حدد المسؤولون في موريتانيا منتصف شهر تموز (يوليو) المقبل موعداً لانعقاد القمة العربية السابعة والعشرين في العاصمة الموريتانية نواكشوط. وسيحتاج الزعماء الموريتانيون الى كل دقيقة من الوقت من أجل الإعداد لهذه القمة. فالوقت الذي يفصلنا عنها قصير. والظروف الموضوعية التي تمر بها المنطقة ليست متوافرة «لعقد قمة عربية ناجحة»، كما جاء في البيان الذي أدلت به وزارة الخارجية المغربية لشرح الأسباب التي دفعت المغرب الى الاعتذار عن استضافة القمة كما كان مقرراً.
ان القمة، كما يفهمها الزعماء المغاربة، ليست مجرد مرصد لتشخيص الأوضاع المتفاقمة والمريرة في المنطقة العربية، وهي ليست ملتقى يقصده اصحاب النوايا الطيبة من أهل الخير والمروءة العرب للتعبير عن مشاعرهم تجاه الأشقاء والأصدقاء والمجتمع الدولي عموماً، وهي ليست مناسبة لصياغة هذه المشاعر والنيات في توصيات وتمنيات. انها مؤتمر لأهل الحل والعقد وأصحاب السلطة في نظام اقليمي هو من أكثر النظم «دولتية» و «مركزية» في العالم. أي أن الزعماء العرب قادرون على اتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة بل وحتى تنفيذها إذا أرادوا ذلك.
إذا اجتمع الزعماء العرب في هذا المؤتمر واكتفوا بالتوصيات والمناشدات والتمنيات، وإذا استهلكوا الوقت المخصص للقمة بخطابات توحي بأن المنطقة العربية لا تزال موحدة ومتماسكة على رغم النزاعات المسلحة التي تجتاحها والاضطرابات المنتشرة فيها، لوضعوا صدقيتهم، واستطراداً صدقية القمة العربية، على المحك. إن المرء لا يتوقع الكثير من الاجتماعات الرسمية إذا اقتصرت على رؤساء الحكومات او الوزراء. صحيح أن هؤلاء هم من أفراد النخب الحاكمة الذين يؤثرون على صنع السياسات، إلا أن التأثير شيء والقول الفصل شيء آخر، فهذا متروك لزعماء الدول. وإذا اجتمع هؤلاء من دون أن يصدروا قرارات حاسمة فسيصاب الرأي العام بإحباط كبير.
وحيث إن «الظروف الموضوعية»، كما تراها الخارجية المغربية، لا تسمح لزعماء الدول بتقديم الإجابات الحاسمة على المشكلات العربية المستعصية، وحيث إن هذه المعضلات بلغت حداً من التعقيد والاستفحال الى درجة انه لم يعد باستطاعة الزعماء العرب المجتمعين في القمة الوقوف مكتوفي الأيدي تجاهها وبخاصة أمام الرئيسي منها، مثل الخلافات التي يعيشها العالم العربي، والتدهور الذي أصاب قضية فلسطين، وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات العربية، فإن من الأفضل، في تقدير الخارجية المغربية، الابتعاد عن دغدغة الآمال غير الواقعية لدى الرأي العام العربي عبر عقد مؤتمر القمة العربية.
ولكن الى متى تؤجل القمة؟ يجيب بيان الخارجية المغربية عن هذا السؤال المضمر بالإشارة الى أن المغرب مثله مثل سائر الدول العربية يتطلع الى يوم تتوافر فيه إمكانية «عقد قمة للصحوة العربية» و «لتجديد العمل العربي المشترك» الذي يرسي الآمال العربية على أرض صلبة وينجب الحلول المعقولة مثل ميثاق الصخيرات الذي شكل مدخلاً ناجعاً لحل المعضلة الليبية. فضلاً عن ذلك فإن القمة ليست، في تقدير الخارجية المغربية، هدفاً في حد ذاته بل هي وسيلة لتحقيق التضامن والتعاون والسلام العربي = العربي.
إن اعتذار المغرب عن استقبال القمة السابعة والعشرين أثار الأسف لدى الأوساط المعنية بالنظام الإقليمي العربي، أما الأسباب التي قدمتها الخارجية المغربية في تفسير الاعتذار، فقد أثارت المزيد من الأسف. فالمرء يجد في هذا التفسير مقداراً محموداً من الجدية والواقعية اللتين تطبعان نهج المغرب تجاه القمة مثلما تطبعان المناخ السياسي المغربي عموماً. وكان المأمول ان تسم الجدية التي تتعامل بها النخبة السياسية المغربية مع الشأن العام عملية الإعداد للقمة بمعناها الواسع والبعيد المدى، أي الذي يضعها في مقدم المساعي الدولية الرامية الى انهاء النزاعات المسلحة التي تجتاح المنطقة العربية بل حتى الأراضي المجاورة لها. إلا أن الانطباع الراجح في الرباط، كما يدل بيان الخارجية وتصريحات المسؤولين المغاربة، هو ان الظروف العربية الراهنة، وبخاصة في الدول العربية المتخاصمة، لا تسمح بعقد مؤتمر قمة ناجح يتجاوز الطابع «المناسباتي» كما وصفه بيان الخارجية. من هنا كان الابتعاد عن تنظيم المؤتمر. ولكن حتى لا يستخدم الموقف المغربي بما يخالف النيات التي حفزت اليه، وحتى لا يتحول الى نموذج يستحضره من يسعى الى تحقيق أهداف تناقض فكرة التعاون الإقليمي العربي، فلعله من المفيد الأخذ في النظر الاعتبارات التالية:
اولاً: إن اعتذار المغرب عن استضافة القمة السابعة والعشرين لم يأتِ في وقت عادي، بل في وقت تنشط فيه المساعي والمشاريع الرامية الى إقامة نظم إقليمية جديدة على انقاض النظام الإقليمي العربي. وغني عن التوضيح أن العديد من هذه المشاريع لا يتماشى مع مصالح العرب وتطلعاتهم، بل مع تطلعات من يرغبون في الهيمنة على المنطقة وعلى شعوبها. ومن المؤكد أن المغرب ليس طرفاً في هذه المشاريع ولا يستفيد منها ولا يرغب فيها. ولكن الساعي الى تحقيق مثل هذه الأهداف والمشاريع سيبذل جهداً لتحويل الموقف المغربي الى دليل على تعثر الإقليمية العربية وعلى قرب زوالها وبطلان مسوغاتها. ولا ريب في أن زعماء المغرب لا يؤيدون مثل هذه المشاريع والأغراض ويتمسكون باستمرار النظام الإقليمي العربي.
ثانياً: إن مؤتمرات القمة قد لا تكون هدفاً بل وسيلة كما جاء في بيان الخارجية المغربية، ولكن هذا لا يعني أن الوسيلة غير مهمة. إن الكثيرين يعتقدون بأن الوسيلة تصنع الهدف بمقدار ما يصنع الهدف الوسيلة. بل ذهب بعض المفكرين وعلماء السياسة، مثل كارل بوبر، الى القول إن الوسيلة هي التي تصنع الهدف ونقطة على السطر. في كل الحالات فإن الهدف يبقى مجرد هدف وأمنية ما لم يقترن بالوسيلة الفاعلة. وهكذا نجد أن عقد القمم الإقليمية بات مرتكزاً لتطوير المنظمات الإقليمية، أما الانتقال من القمم الإقليمية العارضة او الطارئة او الوظيفية الى القمم المبرمجة والدورية فقد تحول الى وسيلة حاسمة لمأسسة المنظمات الإقليمية.
هذا النهج يتكرر في العديد من المنظمات الإقليمية وبالتأكيد في أنجح كتلتين إقليميتين على النطاق العالمي وهما الاتحاد الأوروبي ورابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان). فكل من التكتلين حقق قفزات الى الإمام عندما انتقل من القمم العشوائية والمتباعدة الى القمم الدورية والمتقاربة زمنياً. فالاتحاد الأوروبي عقد أول قمة له بعد سنوات طويلة من توقيع اتفاقية روما التي قامت على أساسها السوق الأوروبية المشتركة عام 1957. وبقيت القمم الأوروبية حدثاً استثنائياً حتى عام 1974 عندما طبقت قاعدة القمم الدورية فباتت القمة الأوروبية تجتمع مرتين في السنة الواحدة. ولقد كثرت القمم الأوروبية الى درجة أنها أصبحت حدثاً عادياً لا يستثير الفضول او الاهتمام الكبير.
ومرت «آسيان» بمسار يشبه ذاك الذي مرت به السوق، فالاتحاد الأوروبي، اذ انها نشأت عام 1967، ولكن قمة «آسيان» لم تبدأ إلا عام 1976، لكي تتلوها من بعدها سلسلة من المؤتمرات التي تحولت من قمم طارئة الى قمم دورية. ولقد تأثرت كل من الكتلتين: «آسيان» والاتحاد الأوروبي بنمط متشبه من الديناميكيات: فازدياد مسؤوليات التكتل الإقليمي ونشاطاته يفرض المزيد من القمم. وتنامي القمم والتقارب في مواعيد انعقادها يفتحان الباب امام تزايد نشاط التكتل الاقليمي وتكاثر المسؤوليات الملقاة على عاتقه اي على عاتق الزعامات.
وهناك شيء من التشابه بين مسار الاتحاد الاوروبي و «آسيان» من جهة، ومسار القمم العربية. فالقمم العربية بدأت رسمياً عام 1964 حيث تقرر ان تكون دورية، وطبق هذا المبدأ ولكن في شكل متعثر. فبين عامي 1991 و1996 تعطلت القمة العربية بحيث أخذ النظام الاقليمي العربي كله يترنح لولا مبادرة مصرية – سعودية – سورية أسفرت عن إحياء القمة ومؤسسات العمل العربي المشترك.
الاستنتاج الذي يمكن الخروج به من تجارب هذه المؤسسات أن ترسيخها ليس بالأمر الهين بخاصة أن هناك جهات كثيرة في الداخل والخارج لا ترتاح الى استمرار المؤسسات العربية العابرة للحدود، بل تبحث عن الفرص المناسبة للطعن في صدقية هذه المؤسسات كمقدمة للتخلص منها. إن حماية هذه المؤسسات يحتاج الى تقيد والتزام بالمهمات الملقاة على عاتقها، وقد يفرض هذا الالتزام على الجهات المعنية به بعض الأعباء، ولكن هذه الأعباء هي ثمن لا بد من دفعه احياناً إذا اراد المرء الحصول على مزايا التعاون والتكامل الإقليمي وهي كثيرة، كما تدل تجارب الذين سبقوا الدول العربية في هذا المضمار.
رغيد الصلح
صحيفة الحياة