بغداد وتضارب انباء القتال: تعدد الجبهات واختلاف الاهداف

بغداد وتضارب انباء القتال: تعدد الجبهات واختلاف الاهداف

ما تزال الانباء التي تبثها الجهات الرسمية العراقية عن سير المعارك في المناطق التي تشهد قتالا بين مسلحي تنظيم “الدولة الاسلامية / داعش”، والجيش العراقي المدعوم بالميلشيات متضاربة، فلكل طرف روايته، إذ تتحدث الحكومة العراقية عن نصر حققته قواتها في عدد من الاماكن، بينما يؤكد اعلام “التنظيم”، انه يصول ويجول في كر وفر، ليعيد الى سيطرته مناطق قد فقدها في لحظة معينة.“داعش” اليوم يتحكم في منطقة واسعة تقدر مساحتها بحوالي (35) الف ميل مربع من الاراضي السورية والعراقية، رغم القصف التحالف الدولي لمواقعه منذ عدة أشهر، وما تحقق من نجاح جزئي من قبل البيشمركة الكردية والقوات العراقية المدعومة بالميليشيات، لم يصمد طويلا، إذ تمكن الاول من استعادة المبادأة في بعض مدن الانبار ومناطقها وفي اجزاء من محافظة صلاح الدين. ففي بيجي، وبعد ان اعلنت الحكومة عن استعادتها، عاد محافظ صلاح الدين ليصرح باختراق المتطرفين لأجزاء من القضاء غرباً وأجزاء أخرى مفتوحة باتجاه المركز، وفي المناطق المفتوحة باتجاه الفتحة والصينية، مؤكدا أن القوات المشتركة والعشائر لن تفرط ببيجي بعد استعادتها.
اما في تلعفر التي تبعد عن الموصل 70 كلم، فما زالت الاشتباكات مستمرة بين قوات البيشمركة والتنظيم في منطقة معمل الإسمنت على بعد 10 كلم من سنجار، وما زال مطار تلعفر تحت سيطرة “داعش” بعد محاولة إنزال غير موفقة للقوات العراقية بحسب شهود عيان، فيما تواصل قوات البيشمركة وطائرات التحالف قصف تجمعاتهم وتكبيدهم خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.

وفي قاطع الانبار فان مسلحي “داعش” يسيطرون، ويتنقلون بحرية في مناطق “الهياكل، الهيتاوين، العناز، المعارض، معمل الثرمستون، البو غانو، البو حديد الناصر، الجغيفي الثانية، البو جليب، ذراع دجلة، السجارية، الجمهورية، معمل الورار” إذ تمكنوا من قطع الامدادات الحكومية وعزل القطاعات العسكرية.
كما كشفت مصادر محلية عراقية، في 28/12/2014 أن تنظيم “داعش” أسقط طائرة حربية خلال إغارتها على مواقعهم في ناحية الضلوعية شمال العراق، وذلك بعد ساعات من إعلان القوات الحكومية استعادة السيطرة على عدة بلدات في المنطقة. في حين لم يعلق الجيش العراقي والقيادة الأمريكية الوسطى، التي تشرف على عمليات التحالف الجوية فوق العراق وسوريا على سقوط الطائرة.
واستجابة لإيقاع الحرب، فان التنظيم خلال السنوات الأخيرة طوّر تنويعات من الأسلحة الفتاكة، لتضم اختراعات المقاتلين أعدادا متعددة من القنابل المصنعة محليا والمخفخات، واضحت الهجمات الانتحارية بالأحزمة الناسفة أو العربات المحملة بأطنان من المتفجرات، جزءاً مهماً في استراتيجيته الحربية. فضلا عن الاعتماد على قناصة تلقوا تدريبا عاليا لإطلاق قنابل الهاون. كما تبرز قدرته على تجنيد الألوف من بين 5-6 مليون نسمة تخضع لحكمه. وابرز ما يمكن ان نتلمسه، الثمن الباهظ الذي رافق معارك مقاتلة التنظيم، ممثلا بصعود قوة الميليشيات وسياسة الأرض المحروقة التي تمارسها في المناطق التي ينسحب منها داعش، والتي أدت لتهجير آلاف السنة وتدمير ممتلكاتهم.
