صدمة الحرب الكيميائية ما تزال تُفزع السوريين

صدمة الحرب الكيميائية ما تزال تُفزع السوريين

عاملون في الدفاع المدني السوري "الخوذات البيضاء" يسعفون أطفالاً بعد جولة من القصف - (أرشيفية)

غازي عنتاب، تركيا- في بعض الأحيان، تكون أربعون ثانية فترة حياة. ذلك هو الوقت الذي يستغرقه برميل البارود حتى يصل الأرض بعد إسقاطه من طائرة عمودية تابعة للنظام السوري، من علو يصل إلى نحو 7000 قدم عن الأرض. وقال لي محمد كتوب، طبيب الأسنان والمساعد الطبي في الجمعية الطبية السورية الأميركية، في مكتبه الواقع على بعد أميال من الحدود السورية: “إنها فترة زمنية طويلة جداً لتعرف إذا كنت ستعيش أم لا”.
المتفجرات الخام، والتي أصبحت ترمز إلى استهداف الرئيس السوري بشار الأسد للمناطق التي يسيطر عليها الثوار، هي براميل نفط تقليدي محملة بشظايا ومتفجرات. لكن شيئاً تغير بعد موافقة النظام على التخلي عن ترسانته من غاز السارين، السلاح الكيميائي الذي استخدمه ضد ضواحٍ في دمشق في آب (أغسطس) من العام 2013 وأفضى إلى مقتل مئات الأشخاص في غضون ساعات. فقد بدأ النظام في وضع غاز الكلور في قنابل البراميل. ومع أنه أقل فتكاً من السارين، فإن الكلور يستطيع التسبب في احتراق العيون والحنجرة وصعوبة التنفس وخلق مرض رئوي، وحتى التسبب بالموت إذا كان عالي التركيز. وبالرغم من أنه غير قانوني عندما يستخدم كسلاح، فإن تقريراً حديثاً صدر عن الجمعية الطبية السورية الأميركية، وهي مجموعة إغاثة طبية، وجد أنه “تم استخدام البراميل المتفجرة المملوءة بغاز الكلور بشكل منهجي في مناطق مدنية تسيطر عليها المعارضة بدءاً من العام 2014”.
وكان مما قيل إن الجمعية وجدت 161 تقريراً مؤكدة عن هجمات شنت بالأسلحة الكيميائية في سورية منذ تفجر الصراع حتى نهاية العام 2015، سوية مع 133 هجوماً آخر تم الإبلاغ عنها، لكنها كانت غير مؤكدة. وثمة 15 ألف سوري هم ضحايا الهجمات الكيميائية، والذين قتل منهم نحو 1500 شخص. ومع دخول الحرب الأهلية السورية سنتها الخامسة، يبدو أن اتفاقاً مؤقتاً لوقف إطلاق النار بين الحكومة السورية والمعارضة قد أنهى الهجمات الكيميائية في الوقت الراهن، بينما تستمر الولايات المتحدة وروسيا في التوسط لاستئناف مفاوضات السلام. (اتهم وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعالون، سورية باستخدام الكلور بعد أيام من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، مع أن اتهاماته لم تتأكد). وبالرغم من أن مجموعة “داعش” والمجموعة السورية التابعة لتنظيم القاعدة، جبهة النصرة، مستثناتان من وقف إطلاق النار، فإن هشاشة الاتفاقية تجعل الكثيرين في البلد خائفين مما سيحدث تالياً من تطورات. وكان تباطؤ وتيرة القتال قد وفر لعمال الإغاثة وموظفي المساعدة الطبية وفرق الاستجابة فرصة للتعامل مع ما فعله الاستخدام المنهجي للأسلحة الكيميائية في الشعب السوري.
