من أبرز تبريرات الإدارة الأميركية للاتفاق النووي مع إيران أنه يعطي فرصة لبروز تيارٍ أكثر اعتدالاً في الحياة السياسية الإيرانية، ما يجعل هذا الصعود جنباً إلى جنب مع الانفتاح الاقتصادي على طهران، وسيلةً للجم الراديكاليين المعادين للغرب داخل النظام الإيراني، بما يغيّر من طبيعة هذا النظام ليصبح أقرب للغرب. من هنا، جاء تسليط الضوء بشكل مكثف على انتخابات البرلمان الإيراني، أخيراً في وسائل الإعلام الأميركية والغربية، وتحليل ما أفرزته من نتائج، في محاولةٍ لاكتشاف التأثيرات الآنية للاتفاق النووي على وضع التيار الإصلاحي ضمن المعادلة السياسية الإيرانية، وقد احتفت مقالات وتقارير في الصحف الغربية بفوز الإصلاحيين بمقاعد البرلمان في طهران تحديداً، لكن الانتخابات ليست في طهران فقط، والذين فازوا ليسوا الإصلاحيين المتعارف على تسميتهم بهذا الاسم، أي أنهم ليسوا بالضرورة أنصار الثورة الخضراء.
عرف التيار الإصلاحي في إيران صعوده الكبير مع انتخاب الرئيس محمد خاتمي عام 1997، وحصوله على تأييد شعبي كبير، مكّنه أيضاً من الفوز بولاية رئاسية ثانية. عبَّر هذا التيار الإصلاحي عن رغبةٍ في تجديد نظام الجمهورية الإسلامية وتطويره، وقدّم أبرز رموزه أنفسهم بوصفهم أبناء الثورة الإسلامية، والحريصين على منجزاتها، وهو ما لا يتعارض برأيهم مع السعي نحو مزيدٍ من الانفتاح داخلياً وخارجياً، تحت سقف ثوابت النظام الأساسية.
بيد أن هذا التيار كان واسعاً، ليضم شخصياتٍ مختلفة في درجة انفتاحها أو “اعتدالها”، كما في موقفها مما يعد من ثوابت النظام. وهنا، بدأت حملة من المحافظين وحرّاس النظام التقليديين ضد هذا التيار، بسبب التوجس من كونه رافعةً لمجموعاتٍ معارضةٍ للنظام بالكامل من اليساريين والليبراليين، ولأشخاصٍ يسعون إلى ضرب عقيدة النظام المعادية للغرب في الصميم، واستبدالها بعلاقاتٍ وديةٍ تضيّع استقلال إيران، وهكذا شن المحافظون حربهم على هذا التيار، بالذات في ولاية خاتمي الثانية، ما جعله يتراجع كثيراً تحت وطأة الضربات المتتالية، وصولاً إلى انتخابات عام 2009، وما تلاها من أحداث، بعد اتهام الإصلاحيين للنظام بتزوير الانتخابات لصالح الرئيس أحمدي نجاد، منعاً لوصول مرشح الإصلاحيين، مير حسين موسوي، إلى الرئاسة.
في احتجاجات عام 2009، برزت شريحة من الإيرانيين الساخطين على نهج أحمدي نجاد، والراغبين في تغييرات اجتماعية واقتصادية أكثر انفتاحاً، وتمثلت هذه الشريحة بشكل أساسي بكثيرين من أبناء الطبقة الوسطى والبرجوازيين في المدن الكبرى، فيما كان أبناء الطبقات الأقل وأهل الأرياف والمدن الصغيرة أميل إلى نجاد، انسجاماً مع اتجاهاتهم المحافظة. أدت الأحداث إلى خيبة أمل عند الجمهور المناصر للتيار الإصلاحي، وهذا دفع الإصلاحيين إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية عام 2012، لكن النظام قام بعملية احتواء لجمهور الإصلاحيين، بدءاً من الانتخابات الرئاسية عام 2013.
جاء فوز الرئيس حسن روحاني من الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة، قبل ثلاث سنوات، ليعيد ثقة جمهور الإصلاحيين إلى حد كبير بالنظام السياسي والعملية الانتخابية، ومثّل روحاني خياراً معقولاً بالنسبة لقطاعٍ كبير من مؤيدي الإصلاحيين، بالإضافة إلى شريحةٍ مهمةٍ من الناخبين المحافظين، ليعلن انتخابه صعود تيارٍ محافظ يتسم بالاعتدال، يشكل خليطاً بين أفكار إصلاحيةٍ ونهجٍ محافظ، ويحاول استيعاب جمهور التيار الإصلاحي المتضعضع، بفعل ضربات النظام عام 2009، ويقوده روحاني والرئيس السابق، هاشمي رفسنجاني، وينافس هذا التيار بقوة المحافظين المتشددين على مقاعد البرلمان في هذه الدورة.
جمع تيار رفسنجاني وروحاني في الانتخابات البرلمانية، أخيراً، مجموعة من المحافظين البراغماتيين، المعروفين باعتدالهم وقربهم من دوائر القرار في النظام، وتحديداً من المرشد الأعلى، علي خامنئي، إضافة إلى محسوبين على خط الرئيس خاتمي، وقد اكتسح هذا التيار مقاعد طهران، كما فاز بعدد مهم من مقاعد مجلس الخبراء الذي تقع في دائرة مهامه اختيار المرشد الأعلى ومراقبة أدائه، لكن هذا لا يعني تغييراً في موازين القوى لصالح الإصلاحيين، لأن هذا التيار ليس هو الإصلاحي المتعارف عليه، بل هو خليط بوجه محافظ، كما أن التيار المحافظ “المتشدد” حصل على عدد مهم من المقاعد خارج طهران. وبانتظار إعلان النتائج الرسمية، بعد الجولة الثانية التي لم تبدأ بعد، يمكن القول إن روحاني ورفسنجاني حققا انتصارات مهمة، من دون أن يعني ذلك أنهما يضمنان سيطرة كاملة على البرلمان أو مجلس الخبراء.
الأهم أن المرشد الأعلى عاد ليدير لعبة التوازنات. ولكن، بين محافظين براغماتيين وآخرين متشددين، وداخلهما مجموعات تراوح بين اليمين واليسار، ليتشكل مشهدٌ متنوع أكثر، ومضبوط بسقف النظام، وضمن ثوابت المرشد ما بعد الاتفاق النووي، حيث الذهاب بعيداً في “لبرلة” الاقتصاد غير مسموح، والدفاع عن هوية الجمهورية الإسلامية، وموقعها الحالي في المعادلة الإقليمية، وموقفها من الغرب، أمورٌ ضرورية.
يؤدي تيار رفسنجاني وروحاني دوراً مهماً في تجديد شرعية النظام، باحتواء جمهور الإصلاحيين، عبر الظهور بوجه إصلاحي مع الإبقاء على النهج المحافظ، وربما يكون هذا مريحاً أكثر لحرّاس النظام، لكن التعويل الأميركي والغربي لا يتوقف على هذه المرحلة، وهذه الانتخابات، والرهان على انفتاح إيران الاقتصادي وتأثيراته اجتماعياً وثقافياً، وتالياً سياسياً، ما زال قائماً.
بدر الإبراهيم
صحيفة العربي الجديد