«الرأي العام» مصطلح أنيق يتردد كثيراً في العراق، لكنه ليس الا استعارة لفظية، حاضرة في اللغة وغائبة في السياسة، وخاوية من المعنى. نفترض وجوده دائماً لكن يصعب العثور على أثره في صناعة الأشياء. «الرأي العام» نتاج شعب، وليس آراء طوائف وأعراق، هو دليل على وجود وطن، وقيم مشتركة بين أهله تقود أفكارهم ومشاعرهم. ليس في عراق اليوم كل هذا، فالساسة ينتبهون فقط لآراء مجاميعهم الطائفية والعرقية، ولا يبالون كثيراً بآراء سواها. عند اندلاع الاحتجاجات الشعبية الواسعة في المناطق الغربية في ٢٠١٢، لم تبال بها معظم الطبقة السياسية الشيعية، لأنها اعتبرتها حركة سنّية، تنتمي الى «الطائفة الاخرى»، ويتكرر اليوم تجاهل سياسي سنّي مماثل لحركة الاحتجاجات الشعبية في بغداد ومحافظات وسط البلد وجنوبه لأنهم يعتبرونها «شيعية».
في علم السياسة، يشير «الرأي العام» الى اتفاقات شعبية عابرة للانتماءات الفئوية بخصوص أفكار معينة تؤثر في صياغة السياسات التي تضعها النخب الحاكمة. تعكس هذه الاتفاقات شبه التلقائية مزاجاً سياسياً مهيمناً بين افراد المجتمع بخصوص قضايا تهمهم، وتؤكد الفصل البنيوي والمهم بين الحاكم والمحكومين. فـ «الرأي العام» هو «امتياز» المحكومين على الحاكم لأنه يمثل حسهم الجمعي بخصوص أفعال الأخير وقراراته.
وُلد المفهوم من الحداثة الأوروبية عندما بدأت العلاقة بين الحاكم والمحكوم تنتقل من طابعها القسري القائم على طاعة المحكومين لحاكم لا يختارونه الى آخر طوعي يستند على التعاقد بين الاثنين. بدأ بروز «الرأي العام» في مقاهي لندن في القرن السابع عشر عندما تحولت هذه المقاهي الى أماكن نقاش فكري تساهم في تشكيل اجماعات شعبية معارضة بخصوص الملك وسياساته، ليتسع حيز «الرأي العام» مع انتشار الطباعة، ورواج الكُتيبات والمجلات التي روجت للأفكار المتداولة في المقاهي وخارجها. ازدهر «الرأي العام» عبر تقليد الصالونات الباريسية، والطباعة الصحافية، على امتداد القرن الثامن عشر الفرنسي حيث كانت افكار فلاسفة عصر التنوير كجون لوك وفولتير ومونتسكيو وغيرهم تلقى رواجاً بين الجمهور السياسي، لتتحول الى مطالبات شعبية بإصلاح منظومة الحكم الملكي الفرنسية التي تميزت باستبدادها الشديد مقارنة بمثيلاتها الأوروبية. ترسخ المفهوم أكثر عبر التجربة الاميركية في «العالم الجديد» حيث تقليد اجتماعات «التاونهول» الشعبية وازدهار الصحافة المحلية اللذان انضجا حساً بالوطنية الاميركية في خضم الصراع مع بريطانيا الامبراطورية، وبعدها مواجهة تحديات الاستقلال الاميركي وصراعاته الداخلية الكثيرة ليأخذ الأمر أشكالاً مؤسساتية وقانونية لا تزال مهيمنة في التجربة السياسية الاميركية.
أساساً، يرتبط «الرأي العام» ببروز الدولة الوطنية الحديثة، ويستبطن وجود «الشعب» كصانع للأفكار والمشاعر التي تتفاعل بينها لتصبح رأياً عاماً بخصوص قضية ما. من هنا أصبح «الرأي العام» بوصلة مهمة يصعب على مؤسسات الحكم تجاهل الوجهة التي تشير اليها.
