تدخل الثورة السورية عامها السادس، والمشكلة أن هذه الثورة المدهشة والتي باتت تعرف بأنها الأكثر كلفة بين ثورات “الربيع العربي”، مازالت تواجه مزيدا من التعقيدات والصعوبات والتدخلات الدولية والإقليمية التي تتوخى تصفيتها أو حرفها أو السيطرة على التداعيات الناجمة عنها.
هكذا فقد بات بديهيا أن التحليلات المتعلقة بمآلات الوضع السوري أضحت غالبا مشوبة بشحنات من المرارة والقلق وربما الإحباط، إذ لا بد أن نتذكر هنا بأننا نتحدث عن نظام يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة وبالصواريخ، كما لابد أن نتذكر أن هذا النظام استعان بحليفيه الروسي والإيراني مع ميلشياته الطائفية اللبنانية والعراقية، حيث شارك الجميع في قتل السوريين وتدمير عمرانهم، وقد نجم عن كل ذلك تشريد أكثر من نصف السوريين في الداخل والخارج، وحرمانهم من ممتلكاتهم ومن مصادر رزقهم، مع حوالي نصف مليون شهيد ومفقود، وآلاف القتلى في المعتقلات، وعشرات آلاف السجناء، فضلا عن الحصار المشدد على بعض المناطق.
توضيحات أولية
وقبل الحديث عن المشكلات والتحديات التي تواجهها هذه الثورة داخليا وخارجيا، وعلى صعيد بناها وخطاباتها وأشكال عملها، لا بد من تقديم التوضيحات الآتية:
“الثورة السورية هي أول تجربة سياسية للسوريين، وتأتي من دون صلة بتجربة حزبية سابقة، بل هي أول تجربة من نوعها في تاريخ المجتمعات في هذه المنطقة للصعود إلى حلبة التاريخ، ومن هنا تكمن أهميتها، مع معرفة الأثمان الباهظة المدفوعة”
أولا،لم تكن ثورة السوريين على النظام الذي حكمهم قرابة نصف قرن، خيارا بين مجموعة خيارات متاحة، فالثورات تنجم عنها-في أغلب الأحوال- كلف باهظة في الأرواح والممتلكات، وهي تحصل لكسر الاستعصاء الذي تشكله النظم الاستبدادية التي تعيق التطور السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي في البلد المعني، أي أن الثورات سلمية أو مسلحة أو بين هذا وذاك، هي حالة اضطرارية وعفوية، وكلفتها تتأتى من قوة السلطة المهيمنة، وبقدر عنادها ومقاومتها للتغيير، ما يفيد أن الطريق الأنسب والأسلم للتطور هو طريق التغيير السلمي والديمقراطي والطبيعي، إن كان متاحا بالطبع.
ثانيا، تأتي الثورات بشكل مفاجئ وعلى شكل انفجارات لا يمكن هندستها أو تنظيمها أو التحكم بتداعياتها أو مآلاتها، كما لا توجد مسطرة معينة لها، وهي لا تأتي بحسب الرغبات.
وتبعا لكل ذلك فقد تنجح وقد تفشل، وربما تنجح جزئيا، كما أنها قد تنحرف أو يجري التلاعب بها، علما أن التنظير للثورات في فترة ما قبل القرن العشرين، أتى بعد حدوثها، أما الفكرة “اللينينية” عن الثورات فقد ظلت بمثابة فكرة نظرية أو تحليلية، وتستند إلى التراث الثوري للشعوب التي سلكت هذا الطريق، رغم أنها أنتجت نظريتها الخاصة في هذا المجال، مع ذلك فإن الواقع ومعطياته شيء والكتب أو النظريات شيء آخر؛ مع كل الاحترام لنظريات العمل الثوري.
