يدفع الأكراد في سوريا ثمن ما يدفعه الأكراد في كل المنطقة بعد أن تجاهلتهم اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة. أنشأت الدولتان العظميان، فرنسا وبريطانيا، بالتواطؤ مع روسيا القيصرية، كيانات المنطقة ورسمت الحدود بينها، دون أن تلحظ دولة للقومية الكردية. فكان أن توزّع ملايين الأكراد داخل سوريا والعراق وتركيا وإيران، وألصقت بهم هويّات الدول الأربع، وبالتّالي عاشوا تجارب أربعا، تتفاوت تفاصيلها وتتباين سياقاتها.
لا يعتبر الأكراد أنفسهم شتاتا يفترش بسيطة داخل أربعة كيانات، ذلك أنهم يعيشون فوق ما يعتبرونه أرضهم التاريخية الموروثة، دون أن يكون لهم الحق في أن يعيشوا كيانية كردية خالصة بالمعنى القومي وتفاصيله الإثنولوجية.
ولئن بقيت القضية الكردية بارزة نافرة في تركيا، مصطدمة مع الدولة المركزية في أنقرة، خَبِرَ الأكراد تجارب أخرى في إيران والعراق وسوريا، حاولت صهرهم وفق مشاريع أيديولوجية ساقها القوميون العرب في دمشق وبغداد، وسعت الشهنشاهية انتهاء بدولة الولي الفقيه في إيران إلى التبشير بها.
وفي محصلة تلك التجارب، كان واضحا أن دولة المواطنة كانت غائبة، بحيث لم يشعر الأكراد بأن باستطاعتهم أن يعيشوا كمواطنين “عاديين”، داخل دول تتعدد في حواشيها الثقافات والقوميات، فراحوا يرفعون لواء هويتهم بيرقا للوجود وبوصلة للمستقبل.
لعب الأكراد في سوريا دورا مفصليا من ضمن نضالات الشعب السوري لنيل الاستقلال. ويذكر التاريخ صدامات دموية بين الأكراد والاحتلال الفرنسي، كما برزت أسماء كبرى في تأسيس تاريخ سوريا الحديث، كيوسف العظمة، الكردي، وزير الحربية السوري في مواجهته للحملة الفرنسية.
ثم أن أحد القادة الثلاثة للثورة السورية الكبرى (1925) كان إبراهيم هنانو، الكردي، قائد ثورة جبال الزاوية إلى جانب الشيخ صالح العلي وسلطان باشا الأطرش. لكن النظم السياسية في سوريا ما بعد الاستقلال أهملت المكوّن الكردي، وراحت تتعامل معه في فترات لاحقة كجزء لا يتّسق مع العروبة، يجوز بشأنه إعمال إجراءات التعريب والصهر القهري.
منع الأكراد في سوريا من التعبير عن هويتهم وثقافتهم الكردية لحساب الهوية العربية لسوريا. ومنعت القوانين تعليمَ اللغة الكردية والاعترافَ بها لغة تعامل إدارية، في المناطق الكردية على الأقل. وجرى تعريب أسماء القرى والمدن، فتحوّلت مدينة ديريك إلى المالكية، ومدينة تربه سبيي إلى القحطانية، وبلدة جل آغا إلى الجوادية، ومدينة سري كانيي إلى رأس العين.. إلخ.
الأكراد والمعارضة
تاريخيا نشط الأكراد داخل أحزاب كردية، منذ نشوء أول حزب تحت مسمّى جمعية خويبون (الاستقلال) في نهاية العشرينات. ومن ثم راجت الحركات الحزبية الكردية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن شريحة كبيرة من الأكراد في سوريا لم تكن تهتمّ بالنضال وفق الخصوصية الكردية، بل الانصهار الكامل داخل نشاطات الشعب السوري الوطنية. وقد راج في هذا الإطار الانخراط في صفوف الحزب الشيوعي السوري، لا سيما وأن وجود خالد بكداش، الكردي، على رأس الحزب كان يشجع على ذلك، وقد لعب الحزب، فيما بعد، دورا هاما بين الجماهير الكردية.