الحرب الاهلية الطائفية.. بين الصمت والعلانية
وهنا تكمن الخطورة، فصفحة الحرب الاهلية الطائفية، اخذة بالتسارع في العراق وجواره الاقليمي، فاستراتيجة الولايات المتحدة القائمة على عدم الانخراط الامريكي في معارك برية ضد “داعش” والاكتفاء بالقيادة من الخلف، والاعتماد على الميليشيات المدعومة من ايران، ستكون سببا لجعل الحرب الأهلية أكثر احتمالا في المدى الطويل.
ولا ينبغي أن يساء تفسير ما تقدم على انه بمثابة دعوة لنشر أعداد كبيرة من الجنود الأمريكيين في العراق، وإنما هي تفسير تحليلي، لما يمكن ان تفضي اليه ممارسات الميليشيات، التي اتسم اغلبها بالدموية والتهجير والاعتقال حيال الكثير من سكان المناطق التي يصار الى استرجاعها. وفي موازاة ذلك، فان عدم الاعتراض الامريكي، على انخراط الميليشيات الشيعية العراقية لمواجهة “داعش”، انما يكشف عن التقاء المصالح بين الولايات المتحدة وإيران، وفقا لمقولة “عدو عدوي صديقي”.

Picture2
وبعبارة اخرى واذا ما نحينا جانبا مكافحة “داعش” وما قد يستغرقه من زمن لإلحاق الهزيمة به، بحسب ما اكده الرئيس الامريكي اوباما، وهو أمر مقلق الى حد كبير، الا انه يثير قلقا عميقا اخر، لجهة تشجيع الولايات المتحدة ظهور مجموعة متنوعة من جيوش ميلشياوية مختلفة في العراق، مثل كتائب بدر، جيش المهدي / سرايا السلام، عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، التي ترتبط ارتباطا وثيقا إيران. واذا ما انتهى مشهد الحرب لصالح القوات العراقية وميليشيات الحشد الشعبي، فان من المرجح ان يكون لهذه الميليشيات السطوة في الادارة والحكم، وستكون في موقع المتقدم على الهياكل الرسمية الامنية والعسكرية، لنشهد تشكل مؤسسة “للحرس العراقي الثوري” على غرار ما موجود في ايران، لاح ظهورها مع انشاء هيئة للحشد الشعبي، ستكون لها مديريات خاصة كمديرية الاستخبارات والامن، لتنسيق العمل مع الاجهزة الامنية والعسكرية. كما اصدر مجلس الوزراء العراقي مرسوما اعتبر أن لـ”شهداء الحشد” امتيازات ومخصصات مماثلة “لشهداء” القوات المسلحة، فيما ذهبت وزارة حقوق الإنسان للتأكيد على أنهم جزء من المنظومة العسكرية العراقية الرسمية.
وتبدو تصريحات وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي بخصوص انضباط الحشد الشعبي وعمله بإمرة القيادات الأمنية، والثناء على “دوره الإيجابي والكبير في تحرير الكثير من مناطق ديالى. مخالفة لاتهامات منظمة العفو الدولية، لميليشيات الحشد الشعبي بقتل عشرات المدنيين السنة “بإعدامات عشوائية”، معتبرة أن ممارساتهم تصل لمستوى “جرائم الحرب”. ورغم ذلك
فأن حكومة حيدر العبادي التي تدعم وتسلح هذه المجموعات تغذي دوامة جديدة وخطيرة من انعدام القانون والفوضى الطائفية في البلاد.
ويبدو ان ايران تريد ان تجعل من هذه الميليشيات الشيعية، احد أدواتها الرئيسة في العراق، رغم سيطرة الشيعة على الحكومة في بغداد، إذ ينظر النظام الايراني بقلق شديد من احتمال تكرار ما حدث في حزيران / يونيو 2014 عندما انهار الجيش العراقي في هزيمة تاريخية اعقاب تقدم “داعش” في عدد من المحافظات، ما يحمل الى عدم الوثوق به مرة أخرى؟ وليس من المستبعد أن إيران تريد بعض أو كل الميليشيات المتحالفة معها أن تبقى خارج سيطرة الحكومة، مثل “حزب الله” في لبنان. لتعيد مسار البوصلة الحكومية تجاه مصالحها واستراتيجياتها في العراق، اذا ما لمست نوعا من الميل بعيدا عنها.
