يخطىء من يظن بأن الأزمة السياسية الراهنة والمتمثلة بتشكيل حكومة عراقية جديدة قد تنتهي “بإقالة” رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري ونائبيه، وتكتمل معالم نهايتها في سحب مجلس النواب العراقي الثقة من حكومة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، واعفاء رئيس الجمهورية فؤاد معصوم من منصبه. فالأزمة السياسية الراهنة هي في واقع الأمر حلقة من حلقات الأزمات السياسية في العراق كما إنها أعقد وأعمق من إقالة وسحب واعفاء المسؤولين العراقيين من مواقعهم السياسية.
وتمتد جذور هذه الأزمة إلى تاريخ التاسع من نيسان/أبريل عام 2003م، وهو التاريخ الذي احتلت إدارة الرئيس الامريكي السابق “جورج دبليو بوش” العراق، فهذه الإدارة لم تساعده على تأسيس نظام حكم شبيه بالنظام الأمريكي الذي ارتكز على مفهوم المواطنة بغض النظر عن الاعتبارات الدينية والقومية للمواطن الأمريكي. فالنظام السياسي الذي بُني في العراق نظام توافقي مستند على الانتماءات الطائفية والقومية السابقة على قيام الدولة الحديثة. فهذا التوافق الهش بين شركاء العملية السياسة من أكراد وعرب”سنة وشيعة” في العراق كان سبباً كافياً لكل أزماته السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية التي شهدها بعد نيسان/أبريل عام 2003م. وكان سبباً أيضا في خضوع العراق تحت النفوذ الإيراني.
أدت سياسة التوافق والتفاهمات الأمريكية الإيرانية إلى أن يصبح نوري المالكي رئيساً لمجلس الوزراء في العراق. فبدلاً من أن يعمل على رفعته في مختلف المجالات كأي “رجل دولة” في مرحلة ما بعد الحداثة! بل على النقيض من ذلك، عمل على تأجيج التوتر الطائفي والإثني في العراق، وسعى إلى تركيز الحكم في شخصه، وأنشأ مليشياتٍ مسلحةً في وزارتي الدفاع والداخلية، لا تأتمر إلا بأمره، ارتكبت من الجرائم المروعة ما لا يُحصى. ومع “الانسحاب” العسكري الأميركي، فيكانون الأول/ديسمبر عام 2011م، أطلق رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي العنان لسياساته الطائفية ضد السنة العرب، والإثنية ضد الأكراد. كما أنه أهدر ثروات العراق، وجعل من المصرف “البنك” المركزي العراقي مركزيا تابعاً للنظام الإيراني من أجل تخفيف العقوبات الاقتصادية عليه، وجعل من العراق ممراً لكل المليشيات الشيعية العراقية وغيرالعراقية، للقتال إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد الذي فتك -ولايزال- يفتك بشعبه للبقاء في السلطة.
كما احتل العراق في عهده مركزاً متقدماً على لائحة الدول الأكثر فساداً في العالم. فالثروات العراقية التي جناها من بيع النفط العراقي وعمل على تبديدها كان بمقدورها على إعادة بناء دولة خرجت من تحت الركام. وأمام هذا الوضع المتردي حاول عبثاً خصومه التخلص منه، إلا أنه هو الذي تخلص منهم كتخلصه من طارق الهاشمي نائب رئيس جمهورية العراق. جرى كل ذلك بفضل دعم النظام الإيراني له الذي كان على درجة عالية من التماسك لكي يمضي في سياساته الاستبدادية. إذ يتضح من هذه السياسات بأنه معجب جدا بسياسات الدكتاتوريين في العالم من أمثال رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق ستالين الذي أطلق على نظام حكمه بالستار الحديدي نظرًا لبطشه بخصومه، ويمقت الحكم الديمقراطي والديمقراطيين إذ لم يكلف نفسه عناء القراءة في أنظمة الحكم الديمقراطية والحكام الذين يؤمنون به من أمثال الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول.