في مقابلة أجريت معه، وصف محمد كتوب عمله منذ الأيام الأولى للانتفاضة. وبالرغم من أنه تركز في غازي عنتاب منذ أيار (مايو) من العام 2014، فقد كان يعمل في مستشفى في ضاحية دمشقية عندما شن النظام هجوم غاز السارين الذي أفزع العالم ودفع بالولايات المتحدة تقريباً إلى التفكير بشن حملة قصف رداً على الهجوم الكيميائي. وبالإضافة إلى حالات الرعب الواضحة الناجمة عن خوض تجربة أو مشاهدة هجوم كيميائي، بما في ذلك التوتر واضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب، قال كتوب إنها كانت للهجمات تأثيرات أخرى، مثل وجود حالات أنذار زائفة تكرس الرعب وتضغط على الموارد المحدودة لفرق الاستجابة. ويلاحظ أن العديد من المناطق السورية لا تتوافر على معالجة مناسبة للنفايات، كما أشار كتوب. وتبعا لذلك، فإن الناس يقومون بإحراق نفاياتهم. وقال: “أحياناً تحتوي النفايات على إطار أو شيء -رائحة تختلف عن العادة. وعندما يحدث ذلك، سيشعر الناس بالخوف، وفي كثير من الأحيان نتلقى مكالمات كاذبة” تتحدث عن وجود هجمات كيميائية.
وكانت الهجمات الكيميائية قد أصبحت شأناً طبيعياً في البلد إلى درجة أن البعض لم يعودوا يبالون بها، كما يقول كتوب. وأضاف عن الوقت الذي أمضاه خارج دمشق: “لن أنسى أبداً عندما استيقظت في إحدى المرات وسمعت اثنين من الجيران يتحدثان عن أزمة (نقص) الغذاء في المنطقة”. ثم استحضر حوارهما: “هل سمعت عن البيض اليوم؟” نعم، البيض بسعر دولارين، وهل سمعت أن حرستا (ضاحية من ضواحي دمشق) تعرضت لهجوم كيميائي؟” آه مسكينة حرستا أنا آسف لهم. حسناً، سأذهب إلى السوق لشراء بعض الغذاء”.
والآن، ما يزال الكثيرون يعيشون في حالة خوف دائم. فخلال العامين 2014 و2015 أصبحت الهجمات الكيميائية جزءاً من الحياة اليومية، وإحدى القوى التي تقود الناس إلى الهجرة من البلد. وحتى لو أنه لا يتم استهداف بلدتك بشكل مباشر، فإنها إذا ما عصفت الريح في الاتجاه الخطأ، فإن ضاحيتك من الممكن أن تتأثر. وقال كتوب: “لقد بدأ الناس في فقدان عقولهم”، معتقدين أن كل شيء وأي شيء هو جولة جديدة من هجوم بالكلور أو نوع آخر من الغاز. وقد عكس تقرير الجمعية أصداء هذا الشعور: “بينما كيَّف معظم السوريين حياتهم لتتناسب مع واقع القصف اليومي، بحيث نقلوا التسهيلات الطبية والمدارس إلى أماكن تحت الأرض، فإن تهديد الهجمات الكيميائية يلغي الشعور بوجود أي ملاذ آمن”.
في ثماني محافظات في عموم سورية، ثمة منظمة تدعى الدفاع المدني السوري -تعرف بالعامية بالخوذات البيضاء- والتي تهرع إلى مسرح الهجوم للبحث عن ناجين. وثمة منير مصطفى، الذي كان رجل إطفاء قبل الحرب، وهو حالياً نائب مدير منظمة الدفاع المدني السوري ورئيس فرع حلب في المنظمة. وعبر مترجم، وصف لي ما الذي تفعله قوات الخوذات البيضاء مباشرة بعد وقوع هجوم بغاز الكلور.
قال مصطفى: “إنه أشبه ما يكون بأن أحداً ما قطع أنفاسهم”. أولاً، تحاول المنظمة تخفيف التعرض للكيمائيات مباشرة بعد القصف. ويقول مصطفى: “نقوم بغسل المنطقة التي تعرضت للهجوم بكمية كبيرة من المياه ونضع أقنعة غاز على وجوه المدنيين الذين يظهرون أعراض التعرض للكلور”. وشرح قائلاً: “إننا ننزع ثياب أولئك الذين تأثروا من هجوم الكلور نظراً لأن الملابس تحتفظ بالكميائيات. ثم نقدم لهم الإسعافات الأولية إلى أن يمكن نقل المصاب إلى مستشفى”.