ثالثا، إن الوقوف مع ثورة ما هو وقوف مع حركة التاريخ، مع الشعب، مع الضحايا، مع المظلومين، وهو انحياز لقيم الحرية والكرامة والعدالة، أي أنه موقف منطقي وسياسي وأخلاقي، هذا مع إدراكنا ما للثورات وما عليها، أي أن ذلك لا يعفيها من النقد القاسي، لخطاباتها وبناها وأشكال عملها، بل إن هذا العمل بالذات هو من صلب العملية الثورية ذاتها.
رابعا، فيما يخص الثورة السورية فهي أول تجربة سياسية للسوريين، وتأتي من دون صلة بتجربة حزبية سابقة، بل هي أول تجربة من نوعها في تاريخ المجتمعات في هذه المنطقة للصعود إلى حلبة التاريخ، ومن هنا تكمن أهميتها، مع معرفة الأثمان الباهظة المدفوعة.
إزاء ذلك يفترض إدراك أن هذه الأثمان وهذا الخراب إنما تتحمل مسؤوليتهما الأنظمة الاستبدادية السائدة، لأنها تقاوم التغيير، ولأنها أصلا تريد تأبيد حالة التخلف والاستعباد والاستبداد في المنطقة، وفقا للشعار المشين: “سوريا الأسد إلى الأبد” مثلا. ومن الأصل فإن هذه الأنظمة (جمهورية أو ملكية)، هي المسؤولة عن اندلاع الثورات أو الانفجارات المجتمعية بسبب تسلطها وجبروتها وإعاقتها قيام دولة المواطنين والمؤسسات والقانون.
المشكلات والتعقيدات
في نقاش حال سوريا اليوم لا يمكن التكهن بشكل يقيني بالتداعيات والمآلات، إذ لا يبدو أن ثمة في الأفق ما يحمل على الاعتقاد باقتراب الخلاص، فالأوضاع الدولية تعاند السوريين، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى لمطالبهم، والأوضاع العربية والإقليمية لا تساعدهم على نحو مناسب، بل إن بعض الأطراف وجدت في هذه الثورة فرصتها لفرض ذاتها كفاعل إقليمي من خلال التلاعب بالثورة وفرض مسارات أو خطابات معينة عليها، كما حصل في الدخول الروسي المباشر على خط الصراع في سوريا وعليها.
والمشكلة أيضا، أن الأوضاع على الصعيد الداخلي، أي وضع الثورة ذاتها، وقدرتها على التحكم بأحوالها، وعلاقتها بمجتمعها، لا تبدو أفضل حالا، لا بالنسبة للقوى السياسية المدنية ولا بالنسبة للجماعات العسكرية.
“ينبغي ألا تصرفنا إخفاقات الثورة عن الانتباه إلى أن الأحوال لن تعود إلى السابق، وأن الثورة السورية -على علاتها- أنهت إلى الأبد، فكرة “سوريا الأسد”، بكسرها الانسداد الحاصل في تاريخ سوريا، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق بالنسبة للشعب السوري، ومجتمعات المنطقة”
بالمحصلة نحن أمام واقع معقد مفاده أننا إزاء صراع مديد ومفتوح، وأنه لا النظام ولا المعارضة باستطاعة أي منهما حسم الأمر، وأن سوريا باتت ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، وأن وزن السوريين في حسم هذا الصراع بات أقل من السابق، في حين باتت اليد الطولى في إطالة أمد الصراع أو حسمه أو التحكم بنتائجه بيد الدول الكبرى، (روسيا والولايات المتحدة الامريكية، ولاسيما ان كلمة الفصل لهذه الأخيرة.
بيد أن كل هذه الاستنتاجات لا ينبغي أن تصرف الانتباه عن أن الأحوال لن تعود إلى السابق، وأن الثورة السورية -على علاتها- أنهت إلى الأبد، فكرة “سوريا الأسد”، بكسرها الانسداد الحاصل في تاريخ سوريا، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق، بالنسبة للشعب السوري، ومجتمعات هذه المنطقة.
