في النزاع الدائر في الشرق الأوسط اليوم تسعى الأطراف المختلفة، العالمية والمحلية، دولا وجماعات، إلى اكتساب الشرعية لمواقفها وسياساتها من خلال لعبة “القوة الناعمة” التي ينطلق فيها كل طرف من منظومته القيمية والثقافية والأيديولوجية، وأيضا من توقعاته لما لدى الرأي العام الذي يستهدفه من مواقف وقناعات.
إيان موريس، أكاديمي بريطاني ومؤرخ وعالم آثار من مركز ستانفورد للآثار التابع لجامعة ستانفورد في كاليفورنيا بالولايات المتحدة، يُقارِب مذبحة التاريخ والثقافة التي تعرضت لها الموارد الآثارية والتراث الإنساني في سوريا والعراق على يد تنظيم داعش، فيناقشها من زاوية سعي أطراف الصراع، وضمنها تنظيم داعش، إلى اكتساب القوة الناعمة وتوظيفها لصالحها في الصراع.
ففي ورقته “الصراع على القوة الناعمة في الشرق الأوسط”، يشير موريس إلى اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية لمدينة تدمر، وإقدامه على تفجير النصب القديمة وإعدام سكان محليين على مسرح المدينة العائد إلى العهد الروماني، من بينهم خالد الأسد البالغ من العمر 82 سنة، والذي شغل منصب مدير هيئة الآثار بمدينة تدمر طوال 40 سنة قبل أن يتقاعد في سنة 2003، إذ اعتقله ونكّل به مسلّحو التنظيم طوال أسابيع، معتقدين على نحو يدعو إلى السخرية بوجود كميات هائلة من الذهب المخبَّأ في المدينة وأنه يمكن لخالد إطلاعهم على مكانه. وإذْ لم يستطع إفادتهم بشيء جرّه آسروه إلى ميدان عام في 18 أغسطس 2015 وضربوا عنقه وعلّقوا جثّته من وسطها على إشارة مرور.
ويرى موريس أن اغتصاب تدمر كان أسوأ ما أقدم عليه تنظيم الدولة من بين سائر أفعاله الدنيئة، مؤكدا وجود غاية لتنظيم الدولة من جنونه. فشنُّ حرب على علم الآثار، هو من وجهة نظره، مجرّد أسلوب في صراع داعش من أجل امتلاك القوة الناعمة، ومقاتلوه يستخدمون هذا الأسلوب بوحشية ودهاء لتعزيز موقعهم وإضعاف موقف أعدائهم.
ما يميز داعش ليست وحشية اللعبة التي يمارسها ولكن مهارته في لعبها وهو ما يمكنه من زيادة عوائد عملياته التخريبية
تطور القوة الناعمة
من بعض الجوانب، لا يرى الباحث في أفعال التنظيم الإرهابي شيئا جديدا، فطالما تفطّن الغزاة لرمزية صبّ جام غضبهم على ماضي أعدائهم المهزومين، بتدميرها تارة وبأخذها جوائز تارة أخرى. ويتتبع الباحث تاريخ هذه الممارسة في العراق مثلا إلى الآلاف من السنين موضحا أن إحدى أشهر القطع الأثرية التي عُثر عليها في الشرق الأدنى رأس مصنوع من البرونز يرجَّح أنه يرمز إلى سرجون ملك أكاد (الذي يُنسَب إليه فضل بناء أول إمبراطورية حقيقية في بلاد ما بين النهرين في وقت قريب من سنة 230 قبل الميلاد)، فبعد احترام تمتّع به الأكاديون طوال ألفي عام تقريبا، نقل الغزاةُ الأشوريون الرأس إلى عاصمتهم في نينوى، ثم نهب الميديون والبابليون المدينة وفقؤوا عيني الرأس البرونزي الذي يرمز إلى سرجون، وقطعوا أذنيه وجدعوا أنفه.
بقي هذا السلوك معتادا طوال معظم حقب التاريخ، يستطرد الباحث، لكن عندما احتلّ البريطانيون العراق في سنة 1917، ثم في سنة 1941، وعندما كرّر الأميركيون ذلك في سنة 2003، لم ينغمسوا في نهب ترعاه الدولة ولا سوَّوا الزقورات والمساجد بالأرض. كما أعطت القوات الأميركية الجنود إرشادات شرحت طريقة تلافي إلحاق ضرر بالمواقع الأثرية. وكما نفهم من تحليل موريس لم يأتِ تصرّف بريطانيا والولايات المتّحدة مع الآثار بهذا الشكل المغاير تماماً لتصرّف الميديين والبابليين بفعل تباين حضاري “جوهراني” بين غرب “متحضر” وشرق “همجي”؛ لكنه يرجع، بحسب الباحث، إلى الفارق الزمني بين العصرين أو التجربتين الاستعماريتين. إذ يؤشر الباحث على تحول كبير طرأ على سلوك القوى الاستعمارية إزاء الآثار والموارد الثقافية للمستعمرات؛ ذلك أن طرقا جديدة حلّت إلى حدّ بعيد محلّ الطرق القديمة في التعامل مع آثار الأعداء في السنين الـ250 الماضية. استُخدمت هذه الأساليب الجديدة في أوروبا في القرن الثامن عشر، عندما اكتشف الملوك أن القوة الناعمة التي سيكسبونها إذا قدّموا أنفسهم في صفة ملوك مستنيرين تفوق ما سيكسبونه لو تصرّفوا بشراسة مثل الملك أتيلا الهوني. وفي هذا السياق، يُبيِّن موريس، أن غزو نابليون لمصر في سنة 1798 شكّل نقطة تحوّل، فمع أنه نقل إلى متحف اللوفر كنوزاً لا تُحصى، كتب علماؤه “وصف مصر” في إثني عشر مجلّدا خلت من الأخطاء الأكاديمية وبالكاد دمّروا شيئا.
وبعد التحرر من الاستعمار، ووفقا للباحث، جعلت أغلب الدول التراث الثقافي مسألة اعتزاز وطني وحظرت تصدير القطع الأثرية. وفي سنة 1970، حظرت منظمة اليونيسكو بيع القطع الأثرية أو شراءها ما لم يكن هناك برهان على أنها كانت في حوزة جامعي الآثار من القطاع الخاص قبل إقرار الاتفاقية. وبسبب ذلك، وجدت بريطانيا أن أعظم فتوحاتها الثقافية – أي منحوتات معبد بارثينون الرخامية التي نُقلت من معبد بارثينون الأثيني ونُصبت في المتحف البريطاني في سنة 1816 – يتحوّل باطّراد من مصدر اعتزاز إلى إحراج دولي. وفي الولايات المتّحدة، فرض قانون حماية أضرحة الأميركيين الأصليين واستردادها، الذي أُقرّ في سنة 1990، قيودا صارمة على قدرة علماء الآثار على دراسة مكتشفات قبور السكان الأصليين في الأراضي الفيدرالية أو القبلية، أو عرضها في المتاحف.
همام طه
صحيفة العرب اللندنية