في خضم بحث الأوروبيين عن إجابات شافية حول أسباب انضمام أبنائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، وسبل مواجهة هذا الخطر الذي يقف عند أبوابهم، زلزلت هجمات إرهابية الأرض من تحت أقدامهم منبّهة إلى أن الخطر القادم من سوريا بعيد مقارنة بالخطر الكامن في عقر دارهم.
وبدأت هذه النظرة تتبلور منذ تفجيرات باريس في 13 نوفمبر 2015، والتي كشفت أيضا عن الجهاد العابر لأوروبا، حيث أن أغلب المتهمين في هذه الهجمات قدموا من بلجيكا، التي عاشت، الثلاثاء، على وقع هجمات جديدة هي الأقوى في البلاد، منذ حادث الاعتداء على المتحف اليهودي في بروكسل في 2014.
وكانت بروكسل، الثلاثاء، مسرحا لانفجارات متعددة، سلّطت الضوء على الضعف المستمر في التعامل مع حماية الأهداف السهلة، والتصدّي لما أسماه خبراء في مركز ستراتفور الأميركي للدراسات الاستراتيجية بـ”الهجمات البسيطة لكن الفعاّلة”، فضلا عن استعداد وقدرة المتشددين في أوروبا على تنفيذ مثل هذه الهجمات.
مفاجأة منتظرة
المفاجأة في هجمات بروكسل، التي وقعت في مطار زافنتم وفي محطة المترو القريبة من مكاتب تابعة للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، أنها جاءت في وقت كانت فيه نسبة التأهب الأمني في أعلى درجاتها، وكان متوقّعا أن تشهد إحدى العواصم الأوروبية، خصوصا باريس وبروكسل، اعتداءات إرهابية.
ولكن اللافت في العملية كان تعدّد هذه الهجمات وسرعة تنفيذها، حيث جاءت بعد أيام قليلة من القبض على صلاح عبد السلام المتهم الرئيسي في تفجيرات باريس.
وقد كشفت عملية إلقاء القبض عليه بدوره عن مفاجأة أخرى، تمثّلت في كون عبدالسلام من أكثر الأشخاص المطلوبين في أوروبا، وكان البحث عنه جاريا طيلة أربعة أشهر، ولم يغادر منزله وكان في حيه وقرب منزل أهله، والصدفة وحدها هي التي قادت إلى اعتقاله.
وكان المحققون يعتقدون قبل ذلك أن المتهم استطاع السفر إلى سوريا مرورا بتركيا، فيما تحدّث شهود عيان عن تواجده في مدينة بوردو الفرنسية، أو في ضاحية أوبرفيلييه بالقرب من العاصمة الفرنسية، بيد أنه ثبت أن صلاح عبدالسلام لم يغادر بروكسل، ولم يغادر حيّ مولينبيك، وأنه بقي متخفيا هناك حتى تاريخ القبض عليه الجمعة الماضي.
قبل أن يقتل أقر عبدالحميد أباعود بأنه دخل فرنسا دون وثائق رسمية وتحدث عن اعتداءات أخرى أسوأ
ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن توماس هيغهامر، الخبير في مؤسسة نورويجن دفانس ريسترش استابليشمنت،قوله إن “اعتداءات بروكسل تثبت أنهم على جهوزية كاملة. لا أحد يستطيع التخطيط لعملية من هذا النوع في 48 ساعة (…) ولنقر بأن هذه الهجمات مرتبطة نوعا ما باعتداءات باريس، إنها المرة الأولى التي تتمكن الشبكة نفسها من الضرب مرتين بهذا الحجم”. وأضاف توماس هيغهامر “أخشى من أننا سنحصل جميعا على حصتنا من الاعتداءات”.
ويقول الخبراء إن انفجارات بروكسل هي تذكير بصعوبة منع وقوع هجمات ضد أهداف حساسة، وقد عاشت أوروبا على وقع مثل هذه الهجمات في مرات عديدة على غرار تفجيرات لندن 2005 وتفجيرات مدريد 2004، أي أن هذا الخطر طالما كان متربّصا بالدول الأوروبية ثم تصاعد مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية.
يعرّف خبراء مركز ستراتفور الأهداف السهلة أو الهشّة بأنها أماكن تكون الحركة فيها مقيّدة، على غرار المطارات والمحطات ووسائل النقل، التي تسمح للمهاجمين باستهداف مجموعات كبيرة من الناس. وعلى عكس الأهداف الصعبة، التي تتطلب مهاجمين ضمن فرق كبيرة واستهدافها يحتاج خططا هجومية دقيقة وعبوات ناسفة كبيرة الحجم لاختراق الدفاعات، فإن ميزة الأهداف السهلة أنها تنفّذ من قبل فريق صغير وحتى من فرد واحد باستخدام خطة هجوم بسيطة.