لكن القول بأن هذا هو واقع الثورة السورية، وأنه ما كان يمكن توقعها على نحو أفضل، لا يعني أن الأمور تسير على ما يرام، ولا التزام التغطية على أخطائها، أو نواقصها، فهذه الثورة انطوت على مفاجآت خطيرة، أولها، عجز الطبقة السياسية السائدة عن إنتاج قيادة، أو أقله مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، فحتى الآن لم تنجح في إنتاج كيان سياسي يعبر عن السوريين ويجمعهم من حوله، وهذا يشمل تشرذم جماعات المعارضة العسكرية التي لا يجمع بينها جامع، ناهيك عن الفجوة بينها وبين الإطار السياسي (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، مع ملاحظة أن تقدما مهما حصل في تشكيل الهيئة التفاوضية مؤخرا.
وثانيها، عدم محافظة كيانات الثورة السياسية والعسكرية على خطابات الحرية والديموقراطية والكرامة التي صدرتها في بداياتها، ما أضر بصدقيتها إزاء العالم وإزاء شعبها.
وثالثها، يتمثل في حجم التدخلات الخارجية المضرة بالثورة، والحديث هنا بالطبع لا يجري عن التدخل لصالح النظام من قبل روسيا وإيران وحزب الله وداعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وعصائب الحق وكتائب أبو الفضل العباس ونظام المالكي، فهم جزء من آلة النظام السوري، وإنما عن التدخل المتأتي من الأطراف الداعمة لهذه الثورة، والتي اشتغلت بشكل متضارب، وبحسب مصالحها، ووفق حساباتها، ما أربك الثورة وزجها في معارك غير محسوبة، استنزفتها وأضعفتها.
وبديهي أن المسؤولية هنا لا تقع فقط على عاتق الدول المعنية فقط، إذ ثمة قسط من المسؤولية يقع على عاتق أطراف المعارضة ذاتها، لأنها سكتت عن هذه التلاعبات والتدخلات عن غير وجه حق، ولأنها كانت في أحيان كثيرة مطية لها.
ورابعها، يتعلق بمدى الهشاشة والتفكك اللتين بدا عليهما المجتمع السوري حين ظهر على شكل جماعات سكانية متباعدة ومتفرقة على أسس هوياتية قبلية وطائفية ومذهبية وإثنية ومناطقية وعشائرية، يكاد لا يجمعها جامع، فضلا عن أن بعض هذه الجماعات -التي تنظر إلى ذاتها بمنظور أقلياتي- بدت وكأنها لا تبالي بما يجري، أو كأنها سلمت لاعتبارها سوريا بمثابة مكان للإقامة وليس وطنا يضم كل السوريين.
المخاطر والتحديات
في الواقع، فإن هذه المفاجآت ربما لم تكن متوقعة على هذا النحو، وإلى هذه الدرجة، لكنها مع استطالة عمر الثورة، ولدت مخاطر وتحديات كثيرة، خارجية وداخلية. أولها، أن القوى الخارجية الدولية والإقليمية -لاسيما الأميركية والروسية ثم الإيرانية والتركية- باتت أكثر تأثيرا بالنسبة لتقرير مستقبل سوريا، خاصة بسبب زيادة اعتماد الثورة على الدعم الخارجي المالي والتسليحي، وغياب بعدها الشعبي، وضعف تنظيمها لذاتها.
وثانيها، أن النظام استطاع بمساعدة حلفائه إخراج أغلبية المجتمع السوري من معادلة الصراع، بتدميره البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، وبتشريده ملايين السوريين.
