يَحكم فلاديمير بوتين روسيا، بعقلية المخابرات السوفييتية الهمجية، ويريد استعادة أمجاد روسيا السوفييتية والقيصرية معاً. ولتحقيق أمانيه هذه، لا بد من التمدّد لمنطقتنا. المشكلة أن مسعاه المافياوي هذا توافق مع اندلاع الثورات العربية، وانسحابٍ أميركي من منطقتنا، بدءاً بأبخازيا، وأوكرانيا وقضم القرم، إلى سورية أخيراً. كان الانسحاب الأميركي بغرض مواجهة الصين، العملاق المتقدم اقتصادياً، والذي يفرض شروطه في المحيط الهادي وعالمياً، ومن أجل مواجهته، بنيت إستراتيجية الانسحاب.
رؤية المعارضة السورية
لم تفهم المعارضة السورية الاستراتيجية الأميركية، وبنت مواقفها بداية من أميركا، وكأن جورج بوش الابن ما زال يحكمها، ويستعد لاستغلال الفرص ليتدخل في سورية، كما حدث في العراق وأفغانستان. دفعها هذا الفهم إلى تقديم ذاتها ورؤيتها ومواقفها، انطلاقاً من الموقف الأميركي ضد النظام وروسيا. ولكن، ليس الموقف نفسه كما أوضحناه، بل الموقف المتوهم عن استمرار الإستراتيجية الأميركية. ومن هنا، رفعت شعارات لأيام الجمع السورية عام 2011 الحماية الدولية والحظر الجوي والتدخل العسكري، وكان لهذا التفكير أسوأ النتائج على تطورات الثورة، وتغييب أي برنامج وطني وثوري للملايين الثائرة!
تعمل الإستراتيجية الأميركية على تحييد روسيا أو إيران، إن لم نقل كسبهما في معركتها ضد التنين الصيني، وهذا ربما يفسر “الضعف” الأميركي. الإشكال الأكبر أن المعارضة لم تنتبه لذلك، وكذلك دول عربية “داعمة” لها، وبالتالي، تحاول عقد صفقات مع روسيا لإجبار أميركا على التفكير مجدداً بإعادة العلاقة القديمة “الحميمة” إلى الإطار نفسه. هذا تفكير خاطئ استراتيجياً، للدول العربية وللمعارضات العربية.
اعتمد الحكم في سورية على الروس في إفشال كل القرارات الدولية المندّدة بالنظام، لكنها لم تكن ملزمة للدول العظمى، بفرض أية ضغوط عليه، فبقي ممثلوه موجودين في الهيئات الدولية، ومندّدين بالثورة، باعتبارها قوى إرهابية ومدعومة من دول الخليج. تصطف أوروبا الضعيفة خلف الموقف الأميركي، وباعتبار الأخير إستراتيجيته الانسحاب، فإن تلك المواقف المؤيدة حق السوريين بنظام جديد، كانت أقرب إلى المواقف الأخلاقية منها للمواقف السياسية، ولم تتلق المعارضة دعماً حقيقياً من تلك الدول. وهنا، ارتكبت المعارضة خطأ إضافياً، ويتمثل في تجاهلها دور النقابات والأحزاب اليسارية في أوروبا، ولم تنشأ شبكة علاقات سياسية، لتوضيح أهداف الثورة، وبقيت علاقاتها مع حكومات أوروبا الضعيفة. تلقى النظام دعماً إيرانياً مستداماً ولاحقاً من حزب الله، ومن ثم من مليشيات شيعية طائفية من بلادٍ عديدة، وأخيراً وبعده، فشل كل هذه القوى، تدخلت روسيا، وتمّ الأمر وفق اتفاقيةٍ عُقدت مع النظام السوري، توضح بنودها أن سورية أصبحت محتلة من روسيا؛ هذا الأمر لم تندد به أميركا ولا أوروبا. إذاً هناك تنسيق روسي أميركي كبير، وله أهداف متعددة للدولتين، لكنه بالتأكيد على حساب مصالح السوريين. اتضح التوافق من خلال الضغط الأميركي المستمر على الدول الداعمة، ومنعها من تقديم
السلاح النوعي بصفة خاصة، وهو، بكل الأحوال، ما أربك هذه الدول، لكنها وبدلاً من قراءة دقيقة للموقف الأميركي، راحت تدعم قوىً ليست ممثلة للثورة، ولا تعترف بها أصلاً. الموقف السليم أنه كان يجب دعم القوى الممثلة للثورة، وتهميش كل قوى لا تتوافق مع أهداف الثورة. المهم، هنا، أن تلك الدول لم تتبن رؤية استراتيجية مختلفة، وهذا ما يجب العمل عليه راهناً. الأميركان داعمون لروسيا ولإيران ولإسرائيل، ويقع على بقية الدول العربية، والمعارضات العربية، التفكير بإستراتيجية جديدة، وما حصل من تدخل في اليمن، أو تشكيل تحالف إسلامي، أو نيّة التدخل في سورية؛ كلها عناصر صحيحة، ولكن شريطة ألا تعتمد على الدعم الأميركي، كما تقول المصادر الخليجية، وهذا ما سيربكها مجدّداً، ويوظفها في سياق الإستراتيجية الجديدة، أي لصالح إيران إقليمياً وروسيا عالمياً.
