“كل ما يُتوقّع من الأسلحة التقليدية سيكون مُتوقّعاً كذلك من الأسلحة الصامتة ولن تختلف عنها إلاّ بالأداء الوظيفي. الأسلحة الصامتة تُطلق وتُحدّد المواقف بدلاً من إطلاق الرصاص، وتقوم بمعالجة المعلومات بدلاً من التفاعلات الكيميائية، وتستخدم الحاسوب بدلاً من البندقية، ويتحكم بها مبرمج الحاسوب بدلاً من المسلّح، وتخضع للأوامر المصرفية بدلاً من العسكرية. عندما يُطبَّق نظام الأسلحة الصامتة تدريجياً سيتكيّف الشعب مع وجوده ولن يشعر حقيقةً بالتعدّي الذي يُمارسه هذا السلاح على حياته إلى أن يصل الضغط النفسي إلى الحد الذي يؤدّي إلى انهيار الشعوب.” مُقتطف من وثيقة “الأسلحة الصامتة للحروب الهادئة، Silent Weapons for Quiet Wars”.
هندسة العقول أو “صناعة الرأي العام أو القبول، Manufacturing Consent” عملية بالغة التعقيد متعدّدة الوسائل متنوعة الأساليب ومتشعّبة في غاياتها. تعتمد هذه العملية أساليب تراوح بين الصدمة، أو الصدمة والترويع، Shock and Awe، وأخرى ناعمة، قد تكون الأخطر، أو جمع بمقدار بينهما. يختلف ذلك بإختلاف المسارح والأزمنة والضحايا والأهداف الإستراتيجية، كما تتفاوت درجات الصدمات أو الخداع تفاوت درجة حصانة جهاز المناعة المجتمعي والقيمي والحضاري لكل أمة مستهدفة.
من كان يظنّ مثلا أنّ عملا أدبيا يمكن أن تُوظّفه وكالة إستخبارات لتحوّله إلى “سلاح دعائي” قصد “تقويض وزعزعة”؟ ما نشرته صحيفة “واشنطن بوست، Washington Post” الأمريكية في تقريرها المفصّل، نقلا عن مذكرة من بين 130 وثيقة صادرة عن وكالة الإستخبارات الأمريكية، سي آي إيه، CIA، تم رفع السرّية عنها مؤخّرا، يفضح كيف جرى إستخدام رواية الشاعر الروسي بوريس باسترناك، Boris Pasternak، الشهيرة: “دكتور زيفاغو، Doctor Zhivago” كأداة لخلق رأي عام وهندسة عقول وذلك قصد “تقويض الإتحاد السوفييتي” إبان الحرب الباردة! وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية التي رأت في الرواية “قيمة دعائية كبيرة، ليس فقط لرسالتها الجوهرية وطبيعتها المثيرة للتفكير، ولكن لظروف نشرها أيضا” ووجدت فيها، كما تقول المذكّرة، “فرصة لجعل المواطنين السوفييت يتساءلون عمّا أصاب حكومتهم، عندما يصبح عملا فنّيا رفيعا مُؤلّفا من قبل رجل يُعرف بأنّه أهم كاتب روسي على قيد الحياة، محظور في بلده وغير منشور بلغته وغير متوفّر لشعبه”، ذهبت حد المشاركة سرّا في الإشراف على طباعة نسخة روسية من رواية “دكتور زيفاغو” في هولاندا، بعد أن تولّى جيانجاكومو فلترينلي،Giangiacomo Feltrinelli، طبعها أولا، مُترجمة إلى اللغة الإيطالية. لم تكتف الوكالة بذلك بل ساهمت في الدفع نحو منح باسترناك جائزة نوبل في الأدب! كل ذلك من أجل ضمان وصولها وإنتشارها بين أيدي المواطنين السوفييت والسماح بتداولها في موسكو ومدن الكتلة الشرقية!