فهو أي نوري المالكي ظن كغيره من الحكام المستبدين في دول لم يتم تصنيفها بعد، بأنه سيحكم بلاده العراق-إلى ما شاء الله- غير أن المتغير الأمني الذي لم يكن في حسبانه والذي تمثل في سقوط الموصل في أيدي تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” في حزيران/يونيو عام 2014، أضعف موقفه كثيراً، ما دفع بإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما والنظام الإيراني، إلى التوافق مجدداً على بديل آخر له من داخل حزبه، “حزب الدعوة” الشيعي، وكان ذلك الرجل هو حيدر العبادي الذي ورث عن نوري المالكي الذي أصبح -فيما بعد- بفعل سياسة التوافق الاسترضائية نائباً لرئيس جمهورية العراق- كل السياسات الكارثية في عهده. فعلى الرغم من خروجه الرسمي من الحكم إلا أنه لا يزال يعبث بالمشهد العراقي عبر أدواته التي زرعها في داخل المؤسسات العراقية وخارجها، فهو يؤلمه ذلك الخروج وخاصة بعد أن قام رئيس الوزراء حيدر العبادي بحزمة “إصلاحات” منها إلغاء منصب نائب رئيس الجمهورية، لذلك فهو يسعى إلى تأزيم وتعقيد المشهد العراقي برمته، على غرار الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح الذي تحالف مع الحوثيين من أجل العودة للحكم أو أن يكون لأحد أبنائه نصيباً فيه. فهو أي نوري المالكي يروق له أن يكون علي عبدالله صالح العراق.
فنوري المالكي، وهو زعيم حزب الدعوة الحاكم، كان صريحا في موقفه المعارض لأي تغيير يمكن أن يطرأ على نظام المحاصصة بسبب الإصلاح، معتبرا ذلك التغيير بداية لاقتلاع “النظام الإسلامي”. واعتبر المالكي أن “ما يجري داخل مجلس النواب هو حراك سياسي ناضج”، على الرغم من معارضته في وقت سابق للاعتصامات أمام المنطقة الخضراء، التي قال إنها “تهدف إلى إسقاط العملية السياسية”.
ولا يزال نوري المالكي يحلم بعودته إلى رئاسة مجلس الوزراء العراقي، وهو ما رشّح اتهامات مختلفة له بالوقوف وراء اعتصام البرلمان وإقالة رئيس مجلس النواب سليم الجبوري والضغط لمنع عودته إلى رئاسة مجلس النواب.ويراهن نوري المالكي وحلفاؤه على أن فرض “تنحي” سليم الجبوري وتعيين موال لهم سيسهل مهمة الإطاحة برئيس الوزراء حيدر العبادي، ومن بعده رئيس الدولة فؤاد معصوم. ولا شك أن مسعى نوري المالكي للعودة إلى الواجهة سيجلب الكثير من المتاعب لزعماء الكتل السياسية، ممن أظهروا موقفا معارضا لسياساته، وبالأخص ما يتعلق بالفساد. ويرجح أن يلجأ رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي إلى إثارة الفوضى باعتبارها الخيار الوحيد أمامه إن أفشل الآخرون مسعاه لاستعادة السلطة.
فالأزمة السياسة الراهنة في العراق لا تكمن في مؤسسات النظام السياسي العراقي بحد ذاتها وإنما بل في الأساس التوافقي الذي بُنيت عليه، فرئيس الجمهورية يجب أن يكون من القومية الكردية، ورئيس الوزراء من الطائفة الشيعية، ورئيس مجلس النواب من الطائفة السنية، وأمام هذا التوافق السياسي فمهما خلُصت نوايا أي رئيس وزراء عراقي فمن الصعب بمكان تحقيق أي انجاز يذكر لأنه محكوم بتوازنات ذلك التوافق، وما أدل على ذلك على التغييرات التي لحقت بأسماء حكومة تكنوقراط التي تحولت إلى أسماء من أحزاب العراقية بفعل الضفوطات السياسية التي مورست على رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.
مما تقدم يمكن القول بأن العراق في مرحلة بعد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين والذي يوصف نظام حكمه بالنظام الشمولي، لم يكن العراق بحاجة إلى هذا النوع من الحكم التوافقي الذي كرس من معاناة الشعب العراقي السياسية والاقتصادية والأمنية وإنما كان بأمس الحاجة إلى مُخلص يعمل على توحيد الشعب العراقي كما عمل غاندي في الهند إذ استطاع هذا الرجل -الذي يعتنق الهندوسية- بما يحظى به من عناصر القوة غير المادية(الهيبة،الطاعة،النفوذ) على توحيد جميع طبقات ومكونات المجتمع الهندي ضد المستعمر البريطاني حتى استقلال بلاده في العام 1947م. إذ لم يستأثر هذا الرجل بعد الاستقلال بحكم بلاده وينسبه لشخصه، وها هي الهند اليوم، وبعد عقود من الإستقلال تمثل أكبر”ديمقراطية” في العالم. فعراق اليوم كما كان بالأمس ليس بحاجة إلى نظام سياسي نيابي توافقي بقدر حاجته إلى نظام سياسي نيابي مرتكز على المواطنة، ينتج عنه غاندي العراق. وإلا فأنه فمن الصعوبة بمكان أن يبقى العراق كدولة موحدة في حكم يقوم على المحاصصة الطائفية المقيتة ستفضي في نهاية المطاف إلى تقسيم العراق.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط والبحوث والدراسات الاستراتيجية