عراقياً، تزامن بروز «الرأي العام» مع تشكل الوطنية العراقية والدولة الحديثة في البلد بعد الحرب العالمية الأولى. عاما ١٩١٩ و١٩٢٠ مفصليان في هذا التزامن، حيث كانت الجوامع والحسينيات في بغداد اماكن الالتقاء السني-الشيعي بالتناوب احياءً لموالد نبوية وتعازٍ حسينية مشتركة، تعقبها نقاشات سياسية لتشكيل إجماعات عراقية غير مألوفة سابقاً، بخصوص مستقبل للبلد مستقل بالتضاد مع إصرار بريطاني على حكم عسكري مباشر. كانت تلك لحظات مهمة ساهمت في اخراج السنة والشيعة من عزلتهم الجغرافية والنفسية واحدهم عن الآخر في نطاق المدينة التي عاشوا فيها منفصلين، الى ان ساعدتهم صيرورة «الرأي العام» الوطنية على اكتشاف بعضهم الآخر كعراقيين. ساهمت هذه الصيرورة في إنضاج الأحداث الوطنية الكبرى التي قادت الى ثورة العشرين ومن ثم في تشكيل الحكم الوطني في ١٩٢١.
كان «الرأي العام» حاضراً في العهد الملكي، معارضة وتأييداً ورقابة لسياسات ذلك العهد. لم يكن تأثيره هامشياً اذ اطاح بحكومات واتفاقات وعدّلَ سياسات. اتسع هذا التأثير باتساع التعليم وتمدد المدن ونمو الطبقة الوسطى التي أصبحت الرافعة الأساسية لـ «الرأي العام» في الخمسينات، ذلك العقد الذي شهد منتصفه طلاقاً شبه نهائي بين النخبة الملكية و «الرأي العام» بعد ازدياد الهوة بين الشعب وسياسات هذه النخبة التي تنامى حسها الاستبدادي والطبقي مع نمو ثروة البلد النفطية. كان ١٤ تموز ١٩٥٨ إعلاناً عن الطلاق النهائي الدموي بين النخبة الملكية و «الرأي العام» الذي اصطف بحماسة شديدة مع الضباط الذين اطاحوا هذه النخبة.
على امتداد سنوات العراق الجمهوري الذي قاده العسكريون وقيمهم، فقد «الرأي العام» تدريجياً قدرته على صنع مسافته الفاصلة عن الدولة وعلى الاحتجاج عليها، ليدخل عقود موته السريري في حقبة الخوف البعثية الطويلة. برع البعثيون، خصوصاً في سنواتهم الصدامية، في إلحاق «الرأي العام» بالدولة عبر مصادرته قسراً ليصبح احدى ادوات الترويج لهذه الأخيرة. عبر هذه المصادرة القاسية، ضاعت المسافة بين الشعب والسلطة لمصلحة إلغاء دموي للاختلاف تحت عنوان وحدة طوعية شعارها الأبرز «إذا قال صدام، قال العراق».
حمل التاسع من نيسان (أبريل) ٢٠٠٣ نهاية الاعتقال الطويل لـ «الرأي العام» في أروقة السلطة، ليبرز بعدها متحفزاً وقوياً وعاطفياً، يستأنف تأثيره على السياسة، لكن ليس كتجربة تفاعل مجتمعي تنتج مشاعر وافكاراً مشتركة عن البلد وسياساته ونخبته الحاكمة، بل كلحظات تأصيل سياسي لانتماءات فئوية سابقة للدولة الوطنية والحداثة، لحظات الطائفة والعرق، لا لحظات الشعب.
تفكك «الرأي العام» في «العراق الجديد» ليصبح امتداداً لتفكك السياسة والمواطنة والبلد. يكفي ان تتحدث الى عراقي كي تكشف ان آراءه عن السياسة واللحظة الحاضرة وأسلوب حديثه عنهما تشي بانتمائه المذهبي او العرقي، وهو يحاول ان «يؤصّل» فهمه السياسي للحاضر بسرديات الماضي التي تشرعن انتماءه لهويته الفئوية.
ما كان للمحاصصة الطائفية والعرقية ان تترسخ في روح البلد لو لم يتفكك «الرأي العام» لمصلحة آراء «المكونات». من هنا يمكن ان نفهم كيف يمكن لجمهور واسع غاضب على ساسته، لأنهم جروه الى القاع في كل شيء، ان يعيد انتخابهم على مدى ثلاث دورات انتخابية. انه باختصار جمهور فقد قدرته على التفكير كـ «شعب» واستسلم الى كونه ابن «المكونات».
«الرأي العام» مفهوم مدني ضائع في خضم هوس البلد بالمكونات وخوفه منها في الوقت ذاته، تدافع عنه أقلية مدنية شجاعة بمثالية فائقة. هي وحدها التي تحمل الوعد، وإن يكن شاحباً، بترميم «الرأي العام» سبيلاً لترميم العراق.
عقيل عباس
صحيفة الحياة اللندنية