في عزّ زمن الجيل الرابع من الحروب غير المتوازية، Fourth Generation Asymmetric Warfare، التي يُعرّفها الباحث وخبير الإستراتيجيات العسكرية، ماكس مانوارينغ، Max Manwaring، على أنها “حرب إكراه وإخضاع العدو على القبول بإرادتك” دون إعتماد الإستراتيجيات التقليدية أو إستخدام الجيوش النظامية، بل بإستخدام الحرب النفسية والإشاعة ووسائل التضليل وصناعة الرأي، وزرع الفوضى، من أجل “زعزعة الإستقرار”، تصبح كل الأدوات والوسائل قابلة للإستخدام والتوظيف. بالإضافة لخلق مناخ مناسب أو تأجيج بؤر توتّر ما، يتوجّب الإعتماد على ما يشبه الطابور الخامس كخط هجوم أولي، نحو الإختراق فالزعزعة، Destabilization، أو التقويض، مُضيا نحو حالة فوضى فخلق “دول فاشلة، Failed States” ومناطق خارج نفوذ سلطة مركزية ما، ما يشرّع التدخّل بعدها أو الوصاية بالوكالة! في التدخّل لا تعوزهم الذرائع ولا الحجج، متى قرّر “أصحاب الحق” الحصريين، وأينما إلتقت مصالحهم، حتى بتنا نشهد إستنساخات غريبة من قبيل مبدأ “التدخّل الإنساني، Humanitarian Intervention”، الذي إجترحوا من رحمه عقيدة “واجب الحماية” أو “آر تو بي R2P Responsibility to Protect doctrine ” ، المعزّزة بالصواريخ والقنابل، التي تذرّعوا بها لغزو ليبيا. ثم ها هم اليوم يختلقون لنا تعلّة عقيدة “واجب القصف، آر تو إيه، ”Responsibility to Attack R2A”، بإنتظار تفعيلها في بلد ما متى وفّروا الشروط الموضوعية لذلك!
لا غرابة في ظلّ كلّ هذا أن يتصدّر أشباه صاحب رواية “الدكتور زيباغو” مشهد مسارات دول “إنتقالية” أو “إرتكاسية” أو “مُعيدة لإنتاج” ما خاله البعض في لحظة إنتشاء “ثوري” قد باد. فقد باتت وكالات الإستخبارات، من فرط تهافت وإستعداد يكاد يكون فطريا لدى البعض من هذه “النخبة” البائسة، تبخل عليهم حتى ببطاقة عضوية، ما دام التقدّم العلمي والقفزة السيبيرية لم يعودا يشترطان في تشكيل جنود الطوابير الخامسة معرفة حتى أنهم مُجنّدون!
إذا كان هذا قد تمّ، وفي الظروف التي نعلم وبالوسائل التي نعلم ولا نعلم، فللمرء أن يتخيّل، وفي ظلّ حالة الإختراق الإستخباري والأكاديمي والسيبيري، حجم ومدى ومضاعفات ما يتعرّض له أبناء هذه الأمة من إغتصاب لعقولهم وهندسة لآرائهم! هل أحصى أحدنا، مثلا، عدد هيئات وجمعيات ومُنظّمات ما يُسمّى بال”Stay Behind “، ما يُعرف منها وما فُرّخ مع “الربيع”؟ شبكات التدخّل الأمريكي النّاعم تلك، المرتبطة في معظمها بوكالات الإسخبارات، تحمل شعارا صارخا بدلالات لا تستعصي في فهمها على أحد: “أقنع، Persuade، غيّر، Change، أثّر، Influence! ولكي تنجز ذلك، فهي تملك فرقا متعدّدة بتعدّد الوظائف، نذكر منها في عجالة:
· فرق الحرب النفسية وهندسة الخارطة الإدراكية من خلال إستهداف المنظومة القيمية، (الصحف، الإذاعات، الأفلام، الإشاعات، الخ )،
· فرق الحرب السياسية (دعم الحركات التي ستقوم بحروب الوكالة، دعم التنظيمات في المنفى، دعم التنظيمات المناهضة تشجيع حركات الإنفصال…)،
· فرق الحرب الإقتصادية ( منع توفّر الحاجيات الضرورية، التحكّم في السوق، السوق السوداء، التحكّم في صرف العملة و التزوير، الخ..)
· فرق العمليات الوقائية المباشرة (مساعدة الانفاصليين، التخريب، التدمير وحرق الذاكرة الوطنية، اللعب بجينات الوحدة الوطنية…)
· فرق “متعددة الخصائص”، فرق الإغتيالات و عمليات إخلال التوازن السياسي أو الاغتيالات وما شابه.