ويؤكّد هذه الرؤية الطيّار جاد الكريم نصر، رئيس مجلس إدارة الشركة المصرية للمطارات بمصر سابقا، مشيرا إلى أنه لا توجد منظومة تكنولوجية أمنية متكاملة في مطارات العالم، والقاعدة تفترض وجود ثغرات، لذلك تلزم المراجعة من وقت إلى آخر لسد هذه الثغرات.
وانتقد الخبير الأمني، في تصريحات لـ “العرب”، مستوى التأمين في المطارات الأوروبية جراء عدم وجود أجهزة فحص بالأشعة عند المداخل، كما أنها توجد فقط عند مناطق الحقائب وصعود الطائرات لتسهيل حركة التنقل، وهو ما أتاح لمنفذي العملية الإرهابية في بروكسل الولوج إلى منطقة قريبة للطائرات داخل المطار.
|
استهداف المطارات
أوضح العميد خالد عكاشة، الخبير الأمني والاستراتيجي، أن استهداف المطارات والطائرات، أصبح هدفا محتملا للجماعات الإرهابية، خاصة أن الحوادث الإرهابية التي تتم بها تترك مردودا كبيرا في الأوساط الدولية، لأنها تثير ذعرا ورهبة لارتباطها بحركة السفر والتنقل للمدنيين ولارتباطها كذلك بحركة السياحة العالمية، بما يعني ضرب اقتصاديات بعض الدول.
وشدد عكاشة على أن الأجهزة الأمنية تواصل بحثها باستمرار عن سبل لتحسين مستويات الأمن والسلامة وضمان مراعاة أمن المطارات، بما يتوافق مع القوانين الوطنية والدولية ولا يترتب عليه تعطيل حركة السفر، نتيجة طول فترة الفحص المخصصة للمسافرين، الأمر الذي يتطلب استخدام التكنولوجيات الفائقة وتعميمها.
ولفت الانتباه إلى أن العديد من الإجراءات قد تكون كفيلة بالحد من ظاهرة الإرهاب في المطارات، عبر منظومة أمنية متكاملة، منها ما تم إعداده من المراقبة عبر الحواجز الإلكترونية، وتقليص عمليات التهريب عبر الحدود التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالإرهاب وتشديد الرقابة على الحدود البرية والبحرية.
وقبل أن يقتل، أقر الزعيم المفترض للمجموعة التي نفذت اعتداءات باريس عبدالحميد أباعود لأقارب له أنه دخل فرنسا “دون وثائق رسمية” مع تسعين رجلا آخرين (سوريون وعراقيون وفرنسيون وألمان وبريطانيون). وكان أيضا تحدث عن اعتداءات أخرى “أسوأ”.
تشتبه السلطات الأمنية الأوروبية وخصوصا في بلجيكا وفرنسا، أن تكون هناك شبكة من الإرهابيين المحترفين يمتلكون إمكانيات لوجستية عالية موجودة على الأراضي الأوروبية تضم في صفوفها متخصصين في صناعة المتفجرات، وهذه الشبكة على استعداد لتنفيذ هجمات جديدة.
وقال محللون متخصصون في الإرهاب إن عملية بروكسل رد من تنظيم الدولة الإسلامية على اعتقال صلاح عبدالسلام. ونوّه خالد عكاشة إلى أن المؤشرات تؤكّد أن تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أعلن مسؤوليته عن تفجيرات بروكسل، يسعى إلى الضغط بقوة على الدول المعنية بمحاكمة عبدالسلام، فرنسا وبلجيكا بالأساس. وكان التنظيم قد نفّذ خلال الأيام الماضية عمليتين في كل من تركيا وبلجيكا.
اعتداءات بروكسل تثبت أنهم على جهوزية. لا أحد يستطيع التخطيط لعملية من هذا النوع في 48 ساعة
وأكد أكثر من مسؤول من مختلف دول العالم في تصريحاتهم على التفجيرات أن عملية بروكسل تؤكد الحاجة إلى رد واسع النطاق، وخاصة من حيث قدرة المجتمعات المحلية على حماية نفسها من الهجمات الإرهابية. وأكّدوا أن الهجمات توضّح الصعوبة التي يواجهها أي بلد، حتى لو كان في حالة تأهب قصوى، مثلما تؤكد على ضرورة اتخاذ تدابير موسعة لمكافحة الإرهاب.