ربما كان لدى المعارضة السورية والدول الإقليمية الداعمة لها، رؤية تنطلق من دعم الولايات المتحدة ما سمي القاعدة في أفغانستان ضد الاحتلال الروسي لذلك البلد، وبما يؤدي إلى إنهاكه، واستبدال الاحتلال بالأميركي، أقول ربما. مشكلة تلك الرؤية أنها تتجاهل الموقف الأميركي الجديد، والمعلن بالحرب على الإرهاب، واعتبار كل قوى إسلامية، ولا سيما داعش أو تنظيم القاعدة أو فروعه إرهابية. طبعاً، يمكن الاستثمار بهذه القوى مجدّداً، لكن ذلك يتم عبر الدوائر الاستخباراتية. هنا، لن نذهب بالبحث إلى أنه ليس من مصلحة الإمبرياليات، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، دعم ثورات شعبية. وبالتأكيد، لن تتسامح مع جبهة النصرة التي تجاهر بانتمائها للقاعدة، وبرفض كل المناشدات لفك علاقتها بها، والانتماء إلى الثورة السورية. وفي كل الأحوال، تقول تطورات الوضع الأخيرة إن التنسيق الأميركي الروسي، والمفاوضات ستفضي حتماً إلى اعتبار جبهة النصرة و”داعش” تنظيمين إرهابيين، كما نص قرار مجلس الأمن الدولي 2254 ، وسيكونان في مرمى النيران، حالما يبدأ إيقاف إطلاق النار فعلياً. قبل ذلك، سيبقى الطيران الروسي يقصف مواقع المعارضة والجيش الحر بشكل رئيسي، وبما يقوّي مواقع داعش والنصرة وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، وطبعاً مواقع النظام. وهو الهدف الأساسي من الاحتلال الروسي.
لم تراجع المعارضة السورية سياساتها أبداً، وما زالت الدول الإقليمية مربكةً في مواقفها تجاه ما يحدث في كل دول الإقليم. الثورة هي من أنقذ المعارضة، فتوسعها وإنهاكها النظام هو سبب قوتها، أي أن استمراريتها أعطت للمعارضة وللدول الجرأة وإمكانية الدفاع عن رؤيتها ودورها الإقليمي في وجه الضغوط الروسية والأميركية. شكل ضعف النظام مشكلةً كبيرةً للحلف الداعم له، فالحلف نفسه فشل، وهنا تدخلت روسيا عسكرياً، وما زالت تنقل أسلحةً جديدة إلى سورية، وعقدت صفقة مع النظام يتم بموجبها إعطاء هيمنة مطلقة للروس على سورية.