تقرير الواشنطن بوست يؤكّده الصحفي والإقتصادي ومساعد وزير المالية السابق، بول كريغ روبرتس،Paul Craig Roberts، حين يكتب معلّقا على إستخدام وكالة الإستخبارات المركزية رواية بوريس باسترناك: “كنت أحد أعضاء برامج تبادل البعثات الطلابي بين الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، سنة 1961. أذكر يومها أنهم كانوا يشجّعوننا على أن نصطحب معنا نسخا من رواية “الطبيب زيفاغو”. كان يُقال لنا أن أعوان الجمارك السوفييت لا يمكنهم التعرّف على الرواية فمعظمهم لا يجيدون الإنجليزية.. وإن صادف وتعرّفوا عليها، وجب أن نردّ بما مفاده أنها لزوم “المطالعة أثناء السفر”! وإن صادروا النسخ، فإنّ الأعوان لن يتلفوها نظرا لقيمتها. بل سيطالعونها أولا ثم يبيعونها ثانيا في السوق السوداء، وذلك أفضل الطرق لإنتشار الرواية”!
أخيرا، من المفارقات الكبرى أنّ ما كان ولا يزال يؤاخذ على الإتحاد السوفيتي سابقا وعلى روسيا والصين اليوم، وما حاول بوريس باسترناك، صاحب الرواية فضحه، هو ما يعاني منه المواطن الأمريكي وسائر سكان المعمورة اليوم. هذا ما حدا ببول كريغ روبرتس إلى التصريح بمرارة: “ما يثير حفيظتي بعد إطلاعي على الوثائق التي رُفعت عنها السرية، هو مدى تشابه حكومة الولايات المتحدة الأمريكية الحالية وحكومة الإتحاد السوفيتي سنوات 1958! لقد كان رئيس قسم وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، الخاص بالإتحاد السوفيتي، يصف في مذكّرة سرية، يرجع تاريخها إلى شهر جويلية من سنة 1958، كيف كانت الرواية تشكّل خطرا على حكومة الإتحاد السوفيتي، بقوله: تكمن الخطورة في مضامين باسترناك والقيم الإنسانية التي ينادي بها كحق كل فرد في ضمان خصوصيته وفي التمتّع بإحترامه ككائن بشري!! في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ما عاد أحد ينعم بخصوصيته، فوكالة الأمن القومي تتولّى جمع وتخزين كل المراسلات، كل بيانات بطاقات الائتمان، كل المحادثات الهاتفية، كل عملية ولوج على محرّك بحث، وكل استعمال لوسائط التواصل الإجتماعي. في الإتحاد السوفيتي سابقا لم يكن يتعرّض المسافرون لعمليات تفتيش جسدية مذلّة، أو عرضهم على أجهزة مشح خادشة للحياء، كما يجري اليوم في أمريكا. في الإتحاد السوفيتي سابقا لم تكن العقوبات التي تطال من يجرؤون على قول الحقيقة أفظع ممّا يلحق اليوم ببرادلي مانيننغ،Bradley Manning، أو جوليان أسانج، Julian Assange، أو أدوارد سناودن، Edward Snowden.”
لو علم نوبل أن الجائزة التي تحمل إسمه، باتت تُوظّف لغايات لا علاقة لها بما أُحدثت من أجله، وتُمنح لمجرمي حرب، أو “إستباقيا”، كما الحال مع من يوقّع قائمات موت الطائرات دون طيار،Drones، دون أبسط محاكمة، لانتفض في قبره!
الآن وقد كشف بعض الذي كانت تنتهجه وكالات الإستخبارات الأمريكية وغيرها، التي لم تتورّع عن توظيف مضامين عمل أدبي، لا قيمته الفنية، فلأبناء هذه الأمة أن يتخيّلوا ما يمكن توظيفه من بقية الميادين والإختصاصات، في عزّ طفرة تكنولوجية متوحّشة وقفزة معلوماتية منفلتة وهيمنة سيبيرية مارقة. ما كشفه أدوارد سناودن، Edward Snowden، ليس إلاّ الشجرة التي تحجب الغابة!
نبيل نايلي
نقلا عن التقدمية
باحث في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، جامعة باريس