لم يمتلك البيان الصادر عن اجتماع رميلان جرأة إعلان الفيديرالية، بل اكتفى بإعلان نية قيامها أو قيام نظام هجين غير واضح المعالم. فقد نصّ البيان، وبوضوح، على تأسيس هيئة تنظيمية تعمل على «عقد اجتماعي ورؤية قانونية… لهذا النظام [الفيديرالي] في مدة لا تتجاوز ستة أشهر»، ما معناه أن الفيديرالية لم تُعلن بعد.
كما أن البيان يحمل تناقضات: فتارة يؤكد الوحدة السورية، وأن النظام المزمعة إقامته نظام يحرص على علاقة مع «العمق السوري» كونه «جزءاً منه»، وفي موضع آخر يشير إلى إمكان تولّي كيان روجافا الفيديرالي إنشاء العلاقات السياسية والاقتصادية على المستوى الإقليمي والدولي بطريقة تشبه النظم الكونفيديرالية، كالاتحاد الأوروبي مثلاً، فيما النظام الفيديرالي يترك العلاقات الخارجية للحكومة المركزية وليس للحكومات المحلية.
مِن نافلة القول، أنّ هذا الطرح ليس مبنياً على تصورات إدارية علمية لشكل الحكم في سورية المستقبل، بل على تصورات وتطلعات قومية عاطفية للأكراد السوريين، يتبناها طرف سياسي كردي قوي، بالمعنى المناطقي، لكنه يفتقد الديبلوماسية ويستخدم هذا الإعلان للاستهلاك المحلي، وهو ما ترجم بمسيرات شعبية رحبت بـ «الفيديرالية» على رغم أنها لم تعلن بعد! أو ربما كان الأمر ردة فعل غير مدروسة على إقصاء حزب الاتحاد الديموقراطي من جنيف.
لا شك في أن تطلعات الأكراد في المنطقة مشروعة، وأنهم دفعوا الغالي والنفيس لأجل حلمهم ببناء الدولة الكردية، لكن هذا يلقي على عاتقهم مسؤولية أكبر تحتّم عليهم الانتباه الى ماضيهم والتأني في إعلاناتهم المنفردة غير الديبلوماسية، لا سيّما وأنهم اليوم أقوى من ذي قبل، الأمر الذي يفرض عليهم الحفاظ على هذه القوة لضمان حقوقهم في شكل توافقي، وليس عبر تأسيس عداوات محلية وإقليمية تعمل على تبديد هذه القوة.
فالحلم الكردي اليوم في طريقه لأن يتجسد واقعاً، لكن لا يبدو أنه سيكون على الشكل الكلاسيكي الذي يداعب مخيلة الأكراد القومية، أي تأسيس كيان كردي بغطاء فيديرالي. فحدود هذا الكيان تشترك مع تركيا التي لن تتيح فرص الحياة له، ومع كردستان العراق التي على رغم تفوّقها الكمي والنوعي وتجربتها التاريخية وعلاقاتها الجيدة مع تركيا، لم تكن قادرة على تلبية الطموحات الكردية القومية الكلاسيكية، ثم إن لها مِن العداوات مع الكيان الكردي السوري، في بعض المواضع، ما يفوق العداء الذي يكنّه له الجانب التركي.
على المعارضة السورية، من الناحية الأخرى، العمل على احتواء الأكراد وتجنّب دفعهم إلى هذه الإعلانات المنفردة التي قد تكلف المنطقة حروباً أخرى، وعدم التدخل في خياراتهم السياسية، سواء كانت عبر حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي أو المجلس الوطني الكردي. فالمعارضة مطالبة بألاّ تكون مَلكية أكثر من الملوك في مواقفها من الصراع التركي – الكردي. ففي تركيا مثلاً، يجاهر حزب الشعوب الديموقراطي الكردي بعلاقته المباشرة مع حزب العمال الكردستاني، ويصرح بأنه حزب متأثر أيديولوجياً بأفكار عبدالله أوجلان، وعلى رغم ذلك فهو حزب شرعي في تركيا وله 80 عضواً في البرلمان.
والصورة هناك ليست مثالية: فهناك مضايقات واعتقالات في بعض الحالات، إلا أن العلاقة بين حزب الشعوب الأكثر أوجلانية من نظيره الكردي السوري وبين الحكومة التركية تتمتع بسلاسة أكبر من العلاقة بين المعارضة السورية، التي تخشى إغضاب الأتراك، وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية.
أما الفيديرالية وشكل الحكم، فتصورات علينا مناقشتها علانية من دون التسرّع بإعلانها، في وقت لا يزال نظام الأسد محتكراً تمثيل سورية في الأمم المتحدة، أي كيان «الجمهورية العربية السورية»، على رغم العقوبات المفروضة عليه والعلاقات الديبلوماسية المقطوعة بينه وبين العديد مِن الدول.
في النهاية، علينا الابتعاد من شيطنة الفيديرالية وكذلك من المبالغة في تضخيم شأنها. فهي نظام إداري أعطى في بلد مثل أميركا سلطة أكبر للحكومة المركزية بعد أن حل مكان النظام الكونفيديرالي، لكنه أضعف الحكومة المركزية في دول أوروبية كانت تركز السلطة في العواصم.
إن الإجماع السوري مهدد، وأكثر ما يهدده هو الأسد والمنظمات الإرهابية، مثل «داعش» و «النصرة»، وفي ظل هذا التهديد، فإنه إذا كان بحث الفيديرالية وشكل الحكم في سورية ما بعد الأسد يمثّل ضرورة ملحة في شكل إسعافي، فإن إعلانها راهناً يبدو انتحاراً سياسياً بكل مقياس.
عهد الهندي
صحيفة الحياة اللندنية