الاحتلال الروسي
بعد التدخل الروسي في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، تمّ إيقاف كل أشكال المساعدة للكتائب
المعارضة للنظام، وكأن هناك توافقاً روسياً أميركياً على حلٍّ سياسيّ، حالما تنتهي روسيا من تلك الكتائب. وطرحت روسيا، بالتزامن مع التدخل، مبادرة فيينا، وأُلحقت بقرار دولي، ومن ثم في جنيف 3، وبدا وكأن الحل السياسي صار حادثاً لا محالة؛ لكن روسيا عطلت ذلك كله بحجج واهنة، كعدم تمثيل وفد المعارضة للمعارضة، أو عدم التوافق على تصنيف القوى الإرهابية، واعتبارها كل القوى المعادية للنظام إرهابية، ورفضت تطبيق إجراءات الثقة المتعلقة بفك الحصار وإيصال المساعدات وإطلاق سراح المعتقلين، وإيقاف إطلاق النار العشوائي؛ وبالتالي، نسفت أي تطور حقيقي للحل السياسي، ما لم يتوافق مع رؤيتها؛ وافقت أميركا روسيا في ذلك، والدول الإقليمية أربكت كلية، وأكثر من ذلك، دعمت روسيا وأميركا قوات سورية الديمقراطية بقيادة صالح مسلم، ليتبين أن مشروع إعادة تأهيل النظام هو الأساس، وأن على المعارضة التخلص من أوهام الحكم الانتقالي، كما بيان جنيف الأول، والإذعان لحلٍّ سياسيّ، أقرب لما طرحته إيران قبل أكثر من عام، ويتلخص بحكومةٍ وطنيةٍ وبنود أخرى، وهذا يعني تصفية الثورة والتخلص منها على ضوء التدخل الروسي العنيف. إذاً روسيا خيارها الأساسي الحل العسكري، وليس السياسي.
اقتراب الثورة من عامها السادس، وتعدد أشكال التدخل الإقليمي والدولي وتصاعد الجهادية والاحتلال الروسي لسورية، يقول إن الولايات المتحدة حققت أهدافاً كبيرة، مثل تدمير سورية، وإنهاء “أسطورة” حزب الله، وإنهاك إيران، وإظهارها بعداء كامل مع العرب ومع تركيا، وتقارب مواقفها من إسرائيل، كون الأخيرة على صدام كامل مع العرب، واستطاعت توريط الروس بمعركة طويلة مع السوريين والمسلمين كذلك، وفصولها ستتوضح بالأشهر والسنوات المقبلة.
ستجبر روسيا التي ستتعرض إلى حرب عصابات طويلة في سورية، إن لم تستثمر التقدم إلى مواقعها الحالية في فرض مفاوضات على النظام والمعارضة، من أجل حل سياسي، أقول ستجبر على التفاوض لاحقاً، فخسارتها لن تتوقف، وكذلك لن تتمكّن قوات إيران وحزب الله وصالح مسلم من الصمود أمام انبعاث لاحق للثورة لاحقاً، وحرب عصابات بغياب دعم إقليمي واسع لها، سيكون الشكل الوحيد القادر على حرب استنزافٍ أمام التقدم الهمجي الجاري. ما ذكرناه بخصوص الموقف الأميركي، لا يلغي التنسيق مع الروس.
واقع الثورة المتأزم هو ما يسمح بتقارب كبير بين الروس والأميركان، ويضعف، في الوقت نفسه، دور الدول الإقليمية الداعمة لها؛ وعكس ذلك، كلما كانت الثورة تتقدم، فهي تفرض التفافاً إقليمياً حولها. تحاصر أميركا التقدم خدمة لروسيا، فهي لا تريد نصراً عسكرياً ضده، وكذلك لا حلاً سياسياً وفق جنيف كذلك؛ ففي ذلك تخلق أواصر علاقاتٍ قويةٍ مع روسيا. موضوع العقوبات على روسيا بخصوص أوكرانيا يقرأ من زاوية أخرى.
يتجلى هذا التأزم هذا بصفةٍ خاصةٍ في تعزيز مواقع الجهادية، وفي تحول الصراع إلى حرب كاملة، وبقيادة روسيا ضد الفصائل المناهضة للنظام، وفي رداءة مواقف المعارضة تجاه كل المناطق، وفي فقدان الحاضنة الشعبية للثورة، وتحوُّلها إلى خيار اللجوء (التهجير) أو خيار الترحيل إلى مناطق النظام!. وبالتالي، الثورة السورية لم تنتج قيادتها المطابقة لها، والمعارضة لم تفهم أهداف الثورة، ولم تواكب صيرورة تحولاتها، وتسلطت عليها. يشذ أداء الهيئة العليا للمفاوضات، بوضوح رؤيته، لجهة رفض كل تفاوض من النظام، قبل البدء بإجراءات الثقة، والمتعلقة بفك الحصار وإيصال المساعدات والإفراج عن المعتقلين، ولا سيما النساء والأطفال، والتأكيد المستمر على التفاوض، وفقاً لبيان جنيف، وليس فيينا فقط، أي التفاوض على كيفية البدء بتشكيل الحكم الانتقالي. أربك هذا الموقف للمعارضة التنسيق الأميركي الروسي، وهو ما دفع الروس إلى التصعيد الميداني الخطير في حلب، وتهديد الأميركان، وعلى لسان وزير الخارجية، بأن أشهراً مقبلة ستكون كارثية على الثورة السورية.