نشط الأكراد بقوة داخل الحركات المعارضة التي ما انفكت تطالب منذ الاستقلال بالإصلاح حينا ومواجهة الاستبداد حينا آخر، لكن الانتفاضات الكردية، لا سيما تلك التي اندلعت في القامشلي عام 2004، لم تكن تلقى صدى وطنيا عاما لدى بقية السوريين، ولطالما اعتبر ذلك معركة هامشية محلية لا تمثل وجدانا عاما.
ربما هذه الخلفية هي التي تقف وراء سكينة الأكراد وتأخرهم عن الالتحاق بانتفاضة المعارضة السورية عام 2011. خشي الأكراد من أن يدفعوا وحدهم، كالعادة، ثمن معاندة النظام في دمشق، ولم يروا بسهولة اتّساق طموحاتهم القومية مع هوية وشعارات المنتفضين في عموم سوريا.
بيد أن تعدد الحالة الكردية بين أمزجة وتيارات وأحزاب عكس اختلاف المقاربات التي صدرت عن الأكراد في سوريا، بين من يريد للحراك الكردي أن يكون جزءا من الحراك الوطني السوري، وبين من يرى في الأمر مناسبة لتحسين شروط الشراكة داخل سوريا المقبلة، وبين من اشتم من الأمر إمكانات تمرير قيام كيان مستقل يرضى بالحكم الذاتي إذا تعذّر الاستقلال الكامل.
ولا شك أن ظروفا موضوعية مصدرها حيرة المعارضة السورية، رفعت من أسهم الميول الانفصالية التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة صالح مسلم، ذلك أن تلك المعارضة، ومنذ تشكيلاتها الأولى، لم تستطع تقديم مشروع سياسي يأخذ في الاعتبار هواجس الأكراد، ابتداء من تغيير اسم البلد إلى الجمهورية السورية بدل الجمهورية العربية السورية، انتهاء بموقع الأكراد المقبل في مسألة الشراكة في الثروة والسلطة.
الأكراد ودمشق
تعامل نظام دمشق مع الأحزاب الكردية تعاملا عدائيا وعمل على مواجهة الحركة السياسية الكردية من خلال القمع غالبا، ومن خلال السهر على تفتيت أحزابها وتفتيت كياناتها. وكان من السهل على أجهزة الأمن السورية مقاربة الحالة الكردية وسهولة معالجة تمرّدها، ذلك أنها بقيت معزولة عن أيّ حراك لدى السوريين العرب، وبالتالي لم يكن للحراك الكردي مفاعيل عدوى مقلقة. بيد أن ما أقلق العقل الأمني في دمشق، هو مفاعيل العدوى التي انطلقت منذ المظاهرات الأولى في درعا عام 2011، فراح يقارب الحالة الكردية على نحو تمييزي لافت.
أصدرت دمشق سلسلة تشريعات لاستمالة الأكراد، لا سيما أولئك الذين حرموا من الجنسية السورية. حيّد النظام السوري المناطق الكردية عن بقية ميادين الحراك السوري، وراح يسمح للحالة الكردية بالتسلّح والتمتّع بإدارة ذاتية، ووفّر انسحاب قوات دمشق ومراكزها الأمنية من كثير من تلك المناطق إمكانية هيمنة قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) على تلك المناطق، لا سيما أن الحزب يتمتع بعلاقات قريبة تاريخيا مع نظام دمشق، وهو امتداد لحزب العمال الكردستاني في تركيا (PKK) الذي لطالما لقي قائده التاريخي أوجلان رعاية من هذا النظام.
وكان لبروز داعش دور مرجّح لـ “شرعية” الحراك الكردي الانفصالي في سوريا، ما يطرح، كالمعتاد، أسئلة حول أجندة هذا التنظيم وهوية المستفيدين الحقيقيين من أنشطته، بحيث حظي ما بات يعرف بوحدات حماية الشعب وبقوات سوريا الديمقراطية ذات الهيمنة الكردية المطعمة بوحدات من قوميات أخرى، بما فيها العربية، بدعم دولي لافت تتقاطع داخله روسيا والولايات المتحدة.
يؤكد المعارض السوري الكردي، فؤاد عليكو، العضو في المجلس الوطني الكردي السوري، والائتلاف الوطني السوري، تعاون حزب الاتحاد الديمقراطي مع النظام السوري، منذ اليوم الأول للأزمة السورية.
