الجذور الاقتصادية للتطرف السياسي

الجذور الاقتصادية للتطرف السياسي

2013-635180421624942633-494

تشهد الساحة السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا ظاهرة تمدد التيارات اليمينية أو اليسارية المتطرفة في أفكارها سواء تجاه الأقليات أو في أفكارها حول السياسة الاقتصادية. فبروز ظاهرة دونالد ترامب وتيد كروز اللذين يتنافسان على تبني الأفكار المتطرفة، وظاهرة مارين لو بين التي ورثت قيادة اليمين الفرنسي المتطرف عن والدها، لا تعكس فقط نموا متزايدا في حالة العداء للأجانب والأقليات خصوصا المسلمين خلال السنوات الأخيرة، ولكنها تخفي خلفها حالة من الفشل للأنظمة الاقتصادية في هذه الدول في تحقيق التوازن والعدالة في توزيع الدخل بين فئات المجتمع. فحالة التفاوت في الدخل inequality التي تشهدها هذه الدول ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، خصوصا بعد الأزمة المالية العالمية، التي فرضت على الحكومات التدخل بأموال دافعي الضرائب لدعم المؤسسات المالية التي كانت تسقط واحدة بعد الأخرى.

هذه الحالة تمت في الوقت نفسه الذي كان فيه عدد كبير من المواطنين في كل من الولايات المتحدة وأوروبا وعدد من الدول الأخرى يخسرون وظائفهم، وتتزايد معها معدلات البطالة بشكل لم يسبق له مثيل. ففي الولايات المتحدة تجاوزت معدلات البطالة 10 في المائة، بينما تجاوزت في أوروبا 20 في المائة في المتوسط. وفي حين استطاع عدد من المؤسسات المالية تجاوز هذه الأزمة بشكل سريع بفضل الدعم الذي حصلت عليه من أموال دافعي الضرائب، فإن البطالة استمرت في معدلاتها المرتفعة، واستمرت معها معاناة كثير من المواطنين في هذه الدول. وهذا بدوره أسهم في تفاقم التفاوت في معدلات الدخل بشكل كبير في هذه الدول، حيث يحصل ما نسبته 1 في المائة من السكان في الولايات المتحدة على ما نسبته 20 في المائة من الدخل قبل خصم الضرائب.

هذه البيئة من الإحباط في أوساط الطبقات العاملة وخلو الساحة السياسية ممن يستجيب لمتطلباتها أتاحت الفرصة لليمين واليسار المتطرف على حد سواء للمضي قدما بأجندات غريبة لملء هذا الفراغ. فبرز نجم تاجر العقارات دونالد ترامب كأحد أولئك الذين لا يمثلون المنهج الجمهوري التقليدي الذي يحابي ـــ حسبما يراه أبناء الطبقة العاملة من الجمهوريين ـــ رجال الأعمال والأثرياء ولا يقدم لهم ما يرقى إلى تطلعاتهم المعادية لزيادة نفوذ وحجم الحكومة الفيدرالية عليهم من خلال سياسة الضرائب على الدخل. في فرنسا كذلك، استمرت الحكومة في زيادة فرض الضرائب وتقليص مخصصات التقاعد، الضمان الاجتماعي، والخدمات الصحية، لكن دون أي عائد ملموس لأبناء الطبقة العاملة، بل حتى الآن تحقق فرنسا معدلات نمو اقتصادي متواضعة. على الجانب الآخر، برز اليسار في الدول التي عانت أزمة أدت إلى لجوئها إلى برامج إقراض تصحيحية فرضت عليها إصلاحات أدت إلى التأثير في دخول الطبقة المتوسطة كاليونان.

الحالة الأكثر متابعة في هذا الوقت، هي بروز دونالد ترامب وتيد كروز اللذين يمثلان أكثر الحالات تطرفا على جانب اليمين. السؤال: إلى أي مدى يمكن أن تحقق أجندتهما الاقتصادية أهدافها كبديل لأجندة المؤسسة الجمهورية في ظل التفاوت الكبير في الدخل بين الأغنياء والفقراء؟ الجانب الاقتصادي للحملات السياسية لدونالد ترامب وتيد كروز هو الأقل مصداقية، حيث ترتكز أجندتهما على تقليص دور الحكومة، ما يتطلب تخفيض مخصصات الضمان الاجتماعي ونفقات الرعاية الصحية للمتقاعدين، والتحول إلى نظام الادخار الشخصي لتمويل هذه البرامج. وهذا قد يؤدي إلى التضحية ببرامج تشكل الركيزة الأساسية في صلب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة كالضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. لذلك، فإن الحملات التي تدعو إلى تقليص دور الحكومة حاليا ستشكل تحديا كبيرا للمرشحين بالنظر إلى أنها تستهدف برامج تهم شريحة كبيرة من الناخبين، خصوصا في ظل الوضع الذي تتفاقم فيه الفجوة بين فئات الدخل المرتفع والدخل المنخفض. فمعظم شريحة الدخل المنخفض من الأمريكيين تعتمد بشكل مباشر على هذه البرامج، حيث إن 62 في المائة من الأمريكيين لديهم رصيد أقل من ألف دولار، و60 في المائة من البريطانيين لديهم أقل من ألف جنيه استرليني، ما يشكل تحديا لمواجهة النفقات الطارئة. ويعتمد قرابة 60 مليون أمريكي على نفقات الضمان الاجتماعي، كما أن برنامج الرعاية الصحية للأمريكيين يستقطع 39 في المائة من موازنة الولايات المتحدة سنويا.

هذه الأرقام تظهر التحدي الاقتصادي الأكبر الذي سيواجه ناخبي اليمين لتقديم أجندة قابلة للتنفيذ في ظل التفاوت الكبير في الدخل. لذلك، فإن قضية التفاوت في الدخل inequality هي إحدى القضايا المهمة التي ستظل تشكل الرأي العام الغربي سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا. فالأزمة المالية لعام 2008 أسهمت بشكل كبير في تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل أكبر، وأسهم ذلك في تغذية التيارات اليمينية لتلقى أجندتها قبولا أكثر لدى العامة في المجتمع الغربي. بالطبع هذا لا يقلل من التأثير الجيوسياسي للأحداث سواء في أوكرانيا أو منطقة الشرق الأوسط. لكن هذه القضايا يجب ألا تنسينا أن هناك جذورا اقتصادية أخرى لبروز التيارات اليمينية واليسارية المتطرفة في الدول الغربية، والتي برزت على السطح في أعقاب الأزمة المالية العالمية.

د.فهد إبراهيم الشثري

جريدة الاقتصادية