسن نية الروس وغيرهم ممن عرضوا في الماضي المصلحة الذاتية الصرفة فحسب. ولكنها ليست لا شيء أيضاً. فوفقاً لتقديرات وزارة الخارجية، فإن قوافل الإغاثة وصلت إلى 225.000 من السوريين اليائسين في الأسابيع القليلة الماضية؛ والهدف النهائي هو تقديم مساعدات لنحو 1.7 مليون إنسان بحلول نهاية آذار (مارس).
تستدعي عملية وقف إطلاق النار بهذه الكيفيات حدوث انتهاكات، لأن العديد من جماعات الثوار التي تزيد على 100، والتي وافقت على الهدنة، تعسكر جنباً إلى جنب مع المقاتلين المستبعدين من مجموعتي “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة”. ويصف مسؤولو وزارة الخارجية هذا الموقع المشترك الذي تعمل فيه المجموعات بأنه مبقع ومختلط، ويتوقع أن يستغرق الأمر بضعة أسابيع حتى يُصوِّت المقاتلون بأقدامهم على أي من جانبي الخط سيكونون. وسوف يعمل هذا الفرز فقط إذا ظهر مؤشر على نوع ما من التقدم نحو انتقال سياسي في نهاية المطاف، بعيدا عن الأسد.
تشكل إيران ثاني قطع الأحجية، والتي تبدو مختلفة عن معظم ما كان يمكن توقعه إزاءها منذ بضع سنوات. وقد تبين أن رهان أوباما على أن بإمكان ائتلاف عقوبات عالمي أن يضغط على إيران لتوقيع صفقة نووية ذات معنى، كان رهاناً صحيحاً. والأكثر من ذلك، يبدو أمله في أن يؤدي انفتاح إيران إلى تعزيز القوى البراغماتية هناك أيضاً قد أثمر في انتخابات يوم الجمعة قبل الماضية.
ويقول مسؤولو وزارة الخارجية أن من المستحيل الآن حساب ما سيكون عليه شكل التوازن السياسي بالضبط في البرلمان الجديد أو في مجموعة مجلس الخبراء التي ستختار الزعيم القادم لإيران. لكن من الواضح أن المتشددين قد ضعفوا، وأن موقف الرئيس حسن روحاني أصبح أقوى. وكانت تلك أكبر مقامرة استراتيجية لأوباما؛ ويبدو أنها تؤتي ثمارها.
كما أن العربية السعودية تغير شكلها أيضاً. مَن كان ليتوقع قبل بضع سنوات فقط أن الشخصية الحاسمة في هذه الملكية شديدة المحافظة يمكن أن تكون شاباً عنيداً بعمر 30 عاماً، والذي يبدو أن هدفه هو تحقيق نسخة سعودية من الإمارات العربية المتحدة، ميالة إلى التحديث ومتسامحة نسبياً؟
لكن هذا هو ما يحدث الآن تحت قيادة نائب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
كان السعودي الشاب في بعض الأحيان جريئاً أكثر من كونه حكيماً، كما هو الحال مع حربه في اليمن، وقراره قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وجهده الجديد لزعزعة استقرار لبنان يسيطر عليه حزب الله. لكن دوره كعامل تغيير واضح تماماً. ويقول عادل الطُريفي، وزير الإعلام السعودي، وهو نفسه في السادسة والثلاثين من العمر، أثناء زيارة له في واشنطن الأسبوع الماضي، أنه “يريد إحداث انتقالة في العربية السعودية بسرعة كبيرة”.
أما قطعة أحجية الشرق الأوسط التي يبدو أنها الأكثر إرباكاً الآن فهي تركيا، التي كانت قبل عقد واحد فقط أكثر البقاع إشراقاً في المنطقة. وقد أدت ألعاب السلطة التي يمارسها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تمزيق ما كان ذات مرة مصالحة إيجابية مع الأكراد، وإلى تقويض الديمقراطية التركية. وقد أفضى عمل تركيا بالتزامن إلى تدهور علاقاتها مع روسيا، وإسرائيل، وإيران والولايات المتحدة –يا له من عمل فذ! ويخشى مراقبو الشأن التركي المخضرمون من تصاعد الفوضى الداخلية هناك.
بينما كانت الولايات المتحدة تتراجع من الشرق الأوسط خلال فترة رئاسة أوباما، تقدمت كل من روسيا وإيران و”الدولة الإسلامية” والعربية السعودية إلى الأمام. وجلب ذلك في ركابه العديد من الأخطار الجديدة. ولكن، حتى لو أن هيمنة الجيش الأميركي تضاءلت، فإن دور الولايات المتحدة الدبلوماسي في المنطقة ما يزال حاسماً –كما تُظهر المحادثات السورية والإيرانية.
ربما تنطوي عملية تجميع قطع الأحجية التي تشوهت وتغيرت معالمها معاً على العديد من المخاطر، لكنها تعرض بعض الانفراجات أيضاً. ومن الواضح أن الولايات المتحدة تبقى، حتى مع دورها المتقلص، قوة الاستقرار التي لا غنى عنها في المنطقة، سواء شئنا ذلك أم أبيناه.
علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية