شهدت الأحداث في الحرب في سورية وعليها، في الآونة الأخيرة، تطورات دراماتيكية متلاحقة في ساحات القتال وميادينها. لا بل امتد تأثيرها على مستوى المقاربات السياسية من قبل الدول الفاعلة واللاعبة في أتون هذه الأزمة، وقبلهم بالطبع فرقاء الصراع في معادلة الوطن؛ النظام والمعارضة.
أحدث الدخول الروسي العسكري على خط الصراع في سورية، والذي ما يزال منحصرا بالغطاء الجوي، انقلابا في موازين القوى على الأرض، ناقلا النظام وقواته من موقع الدفاع والتقهقر تحت أتون ضربات المعارضة السورية على اختلاف أشكالها ومشاربها، إلى موقع المبادر والمهاجم على جميع الجبهات القتالية الوازنة. ومن إرهاصات هذا التدخل أن شهد الصراع تراجعات لقوى المعارضة المسلحة على الجبهات الشمالية والجنوبية أيضا، وإن كانت في الشمال أكثر وضوحا ونضجا. وفي السياق ذاته، وجدت القوات الكردية المسلحة، المتمثلة في “قوات سورية الديمقراطية” الفرصة سانحة، فسارعت إلى أخذ زمام المبادرة شمالا مستفيدة من الغطاء الجوي الروسي، للتمدد على حساب مناطق نفوذ المعارضة السورية المسلحة التي تعرف بالمعارضة المعتدلة. بينما شرقا استفادت هذه القوات من غطاء التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية المعروفة بالحليف التقليدي للمكون الكردي في المنطقة -والذي هو (المكون الكردي) بمنطق السياسة الأميركية الحليف الأكثر وثوقا- للتقدم على حساب نفوذ “داعش”. ومن خلال هذا الدعم المزدوج يتمدد نفوذ القوات الكردية في الجيب المتاخم للحدود التركية، مع ما لهذا التطور من حساسية بالغة لدى الحكومة في أنقرة، نتيجة تخوفها من وجود قوات كردية منظمة (مثل قوات سورية الديمقراطية وقوات حماية الشعب الكردي) على حدودها الجنوبية، تشكل تهديدا لأمنها الداخلي.
رغم انقلاب معادلات وموازين القوى في الأزمة السورية، والشاهد هو التقدم الذي حققه جيش النظام في دمشق، إلا أن الوصول إلى الحسم يبقى بعيدا وبعيدا جدا. وما تزال مساحات شاسعة من الأراضي السورية، تزيد على ثلث مساحة سورية الكلية، خارج سلطة النظام.
بعد مرور أكثر من خمسة أعوام على الصراع الدامي، اكتملت معالم اللوحة الفسيفسائية لمناطق نفوذ القوى المسيطرة على الأرض؛ ابتداء من النظام المدعوم من الكرملين ودول إقليمية أبرزها الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبعض القوات والمليشيات المنضوية تحت هذا التحالف، وعلى الضفة الأخرى مساحات تحت نفوذ المعارضة المعتدلة والمدعومة من دول إقليمية في مقدمتها دول عربية خليجية وتركيا والولايات المتحدة الأميركية، على الرغم من اكتناف الموقف الأميركي الغموض والضبابية. وهنا تترجم أميركا لغة السياسة ومعادلتها الملتبسة، فنجدها تتحالف وتؤسس لتوافقات مع نقيضي معادلة الصراع؛ إذ ها هي تجاهر بدعم الأكراد ممثلين بـ”قوات سورية الديمقراطية”، رغم ما لهذا الدعم من حساسية في قاموس السياسة التركية التي هي بدورها أيضا حليفة للولايات المتحدة الأميركية. لا بل هما منضويتان في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وأكثر من ذلك ثمة اتفاقية ثنائية أمنية وعسكرية بينهما، تشكل الإطار لاستخدام القوات الجوية الأميركية لقاعدة “أنجرليك” في الجنوب الشرقي لتركيا.
وهناك لاعب آخر لا يحمل في أجندته سورية التي كنا نعرف، وهو تنظيم “داعش” المتواجد في شرق سورية وبعمق جغرافي استراتيجي يتمثل في نفوذ التنظيم في الشمال الغربي للعراق، مع بعض الجيوب المتقدمة في ضواحي دمشق وأقصى الشمال الغربي للبلاد.
هناك تقسيم للأرض السورية لا تخطئه العين، من خلال القوى المتصارعة على الأرض، حيث لا يستطيع أي من الفرقاء الادعاء بأن سورية التي كنا نعرف تحت سيطرته بالكامل.
وها هو الاتفاق الأميركي-الروسي الذي عرف إعلاميا باتفاق “كيري-لافروف”، وعنوانه وقف القتال “وقف الأعمال العدائية” تمهيدا للدخول في تسويات وصفقات تنهي الصراع في سورية. إلا أن الطريق إلى هذا الخيار ليست معبدة بالورود، نظرا لتعقيدات الصراع والشرخ العميق الذي أصاب المجتمع السوري، ولاسيما الثقة بين أبناء هذا المجتمع.
تتطاير التصريحات وبالونات الاختبار التي مصدرها عواصم دولية، بصيغ اتحاد فيدرالي وسواه، كمقترحات للحلول. وذكر ذلك أيضا (الفيدرالية) المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا قبيل استئناف مفاوضات جنيف. وهذه صورة من صور التقسيم غير الصريح. والأهم من هذا وذاك أن الصراع في سورية ليس مقتصرا على معادلة الوطن (النظام والمعارضة)، بل يمتد لللاعبين الدوليين والإقليميين، ما يجعل مسار التسوية طويلا ومهددا بالفشل، وقد يشمل فرض أجندات لتسويات تتجاوز سورية وأزمتها، إلى تسويات كونية بين القوى الدولية.
ناصر السعدي
صحيفة الغد الأردنية