وقال طارق فهمي، الخبير في الشؤون السياسية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، وعضو شبكة مراكز الأبحاث الاستراتيجية بواشنطن، إن الاتحاد الأوروبي في “ورطة كبيرة بعد تفجيرات بروكسل”.
وأشار إلى أن الإرهاب لم يستهدف بلجيكا في حد ذاتها، بل استهدف دول الاتحاد الأوروبي بالكامل، فبروكسل هي مقر البرلمان الأوروبي، لذلك اتخذت معظم دول الاتحاد قرارات احترازية سريعا بعد التفجيرات، منوها إلى أن احتمالات إلغاء مباريات كبرى وتطورات كانت ستقام خلال الأيام المقبلة.
وأضاف فهمي في تصريحات لـ”العرب” أن الاتحاد الأوروبي في هذه الورطة مطالب بـ”اتخاذ مواقف وسياسات مباشرة لمواجهة الإرهاب، وربما تصدر قرارات مهمة عن البرلمان الأوروبي على مستوى دول الاتحاد، في هذا الإطار خلال الساعات القليلة المقبلة”.
وذهب خبراء مركز ستراتفور إلى أبعد من ذلك مشيرين إلى أن التفجير الذي وقع في مطار بروكسل استهدف بالأساس مكتب الخطوط الجوية الأميركية، في رسالة رمزية تفيد بأن المستهدف من هذه العلمية هي الولايات المتحدة الأميركية ومواطنوها بالدرجة الأولى.
استعدادات أمنية
أرخت هذه التحذيرات بظلالها على الكثير من الإجراءات التي تتخذها مطارات دول متعددة في العالم، كما بعثت بجملة من الرسائل الأمنية والسياسية. وقد دعت الحكومات في أوروبا وخارجها إلى عقد اجتماعات أمن وطنية طارئة وتكثيف الضوابط في المطارات وغيرها من المواقع الحساسة؛ حيث أعلن وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف أنه تم نشر 1600 شرطي إضافي حول المطارات ومحطات القطارات في أنحاء البلاد. وتوقفت قطارات تاليس التي تربط باريس ببروكسل وأمستردام وكولونيا.
وقال رئيس الوزراء الهولندي مارك روته إنه جرى تكثيف إجراءات الأمن في المطارات ومحطات القطارات وعند الحدود المؤدية إلى بلجيكا وفي البرلمان الواقع في لاهاي. وقد يتم اتخاذ المزيد من الإجراءات عند الحدود بالتشاور مع ألمانيا وفرنسا. ونصحت وزارة الخارجية مواطنيها بعدم السفر إلى بروكسل.
بدوره قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إنه يعتزم ترؤس اجتماع للجنة الطوارئ الحكومية. وهناك تواجد كبير للشرطة في مطار لندن الرئيسي هيثرو. وجاري نشر المزيد من رجال الشرطة في لندن، التي عاشت سنة 2005 حادثا مماثلا، وغيرها من المدن. ونفس التوجه أعلنت عنه إيطاليا حيث قالت مصادر الشرطة إنه جرى تكثيف إجراءات المراقبة في المواقع الرئيسية بروما مثل محطات المترو والمطارات.
واجتمع في أسبانيا خبراء مكافحة الإرهاب لتقرير مسألة رفع مستوى حالة التأهب الوطني الخاصة بمواجهة الإرهاب. وسارت على نفس التوجه مختلف الدول الأوروبية. ووصل التأهب إلى الفلبين التي أمر رئيسها بنينو أكينو بتكثيف إجراءات الأمن في المطارات وغيرها من محطات النقل في البلاد، حيث من المتوقع أن يسافر الآلاف من الفلبينيين بدءا من الأربعاء إلى الأقاليم في عطلات عيد الفصح.
وفي الولايات المتحدة شددت الشرطة إجراءات الأمن في المدن الأميركية الرئيسية. ونفذت عناصر شرطة- ارتدى عدد منهم ملابس مجهزة لهذا النوع من المهام- دوريات في المطارات ومحطات تبديل الرحلات في نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو وواشنطن في الوقت الذي ألغت فيه خطوط جوية رئيسية رحلاتها المتجهة إلى بروكسل أو حولت مساراتها.
وتكشف هذه الاعتداءات وحالة الهلع التي أصابت كل أوروبا أن شبكات الجهاديين في بلجيكا وفي باقي أوروبا، تبقى قادرة على تنفيذ اعتداءات دامية مهما كانت الضغوط التي تمارسها الشرطة عليها. وقال مسؤول فرنسي في مكافحة الإرهاب “كان العام 2015 صعبا وأخشى أن يكون العام 2016 فظيعا”.
محمد وديع
صحيفة العرب اللندنية