حيرة المعارضة السورية رفعت من أسهم الميول الانفصالية لدى الأكراد
وينفي نواف خليل، مدير المركز الكردي للدراسات، في حديث لـ”العرب”، هذه التهمة قائلا “البعض لا يعلم بأن حزب الاتحاد الديمقراطي هو من مؤسسي ‘هيئة التنسيق الوطنية’ وهي طرف أساسي من معارضة الداخل، وأن الرئيس المشترك للحزب صالح مسلم هو نائب لرئيس الهيئة، وهذه الهيئة تشارك الآن في اللجنة العليا للمفاوضات، لكن تركيا نجحت في استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي من المشاركة في المفاوضات، وهو ما أدى بالحزب إلى تجميد عضويته داخل أطر الهيئة”.
ويضيف خليل “لسنوات خلت كانت المعارضة تتهم هيئة التنسيق بأنها مرتبطة بالنظام لأنها ترفض التسليح والطائفية والتدخل الخارجي، ولكن الآن نجد هذه الهيئة ممثلة في وفد التفاوض إلى جنيف، والذي يهيمن عليه الائتلاف، وكل الكلام السابق عن هيئة التنسيق وكل التخوين ذهب أدراج الرياح. كانت افتراءات لم تختلف كثيرا عن افتراءات النظام بحق المدنيين المتظاهرين بداية الأحداث”.
لا يرى بشار العيسى، وهو سياسي سوري مستقل (كردي)، في حديثة لـ”العرب” الأمر من منظار قومي كردي، بل من منظور وطني عام يضع الأكراد في قلب المشروع الوطني السوري، داعيا إلى “إقامة دولة بمسمى ‘الجمهورية السورية’، دولة ديمقراطية تحل محلَّ دولة الاستبداد والقهر والظلم، دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع، دولة مكونات الشعب السوري، يتساوى فيها العربي بالكردي والمسلم بالمسيحي، يقودها ممثلون حكماء للشعب السوري بكل مكوناته وثقافاته العرقية والدينية المنتخبين في دولة توحدها قيم الحرية والعدالة والمساواة”.
لا يجاهر حزب الاتحاد الديمقراطي بالدعوة للانفصال، لكن لسان حاله والوقائع التي أنجزها على الأرض لا تخفي هذه الميول. يقول نواف خليل القريب من حزب الاتحاد الديمقراطي “إن للحزب مقاربة مختلفة، تقول إن النظام لن يسقط سريعا، وإنه علينا إعداد العدة لسنوات طويلة قادمة، نحافظ فيها على مؤسسات البلد، ونخفض من الشحن الطائفي المصدّر إلينا، ونمنع الإرهابيين الأجانب من التجذّر في مناطقنا. والنقطة الأخرى أن الحزب توصّل كنتاج لقراءته لحقيقة مفادها بأن الكرد وممثليهم، وعلى طول التاريخ المعاصر، خدعوا في كلّ من تركيا وإيران وسوريا، وأن الوعود المؤجّلة التي قدّمت في السابق للكرد وذهبت أدراج الرياح، لا يجب أن تمرر كرديا هذه المرة. لهذا حسم الحزب أمره في التعاون مع أطراف المعارضة التي تعترف بالتعددية والديمقراطية والعلمانية وحقوق الشعب الكردي، وتقبل بضمانها دستوريا، في ظل الوطن السوري الواحد، ودون تدخل من الأطراف الإقليمية. وهذا ما لا يروق لمعارضة إسطنبول تحديدا”.
وقد يذهب جدعان علي، القيادي في حركة الإصلاح الكردي (تشكيل كردي خصم للاتحاد الديمقراطي)، مذهب خليل في توصيف مداخل المسألة لكن الخلاف يكمن في مخارجها؛ فهو يرى، في حديثه لـ”العرب”، أن “الحركة الكردية في سوريا معارضة بشكل طبيعي نظرا لتنكّر الحكومات المتعاقبة في سوريا للاعتراف بالوجود الكردي وبحقوقه القومية المشروعة، حيث وقفت دوما بالضد من طموحه وحرمانه من أبسط الحقوق كالهوية واللغة والتملك والوظائف الكبيرة والبرلمان والجيش”.
