تتواصل أزمات العراق السياسية في ظل استمرار تصويب تهم الفساد لكبار مسؤولي الدولة وصلتهم باختفاء المليارات من ميزانية العراق، فضلا عن صراع الصلاحيات في مؤسسات الجيش، والأدوار المتنامية للميليشيات وتورطها في أعمال القتل والتخريب الطائفي، والانتظار الحذر لحكومة “التكنوقراط” الجديدة التي أعلن عنها حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقي مؤخرا. هذا إلى جانب حالة الغليان التي تشوب الأطراف التي كانت جزءا من المشهد السياسي طيلة السنوات الثلاثة عشرة الماضية، والتي كانت السبب المباشر في عدم الاحتفاء بذكرى التاسع من أبريل 2003.
وسقوط بغداد على يد التحالف الدولي بقيادة واشنطن في 2003 يوازي في ذاكرة العراقيين تاريخ سقوط حقبة من الدكتاتورية وإعلان مولد الحرية وغيرها من المفردات الموغلة في التفاؤل والرومانسية التي رسمها الكثير ممن هللوا لهذه الأحداث. لكن الجنة الموعودة لم تجد سبيلها إلى بلاد الرافدين، ولم يتخلص العراقيون من الشقاء، بل وجدوا أنفسهم يغرقون كل سنة أكثر في وحل السياسات الفاشلة للحكومات المتعاقبة التي ساد معها الفساد واستشرى داخل مختلف مؤسسات الدولة التي أمست عاجزة عن مجرد التوصل إلى حلول كفيلة بإسكات أصوات المعتصمين وتقديم الإجراءات اللازمة لمحاكمة الفاسدين.
هذا الواقع السياسي والاجتماعي والأمني المتردي كان كفيلا بإسكات الأصوات التي احتفت في السنوات الأولى بهذا التاريخ، بل وكانت كفيلة بتغيير حتى ملامح الأماكن.
ساحة الفردوس شاهد خراب العراق
باتت ساحة الفردوس، رمز إسقاط نظام صدام حسين قبل 13 عاما بعد أن أزالت القوات الأميركية تمثاله من المكان، معلما لحجم الخراب الذي أصاب العراق على يد قادته المتناحرين. وتمر اليوم الذكرى الثالثة عشرة لسقوط بغداد عندما اقتربت دبابة أميركية من تمثال صدام الضخم ليصعد أحد جنودها ويلفه بالعلم الأميركي وسط جموع كانت هناك، معلنا نهاية نظام استمر 24 عاما.
لكن الساحة التي كانت تعتبر متنفسا رئيسيا وسط العاصمة لتميزها بالحدائق والنوافير الجميلة أصبحت اليوم مكبا للنفايات وتعاني إهمالا واضحا.
وقال الإعلامي زياد العجيلي إن “هذه الساحة ظلت منذ السقوط الشاهد الرئيسي على خراب العراق”. وأضاف “لا تختلف الساحة البسيطة في مساحتها عن كل المتغيرات السياسية منذ تأسيس جمهورية العراق حتى اليوم”.
والمثير للدهشة هو حجم الخراب المحيط بالساحة رغم وقوعها قرب فندقي ميريديان وشيراتون من الجهة الغربية ومسجد 14 رمضان شرقا.
ساحة الفردوس التي كانت متنفسا رئيسيا لتميزها بالحدائق والنوافير الجميلة، أضحت اليوم مكبا للنفايات وتعاني إهمالا
وتحولت نافوراتها إلى مستنقعات آسنة بالمياه وتحولت حدائقها إلى أعشاب صفراء، كما تكسر عدد كبير من الأشجار المحيطة بالساحة، في حين تمت النفايات المكان. وتحول أحد جدران هذه الساحة إلى معرض للإعلانات والملصقات المهترئة.
وإزاحة تمثال صدام ليست أول تغيير يطرأ على هذه الساحة، فقد شهدت في الماضي عملية إزاحة تمثال نصب للفنان رفعت الجادرجي، إبان ستينات القرن الماضي.
ومنذ التغيير الذي بدأ من ساحة الفردوس، لم يستقر أي تمثال في المكان بعد إزالة تمثال صدام حسين، حيث يبدو أن شبحه لا يزال يطارد هذه الساحة.
ولم يستقر الوضع السياسي في البلاد منذ أن سلمت الولايات المتحدة الحكم إلى مجموعة من السياسيين الذين تقاسموا السلطة وفقا للمحاصصة الطائفية.
وقد أطلقت عليها تسمية ساحة الجندي المجهول إبان عهد “الزعيم” عبدالكريم قاسم وبقي الأمر كذلك إلى حين تسلم صدام السلطة، فقرر نقل التمثال إلى ساحة الاحتفالات في المنطقة الخضراء ووضع لنفسه تمثالا برونزيا مكانه. وأجريت عمليات ترميم لهذه الساحة، لكن لم تصمد بسبب سوء تنفيذ المشاريع التي منحت إلى شركات غير متخصصة على ما يبدو، وهذا جزء من الفساد المستشري الذي ينخر في البلاد.