مقتل قائد من الحرس الايراني في العراق
ما كشفته صحيفة “الواشنطن بوست” في 27/12/2014 من أن طهران كثفت منذ العام الماضي من جهودها العسكرية في العراق، ليس بالأمر الخفي، إذ نقلت الصحيفة عن رجل دين إيراني بارز له علاقة مع القيادة في طهران قوله: إن إيران أرسلت منذ سيطرة تنظيم الدولة على أنحاء مختلفة من العراق 1.000 مستشار عسكري إلى بغداد، ووحدات نخبة وقامت بغارات جوية، مؤكدا ان “المناطق التي تحررت من داعش تمت بسبب النصيحة والقيادة والدعم الإيراني”.
وكان الحرس الثوري قال في بيان نشر على موقعه الإخباري الرسمي، أن “العميد حميد تقوي استشهد خلال مهمة استشارية لدى الجيش العراقي والمتطوعين العراقيين لقتال إرهابيي داعش في مدينة سامراء”. ويحمل تقوي اعلى رتبة عسكرية بين القتلى الايرانيين في العراق، كما انه اعلي رتبه عسكريه قتلت بوجه عام خارج الاراضي الإيرانية منذ الحرب مع العراقية – الايرانية التي انتهت عام 1988.
ولمن لا يعرف العميد تقوي، واسمه الحركي ابو مريم، فقد كلفه المرشد الاعلى عام 2003 وعددا اخر من رجال الحرس، عملية التخطيط للتدخل في العراق، ليكون احد العناصر الرئيسة في خلية الازمة بهذا الخصوص، وبالتعاون مع العميد الحرسي ايرج مسجدي قائد معسكر رمضان، واللواء الحرسي عبيداوي قائد معسكر الفجر في الاهواز، وحسب خطة التدخل فان هذه الخلية كانت مسؤولة عن تأمين دخول قوات بدر وحزب الله العراقي، وضباط اخرين من فيلق القدس الى العراق.
وكان العميد تقوي هو المسؤول عن محور الوسط، ليستقر في محافظة ميسان، مشرفاً على العمليات هناك، بالإضافة الى رئاسته للشبكات التابعة لابو مهدي المهندس وابو مصطفى الشيباني العراق، وادارته للعمليات العسكرية للمجموعات الشيعية ضد القوات الامريكية، نذكر هنا عملية خطف البريطانيين في بغداد عام 2007، وقتل الجنود الامريكيين في كربلاء في ذات العام. وبالنظر لأهمية دوره فانه كان يجري تنسيقا مع السفير الايراني السابق كاظمي قمي بخصوص المجريات السياسية والعسكرية.
والآن، فإنّ النظام الإيراني بعد مقتله، اضحى اكثر قلقا وخشية من حصول عمليات اخرى تستهدف قادة الحرس العاملين في العراق، وهي بلا شك عملية دقيقة، وتتطلب جهوداً استخباراتية عالية. وبالتالي فان عدم تحفظ ايران على تدخّل قوّاتها العسكرية في العراق وكشفها لهذا الامر، يؤشر إلى نقطة تحوّل في نهجها، بالنظر لما يشكله العراق من اهمية في سلسلة المصالح القومية الايرانية العليا، التي تمتد شرقا إلى المتوسط، وجنوبا باتجاه منطقة الخليج العربي، اضف الى ذلك فان الخشية من انتقال خطر العدوى على أراضيها يعضد بما قاله شمخاني بهذا الصدد.
بعد احداث الموصل.. اين ستتجه الاوضاع ؟
الحرب ضد “داعش” قد تكون لحظة مثلى لمزيد من النفوذ الايراني في العراق، وعلى حد تعبير علي شمخاني امين المجلس الأعلى للأمن القومي في مراسم جنازة القائد في الحرس الثوري العميد حميد تقوي “… اذا لم يضح تقوي وامثاله في سامراء لكنا اضطررنا الى ان ننزف الدم في سيستان وبلوشستان واذربيجان (الايرانية) واصفهان وشيراز”.