عدالة ومواطنة
يكشف جدعان أنه “في بداية الثورة أرسل رأس النظام طيارة خاصة يدعو رؤساء الأحزاب لدمشق، ولكنهم رفضوا الذهاب وفضّلوا انتماءهم للمعارضة وانضمامهم للائتلاف ومطالب الثورة مع مكونات الشعب السوري وإثبات هويتهم الوطنية مع الاحتفاظ بحقّ الخصوصية القومية والتأكيد على سلمية الثورة وعدم عسكرتها خوفا من زيادة الضحايا وامتداد الأيادي الخارجية المسيئة وعدم الجدوى منها”. ويرى جدعان أنه “انطلاقا من كون الحركة الكردية جزء من المعارضة (السورية) فإنها تنظر إلى الدول الداعمة لها بإيجابية بالرغم من النواقص والتفاوت في مواقفها”.
وفي موقف حزب الاتحاد الديمقراطي من الدول الداعمة للمعارضة يرى نواف خليل أنه “لا يمكن وضع تركيا والسعودية وبقية دول الخليج في سلّة واحدة، فمثلا الموقف الإماراتي يلاقي ارتياحا لدى الحزب، وهو ما جعل تركيا تتهم الإمارات بأنها تدعم حزب العمال الكردستاني، أما الموقف السعودي فبعد توقيع الاتفاقيات الأخيرة مع تركيا بات سلبيا، وهو ما يتجلى في الهجوم الذي تقوده قناة ‘العربية’ وغيرها على الحزب. ورغم ذلك أعتقد أن القيادة السعودية ستنأى بنفسها عن الانخراط المجاني في المشروع التركي، فليس للكرد أيّ عداء تجاه السعودية”.
وفي موسم الكلام عن الفيدرالية يبدو خطاب بشار العيسى، وهو أيضا باحث في النقد التاريخي، وحدويا يروم عدالة عامة توفّر عدالة لكل مكوّنات الشعب السوري، ويرى أن ”لكلّ مكوّنات الوطن السوري (عربا وكردا ومسلمين ومسيحيين ونساء ورجالا)، الحقّ المتساوي من السيادة والانتماء بغير استثناء أو تمييز في كامل مؤسسات وتشريعات الجمهورية السورية”.
في هذا السياق يحتفظ الكرد في دولة المواطنة في “الجمهورية السورية” بنفس حقوق وواجبات العرب، “ويعترف لهم بهويتهم وحقوقهم القومية المشروعة، وفق العهود والمواثيق الدولية وشرعة حقوق الانسان: لهم الحقّ بتعلّم لغتهم في مناطقهم، حيث وجدوا كجماعة مكوّنة للوطن السوري، الى جانب اللغة العربية، والكتابة بها ونشر ثقافتهم وإغناء وتطوير آدابهم وتراثهم الذي يغني التراث والثقافة السورية، الحاضنة التاريخية لثقافات الشعوب التي اغتنت بها الحضارة السورية على مرّ التاريخ”.
لكن جدعان علي، وهو ممثل حزبه في إقليم كردستان العراق وعضو ممثلية المجلس الوطني الكردي هناك، لا يرى أملا من دولة مركزية ويرى “أن النظام الفيدرالي هو الشكل الأنسب لسوريا الجديدة، نظرا لعقم النظام المركزي وفشله الذريع″.
يوافق نواف خليل على هذه المسألة، ويعتقد أن “هناك إجماع كردي مطلق حول تبني الفيدرالية لعموم سوريا، وفيدرالية للمناطق الكردية، وهي الحل الأمثل لمنع ترسيخ التقسيم الفعلي الحاصل الآن عبر دويلات ‘داعش’ و’النصرة’ و’جيش الإسلام’ وغيرها. الفيدرالية جعلت الإمارات أقوى من الدول المركزية، والفيدرالية جعلت من ألمانيا التي لم تكن فيها تعددية قومية أقوى وأكثر رسوخا من كل الحكومات المركزية”.
على أن تباين الرؤى داخل الصف الكردي حول مخارج المسألة الكردية في سوريا ينعطف على موقف إقليمي ما برح يكبح أيّ طموحات استقلالية. وربما أن ذلك الموقف هو الذي يقف وراء ما ظهر أنه “تحالف” تركي إيراني لرفض “الفيدرالية” التي أثارتها موسكو كحلّ للمستقبل السوري، ذلك أن في الفيدرالية إرهاصات دولة كردية تكرهها أنقرة ولا تريدها طهران.
صجيفة العرب اللندنية