قيادة الولايات المتحدة مهمّة اليوم.. تماما مثلما كانت بعد الحرب العالمية الثانية

قيادة الولايات المتحدة مهمّة اليوم.. تماما مثلما كانت بعد الحرب العالمية الثانية

1000509261001_1628669187001_BIO-Biography-Harry-S-Truman-SF

كيف يمكن أن يبدو شكل العالم اليوم لو أن هاري ترومان أو دوايت ايزنهاور كانا يتقاسمان توجهات السياسة الخارجية نفسها التي يعتنقها باراك أوباما -أو حتى الأكثر خطورة بكثير، دونالد ترامب؟
أشرف أوباما خلال فترته الرئاسية على تجربة الانسحاب من منطقة الشرق الأوسط، وهي منطقة كانت الولايات المتحدة قد اعتبرتها حاسمة وبالغة الحيوية لفترة طويلة. وإذا ما فاز ترامب بالرئاسة، فإنه سيعمل على تسريع هذا الانسحاب وجعله عالمياً، لأننا “بلد فقير الآن”، كما قال لهيئة تحرير صحيفة “الواشنطن بوست” في الأسبوع الماضي.
لكن الظروف أجبرت أوباما على نقض أو عكس وجهة جوانب من تجربته. وشمل عند إحدى النقاط سحب جميع القوات الأميركية من العراق، مع وضع خطط لفعل الشيء نفسه في أفغانستان؛ بالإضافة إلى التخلي عن ليبيا بعد التدخل العسكري لخلع ديكتاتورها؛ وتقديم دعم فاتر للحركة الديمقراطية التي ظهرت في الربيع العربي؛ ورفض مساعدة الذين يقاتلون الديكتاتور السوري بشار الأسد، الذي قال أوباما إنه يفضل الإطاحة به.
وقد صمم أوباما هذه السياسة لأنه كان مقتنعاً، كما قال مراسل مجلة “الأتلانتيك”، جيفري غولدبيرغ، بعد ساعات طويلة من الحوارات التي أجراها مع الرئيس، بأن “الشرق الأوسط لا يمكن إصلاحه -ليس في عهده، وليس لجيل مقبل” أيضاً.
وبعبارات أخرى، فإن من غير المرجح أن تصبح دول منطقة الشرق الأوسط ديمقراطية أو ناجحة اقتصادياً. وسيكون من الأفضل إنفاق موارد الولايات المتحدة على ما وصفه أوباما بأنه “بناء الأمة في الداخل”، وعلى تعزيز علاقات أكثر أهمية في آسيا. ويعارض الناخبون الذين أنهكتهم الحرب في الولايات المتحدة بقاء قواتنا في المنطقة.
الآن، تخيل لو أن ترومان طبق تجربة مماثلة في نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك الصراع المدمر، كانت الحرب قد أنهكت الأميركيين أكثر بكثير من حجم الإنهاك الذي كانوا عليه عندما أصبح أوباما رئيساً. واعتقد الكثيرون منهم في ذلك الحين أن الوقت قد حان للعودة إلى الوطن، وترك دول أوروبا واليابان تتعامل مع مشاكلها الخاصة، بما في ذلك التهديد السوفياتي. كما وفر التاريخ أساساً قليلاً للأمل بأن اليابان أو ألمانيا يمكن أن تصبح ديمقراطية موثوقة. وكانت الولايات المتحدة أكثر فقراً بكثير مما هي عليه اليوم.
مع ذلك، أبقى ترومان قوات أميركية في كل من ألمانيا واليابان -في انتشار ما يزال قائماً إلى الآن بعد سبعة عقود، ومع شكاوى عرَضية فقط من الناخبين الأميركيين. وخصص الكونغرس والرئيس في ذلك الحين الملايين من أموال دافعي الضرائب لإعادة بناء كلا البلدين. والتزمت أميركا باحتلال لمدة سنة، والذي قام بفرص المؤسسات الديمقراطية.