شكّل التدخل الروسي في نهاية سبتمبر/ أيلول 2015 بداية التراجع الكبير للكتائب المقاتلة
للنظام، وكذلك توقفت كل أشكال الدعم لها، وهذا قاد إلى ضعفٍ كبير في تأثير الدول الإقليمية، ولا سيما تركيا والسعودية في الصراع الميداني، وسمح قبالة ذلك، لقوات النظام وصالح مسلم المتحالفة معه وللحرس الثوري الإيراني والمليشيات الطائفية التابعة لها ولحزب الله، بالتقدم في درعا وحلب وحمص وريف اللاذقية. عكس ذلك، يشكل الاستهتار الكامل بمصالح الدول الإقليمية ورقة ضاغطة للتحرّك، ولتبني استراتيجية مختلفة، وهي دعم الفصائل المقاتلة للنظام، ومن دون التوافق مع الأميركان. ستتفهم الولايات المتحدة الأميركية ذلك، وستحوله إلى ورقة إضافية ضد الروس لابتزازهم، لينحازوا معها وضد الصين، وكذلك التفكير في حل الموضوع السوري، والتفرغ لقضايا الصراع بين الدول الكبرى. تتفهم أميركا مصالح الدول الإقليمية، لكنها لا تعارض الموقف الروسي، ويمكن الاستنتاج، هنا، أن الصراعات الإقليمية ما دامت في حدودٍ معينةٍ، وبما لا يهدد المصالح الأميركية، فإنها واحدة من أفكار استراتيجية الانسحاب الأميركي، أي تتحول هذه البلاد إلى أسواق للسلاح، وتضعف أكثر فأكثر، وهو ما سيساعد على تعميق تبعيتها للولايات المتحدة، باعتبارها الدولة الأقوى اقتصادياً وعسكرياً.
الإعلانات المتكرّرة من تركيا والمملكة العربية السعودية عن رفض داعش والنظام سوية، يمكن أن تغيّر المشهد، وتوقف تمدد روسيا، وقوات صالح مسلم وداعش، إن أرسلت قواتٍ بريةً للإجهاز على داعش، ودعمت الفصائل، لإيقاف التمدّد المذكور. لن تعارض الولايات المتحدة ذلك، فمهما تعاظم الدعم، لن يغيّر من خريطة الوضع الميداني، وربما يسمح باستعادة بعض المناطق، لكنه سيكون عاملاً مهماً للعودة إلى المفاوضات، وبشكل جدي هذه المرة، فإيران وحزب الله ومليشيا صالح والمليشيات التابعة لإيران ليس في مقدورها المحافظة على التقدم الميداني، من دون الطيران الروسي المدمر لسيطرة الكتائب المناهضة للنظام.
إذاً لا بد من إستراتيجية جديدة للمنطقة، تنطلق من دعمٍ كامل للشعوب العربية الثائرة ضد النظام القديم في اليمن وسورية وليبيا والعراق، وإجراء إصلاحيات سياسية واسعة في كل الدول العربية، والنهوض بثورة صناعيةٍ ومعلوماتيةٍ كبيرةٍ، وفي كل الميادين، وفصل الأجهزة الأمنية والعسكرية عن قضايا السياسة الداخلية للدول. دولياً، استراتيجية الولايات المتحدة الانسحاب من منطقتنا، لكن روسيا لا يمكنها أن تكون بديلاً عنها، وبالتالي، يجب معاملة روسيا باعتبارها دولة محتلة لسورية، ورفض وجودها في المنطقة بالكامل، وإن حدوث مشكلات مع الولايات المتحدة نفسها سيكون متوقعاً، لكن إستراتيجية الانسحاب نفسها تفترض دوراً للدول الإقليمية والعربية منها، وهي ما عليها أن تشغله بسرعة، فالأحداث تتعاظم، وتغيّر في الخريطة الإقليمية بأكملها، وبالتالي، ستكون المشكلات هذه بمثابة عامل جديد لإعادة رسم السياسات الأميركية مع دول المنطقة. وبخصوص الأكراد، فهم جزء من المنطقة، ويفترض التوافق مع قياداتهم، وبما يُمكّنهم من الحصول إلى حقوقهم القومية.
عمار ديوب
صحيفة العربي الجديد