وقال سامر عبدالستار (32 عاما)، وهو موظف في بنك حكومي بمنطقة الكرادة، إن “الدمار والإهمال لا يطالان الفردوس فقط، إنما يشملان العراق بأكمله”. وأضاف “كل المشاريع الخدمية منحت لشركات فاشلة يهيمن عليها الساسة الجدد الذين وضعوا بصمة خراب في كل بقعة من البلاد”.
العراقيون لازالوا يعانون أوضاعا مأساوية بسبب فساد الطبقة السياسية التي حكمت بعد الاحتلال ونهبت ثروات العراق
الفساد والموت والنزوح
كان الهدف المعلن عن احتلال العراق هو تجريده من أسلحة الدمار الشامل ونزع كافة الأسلحة النووية والكيمائية التي ادعى المسؤولون الأميركيون والبريطانيون حيازتها من قبل العراق وأنها تهدد الأمن والسلم العالميين، فضلا عن التهم المتعلقة بعلاقة العراق بالمنظمات الإرهابية وتقديم الدعم والمساندة للإرهاب. وهي تهم تم تكذيبها في وقت لاحق على لسان مسؤولين من نفس الدول. لكن التراجع عن التهم والاعتذار (توني بلير) لم تحم العراق من الانزلاق إلى الهوة، والدخول في حقبة الدمار التي لم يتوقف نزيفها إلى اليوم.
فقد أدت سنوات الحرب على العراق والسنوات العجاف التي تلت ذلك إلى مقتل قرابة مليون عراقي، وفقا لدراسة نشرتها منظمة طبية، وهو رقم يعتبره المراقبون لا يرقى إلى حقيقة الأرقام في الواقع.
وأصبح النزوح سمة الحياة العراقية اليومية بسبب المعارك المستمرة والمتنقلة من مكان إلى آخر. وذكر تقرير للمنظمة الدولية للهجرة في العراق، أن عدد العراقيين الذين شردهم النزاع في العراق منذ بداية عام 2014، بلغ أكثر من ثلاثة ملايين وربع نازح.
وأكدت المنظمة أن النازحين يمثلون أكثر من 500 ألف عائلة عراقية، وأن نسبة 80 بالمئة من اللاجئين ينحدرون من ثلاث محافظات، هي الأنبار ونينوى وصلاح الدين، والتي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية داعش. أما المهاجرون واللاجئون في الخارج، فتذكر التقارير أن عددهم بلغ أربعة ملايين مهاجر، موزعين على دول العالم كافة.
ولا يزال العراقيون يعانون أوضاعا مأساوية بسبب فساد الطبقة السياسية التي حكمت بعد الاحتلال ونهبت ثروات العراق، حيث تقدر الجهات المختصة فقدان ما يقارب من 800 مليار دولار منذ الاحتلال وإلى غاية اليوم، وخاصة فترة حكم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. أما الوضع الأمني، فتسيطر عليه الميليشيات الشيعية المتنفذة والتي تتحكم في زمام الأمور وتنفذ في كل مرة جرائم تحت غطاء طائفي دون رادع.
وجراء هذا الفساد المستشري والانخفاض الكبير والمفاجئ لأسعار النفط الذي بلغ أدنى مستوياته، وتكاليف الحرب على الإرهاب التي أنهكت الحكومة العراقية، فإن العراق يمر الآن بأزمة مالية خانقة، حيث بلغت نسبة العجز 30 بالمئة أي ما يعادل 29 تريليون دينار عراقي في موازنة 2015.
وفقد العراق جراء ظهور تنظيم الدولة الإسلامية قرابة ثلث مساحته، وأنهك الجيش العراقي في معارك فقد خلالها المئات من جنوده، إضافة إلى دمار مدن بأكملها تتطلب إعادة إعمارها المليارات من الدولارات.
ولا يبدو أن العراق مقبل على سنوات أكثر إشراقا حتى بعد الاحتجاجات المتتالية وتعبير الشعب عن سخطه عن الأوضاع الراهنة، مادامت السلطة بيد نفس الفاعلين السياسيين الذين يتحملون المسؤولية كاملة عما آلت إليه الأمور سواء الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية. وتؤكد مجريات الأحداث أن حكومة التكنوقراط التي يراهن عليها العراقيون سيتم تشكيلها في النهاية على مقاس الائتلاف الحاكم الذي يدين بالولاء لإيران، وبالتالي فإن نفس الأحداث سوف تستنسخ من جديد والسفينة العراقية ستغرق أكثر فأكثر.
صحيفة العرب اللندنية