وعندما انتهت الحرب الكورية في العام 1953، بدأ أغرب مما يمكن تصوره احتمال أن تصبح كوريا الجنوبية في أي يوم من الأيام شريكاً تجارياً مهماً وحليفاً للولايات المتحدة، ناهيك عن أن تكون ديمقراطية نابضة بالحياة. ومع ذلك، أبقى آيزنهاور والكونغرس قوات الولايات المتحدة هناك أيضاً، في انتشار ما يزال قائماً بعد ستة عقود -مرة أخرى مع القليل من الاعتراض المحلي.
ونحن نعرف كيف تكشفت هذه القصص. لقد ازدهرت الديمقراطيات في تربة كان الخبراء يصرون على أن لن تكون مضيافة للديمقراطية. وانضمت أوروبا وشرق آسيا إلى أميركا الشمالية في خبرة الحداثة المزدهرة، وهو الأمر الذي ساعد الولايات المتحدة في المقابل على أن تصبح أكثر ثراء. وقد ارتفع متوسط دخل الأسرة في هذا البلد من حوالي 27.000 دولار في العام 1945 إلى أكثر من 62.000 دولار اليوم، بالدولارت المعدلة بالتوافق مع التضخم. وساعد استمرار وجود قوات الولايات المتحدة في الخارج في الحفاظ على حقبة غير مسبوقة من السلام في أوروبا وشرق آسيا.
على النقيض من ذلك، كانت عواقب تقشف أوباما وتخندُقه كارثية. فقد أخلى الاستقرار الهش في العراق مكانه لحرب طائفية متجددة وظهور دولة إرهابية شرسة. وتفككت سورية بسبب حرب قتلت مئات الآلاف، وشردت الملايين، وحرَّضت ما وصفته الولايات المتحدة رسمياً بأنه إبادة جماعية. وأصبح ذلك الصراع -بفضل الإرهاب وتدفق اللاجئين- يهدد الاستقرار في القارة الأوروبية بأكملها. كما تعيش ليبيا، الواقعة عبر البحر الأبيض المتوسط فقط من إيطاليا، حالة من الفوضى أيضاً، مع وجود بؤرة أمامية جديدة لتنظيم “الدولة الإسلامية” ترسخ أقدامها هناك.
بطبيعة الحال، لا بد أن تختلف كل حالة عن الأخرى. وألمانيا ليست كوريا وليست العراق. وليس هناك ما يضمن أن ينتج وجود أميركي ثابت والتزام طويل الأمد شيئاً أفضل بالضرورة. لكن من الصعب أن نتصور كيف يمكن للأمور أن تكون أسوأ أيضاً -مع توفر الدليل الأكثر الأكثر كشفاً، والمتمثل في إعادة أوباما المترددة إرسال نحو 5000 جندي أميركي إلى العراق، وتوجيه الآلاف من الضربات الجوية في العراق وسورية.
وربما تتجسد النتيجة الأكثر ضرراً للكارثة في كيفية تعزيزها رسالة ترامب الانعزالية: إذا كانت الأمور بمثل هذه الفوضى، ألا يثبت ذلك أننا يجب أن نكف عن المحاولة فقط ونعود إلى الوطن؟
لم يكن إغراء الانسحاب في أي وقت بمثل هذه المسافة عن سطح السياسة الأميركية. وكان الأميركيون يشتكون منذ عشرات السنين من أن الحلفاء لم يكونوا يدفعون حصتهم العادلة. وبدا أن شركاء الولايات المتحدة في كثير من الأحيان ليسوا أكثر استحقاقاً لمساعدتنا مما هي دول الشرق الأوسط اليوم، وخاضت الولايات المتحدة شجارات صاخبة مع كل من هؤلاء الحلفاء -على التجارة مع اليابانيين؛ وعلى نشر الصواريخ مع الألمان؛ وعلى حقوق الإنسان مع كوريا الجنوبية. وتساءل الأميركيون دائماً، لأسباب مفهومة: لماذا ننفق في الخارج ذلك المال الذي يمكن أن ننفقه هنا في الداخل.
ولكن، كان هناك دائماً هؤلاء السياسيون الذين يتولون العمل الجاد في بناء القضية لقيادة الولايات المتحدة العالمية، بدءا من رؤساء مثل ترومان وكينيدي وريغان وكلينتون. وهو أصبح اليوم تحت الخطر.

علاء الدين أبو زينة

صحيفة الغد الأردنية