لقد حطم التدخل الايراني في قتال “داعش” ما كان يسمى دولة في العراق رغم ضعفها وفشلها وفساد الكثير من اطقمها التنفيذية والتشريعية، ليفتح سلسلة من الصراعات الطائفية، ويفضي الى المزيد من التنابذ، فالكل متوجس من حليفه وعدوه، ما حمل الجماعات المتنافسة الى السعي لحماية أرضها ومكتسباتها، وان كان على حساب دمار الاخر.
فالكرد سيبسطون نفوذهم، على اي ارض يستطيعون السيطرة عليها، وما اصبح من ارض اليوم تحت سيطرة الميليشيات الشيعية لن يعود الى سابق عهده بعد ان جرى طرد اغلب سكانه، اما سكان المحافظات التي سيطر عليها “داعش” فانهم يعيشون خوفا مزدوجا، من تصرفات هذا التنظيم الوحشية من جهة، والخوف من الانتقام في حال تمكنت الميليشيات من تحقيق نصر بعدما تواردت اخبار التدمير والتهجير على ايديهم في محافظة ديالى ومنطقة جرف الصخر.
ونشير هنا الى ما قاله علي عابد الفريح، وهو احد رجال العشائر من المساندين للحكومة في محافظة الانبار، بحسب ما نقلته وكالة رويترز بان الجيش يواجه صعوبات بصفة خاصة. ويضيف “في كل معركة يخسر الجيش 50 جنديا. وتدمر عرباتهم وينقصهم الوقود…” ويؤكد ما تعانيه المحافظة بقوله “… فهم يعلمون أن الناس ليس لديهم غذاء ولا سلاح ولا ذخيرة ولا شيء. نحن نغرق. وإذا لم تساعدونا فعلى الاقل انقلونا إلى الجنوب والشمال. فنحن نموت الان”، ويتساءل: “ما الذي يتبقى من العراق إذا ظل الوضع يتحرك على هذا النحو؟”. سؤال مشروع يكشف عن غياب الثقة بين الاطراف السياسية، وعجزها عن اتخاذ مواقف ناجعة، تخفف من غلواء الاستقطاب السياسي والمجتمعي والمذهبي.
لقد أُريد للمذاهب والمقدسات، ان تؤثر في الشأن السياسي، وفي المزاج الجمعي، لتتحول معهما الممارسة السياسية الفاشلة إلى القبول، كونها تتحرك بوحي الايمان والاعتقاد، دون ان يخالطها منافس، ويكون لها قصب السبق، في سد ثغرات الحكومة والقائمين عليها.
فالكثير من الشيعة الآن، أصبحوا يتقبلون وجود الميليشيات وايران، رغم انهم شاركوا في قتالها في الثمانينيات، بل ان احدهم يقول “نحن مثل سفينة غارقة. أيا كان من يمد لك يده لرفعك من البحر سواء كان عدوا أم صديقا ستقبلها دون النظر إلى وجهه لأنه هناك”.
ولكن ما يأمله رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي تولى رئاسة الحكومة في سبتمبر/أيلول في توحيد البلاد من جديد، يبدو بعيد المنال. وما اوقعه سلفه المالكي من تخريب، ليس بالأمر الهين، سواء على مستوى الوحدة الوطنية، او حيال شحذ الحرب الاهلية وتسعير آتونها.
والآن أصبح العبادي والأكراد بل وبعض الساسة من السنة يتحدثون جميعا عن الاتفاق على أقاليم اتحادية حتى يمكن لطوائف الشعب العراقي أن تحكم نفسها بنفسها وتظل جزءا من دولة موحدة. وعمليا فان العراق انقسم لأكثر من ثلاثة أجزاء، وكلما طالت مدة بقاء هذه الأجزاء ازدادت صعوبة إعادة بناء البلاد حتى في صورة اتحاد فيدرالي فضفاض.
هدى النعيمي