“استطاع النظام وحلفاؤه حرف الأنظار عن طابع الثورة السورية بوصفها ثورة ضد نظام الاستبداد والفساد، وتوجيه أنظار العالم إلى نواح أخرى، ضمنها ما يسمى الحرب ضد الإرهاب، ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا”
وثالثها، أن الثورة السورية مازالت بحاجة لقيادة، وبحاجة لتوضيح أو تأكيد خطاباتها المتعلقة بالحرية والديمقراطية. ورابعها، أن النظام وحلفاءه استطاعوا حرف الأنظار عن طابع الثورة السورية بوصفها ثورة ضد نظام الاستبداد والفساد، وتوجيه أنظار العالم إلى نواح أخرى، ضمنها ما يسمى الحرب ضد الإرهاب، ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وتأمين المساعدات التموينية والطبية للمناطق المحاصرة.
وخامسها، يكمن في تعنّت النظام، مع روح الإنكار التي تتملكه، حيث ما زال يتصرف -رغم كل ما جرى- على اعتبار أن هذه “سوريا الأسد إلى الأبد”، أو كأنها بمثابة ملكية عقارية خاصة، ليس بها مواطنون، أو كأن هؤلاء مجرد مقيمين لا حقوق لهم.
وسادسها، يتعلق بحلفاء النظام، خاصة إيران وروسيا اللتين تريان أن أي تغيير في سوريا سيكون بمثابة نهاية لنفوذهما فيها، وخاصة على ضوء تورطهما عسكريا في دعم النظام القائم ضد غالبية شعبه. وسابعها، يرتبط بما يريده ما يعرف بـ “أصدقاء الشعب السوري”، فنحن هنا أيضا إزاء مصالح وسياسات ورؤى متضاربة، لا تسهم في حسم الوضع، في دعم الثورة أو التسهيل عليها.
وثامنها، ناجم عن الجماعات الإسلامية الجهادية المتطرفة، التي لا تحسب ذاتها على الثورة، لا سيما “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) و”جبهة النصرة”، إذ أن انحسار هذه الجماعات سيرتبط بمدى التزام جميع الأطراف بوقف هذه اللعبة، ومدى الصرامة في وضع حد لمصادر تمويلها وإمدادها، وعدم التسهيل لها.
وتاسعها، يكمن في معالجة أو تصويب أوضاع المناطق المحررة، فهذه التجربة لاقت إخفاقا كبيرا، إذ لم تنجح في إدارة أحوالها، ولا في التسهيل على الثورة، فضلا عن أنها خسرت في الصراع على النموذج مع النظام. ومع معرفتنا بعدم علاقة المعارضة بهذه المناطق التي باتت بمثابة إقطاعات لجماعات عسكرية، فإن مسؤوليتها تكمن في عدم نقد هذه الظاهرة وسكوتها عنها، لكسب رضى القوى المهيمنة.
ثمة إذن صعوبات ونواقص ومخاطر وتحديات جمة تواجه ثورة السوريين، وهذا قدر سوريا وموقعها الجيوبولوتيكي كبوابة للمشرق العربي، وفي تأثيراتها على مستقبل الوجود الإسرائيلي.
مع كل ذلك، فإن هذه الثورة فتحت تاريخا جديدا في المنطقة بغض النظر عن مآلاتها، ولنلاحظ في هذا السياق -مثلا- أن الثورة الفرنسية -الأشهر عالميا- فشلت أولا، إذ بدأت بغرض إنهاء الملكية لكنها انتهت إلى امبرطورية الجنرال نابليون، بحيث احتاجت فرنسا إلى ثورة 1848، ثم إلى كومونة باريس 1871 (حكومة بلدية ثورية)، أي إلى نحو قرن لإحداث التغيير، مع ملاحظة استهدافها من الدول أو الإمبراطوريات المجاورة.
لكن ما يلفت الانتباه أن هذه الثورة -رغم فشلها- استطاعت نقل إشعاعها إلى العالم، وصنعت التاريخ أكثر من سابقتها الثورة الأميركية (1776) التي نجحت، وذلك بحسب تعبير حنا أرندت (كتاب في الثورة) وأريك هوبزباوم (كتاب عصر الثورات). مع ذلك سنبقى على أمل بخلاص السوريين.
ماجد كيالي
الجزيرة نت