ويقول مصطفى أن وقف إطلاق النار خفض بدرجة كبيرة عدد الضربات الجوية الروسية التي كانت قد قصفت مراراً مناطق مدنية. وقال: “مقارنة بالسابق، قد تكون النسبة الآن هي 1 في المائة”. ومع ذلك، وفي اليوم الذي حديثنا معه، أسقط النظام برميل بارود على بلدة كفر حمرا، في طرف حلب. ويقول مصطفى أنها كانت هناك جروح صغيرة، لكن أحداً لم يقتل وأن القنبلة لم تكن تحتوي على كلور.
كان مصطفى في غازي عنتاب لبضعة أيام خلال وقف إطلاق النار للاجتماع مع أعضاء آخرين في المنظمة. ونظراً لوقوع هجمات أقل تتطلب استجابة المنظمة، فإنهم يعملون على تدريب متطوعين جدد وخاصة من النساء. وهم يأملون في فتح خمسة مراكز قريباً لتدريب مساعِدات طبيات. وفي المجموع، هناك أكثر من 2.900 سوري تطوعوا للانضمام إلى جماعة الخوذات البيضاء منذ تأسيس المنظمة في العام 2013. وثمة أكثر من 107 أشخاص قتلوا أثناء أداء الواجب، بمن فيهم 23 شخصاً في حلب. وكان النظام قد استخدم بشكل منتظم سياسة إلقاء قنبلة ثانية في منطقة كانت قد تعرضت لإسقاط قنبلة أولى عليها، وبعد وصول أول المستجيبين للإغاثة، في ممارسة عرفت باسم “الصنبور المزدوج”.
كما استهدف نظام الأسد المراكز التي تستخدمها جماعة الخوذات البيضاء لتخزين معداتها وهاجم عرباتها عندما تكون في الميدان. وفي حالتين، كان مصطفي شخصياً مطلعاً عليهما، تم قصف مراكز المنظمة بينما كانت الخوذات البيضاء تستجيب لهجوم. وقال عن الخوف الذي تصنعه الهجمات في المدنيين: “بأمانة، وقد جربت بنفسي هذا، إن أسوأ لحظات حياة أي إنسان هي اللحظات التي تلي سقوط برميل البارود إلى أن ينفجر”.
وما تزال ثمة تقارير تظهر عن استمرار النظام في استهداف الخوذات البيضاء خلال الهدنة. وحتى في الحالات التي لا يكونون فيها تحت الهجوم المباشر، فإن وظائفهم تظل خطيرة بشكل لا يصدق. وكان اثنان من أفراد الخوذات البيضاء قد قتلا في الأيام السبعة الماضية، بما في ذلك في ضربة ذكر أنها أفضت إلى قتل 32 مدنياً قبل أيام.
على الرغم من أن كل شخص تحدثت إليه أعرب عن الأمل بأن يصمد وقف إطلاق النار، فإن استمرار النظام في قصف مناطق الثوار يضع استدامة الاتفاق في موضع الشك. وبالإضافة إلى ذلك، لم تكن هناك أي إغاثة للعديد من السوريين الذين يعيشون في مناطق يسيطر عليها “داعش” أو “جبهة النصرة”. ويقول جلال نوفل، العالم النفسي من دمشق والذي يعيش راهناً في غازي عنتاب: “إنه نوع من وقف إطلاق النار الزائف”. ويضيف أنه بالرغم من أن خفض الهجمات يعد بوضوح تحسناً، فثمة قلق دائم من أن الأسد لن يحمل المسؤولية أبداً عن جرائمه. “وثمة شعور بأنه لن يكون هناك أي عدل مطلقاً”.
ومع ذلك، ثمة شيء واحد أظهره الوقف الجزئي للأعمال العدائية، هو أن المقاومة المدنية للنظام ما تزال حية. وفي اليوم الذي سبق مقابلة مصطفى، دعا المتظاهرون في حلب إلى سقوط النظام. ويقول مصطفى: “لقد عاد المتظاهرون إلى الشارع بنفس المطالب وبنفس الهتافات”.
منحت الفترة القصيرة من الهدوء مصطفى وزملاءه لمحة عن كيف يمكن للحياة أن تكون عندما تضع الحرب أوزارها. وقال مصطفى: “نريد استمرار وقف القتال، ونريد الانتقال إلى إعادة إعمار بلدنا”.

عبدالرخمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية