في أزمة العلاقات الأميركية التركية

في أزمة العلاقات الأميركية التركية

tu_usa_0

تعيش العلاقات الأميركية التركية هذه الأيام مرحلة مشوبة بالتوتر، لم نشهد مثلها منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، ولعل السبب الأساسي لذلك، هو اختلاف الأجندة إزاء الأزمة السورية وتداعياتها، فقد وضعت هذه الأزمة العلاقة التاريخية بين البلدين أمام ضغط هائل من الخلافات والمشكلات في وقت يدرك كل طرف أهمية الحفاظ على هذه العلاقة لأسباب إستراتيجية.

الثابت والمتحول
اتسمت العلاقات التركية الأميركية بالتحسن المتنامي مع إعلان الولايات المتحدة مبدأ ترومان وسياسة الاحتواء عقب الحرب العالمية الثانية، حيث انطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا من تصور إستراتيجي مفاده الاستفادة من الدور الجيوإستراتيجي لتركيا في مواجهة ما كان وقتها يعرف بالاتحاد السوفييتي، وهو دور لم يتضاءل مع انهيار الأخير.

وانطلاقا من هذا التصور الإستراتيجي أقامت واشنطن علاقات عسكرية وثيقة مع تركيا وبنت قواعد عسكرية على أراضيها، وقد حظيت تركيا على الدوام بمساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة من الإدارات الأميركية المتعاقبة، إلى درجة أن قواتها البرية تتلقى حصة الدعم الكبرى من بين قوات الحلف الأطلسي، بل إن تركيا هي الدولة الوحيدة التي حصلت على ترخيص أميركي بصنع الطائرات أف16.

“اتسمت العلاقات التركية الأميركية بالتحسن المتنامي مع إعلان الولايات المتحدة مبدأ ترومان وسياسة الاحتواء عقب الحرب العالمية الثانية، حيث انطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا من تصور إستراتيجي مفاده الاستفادة من الدور الجيوإستراتيجي لتركيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي “

ومع الزمن شكلت تركيا أحد أهم مفاتيح السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، حيت امتلكت قدرة فائقة على تقديم نفسها للغرب كشريك يمكن الاعتماد عليه في منطقة جيوسياسية بالغة الأهمية، وعليه جمعت بين البلدين روابط أمنية وعسكرية متينة منذ انضمام تركيا المبكر إلى الحلف الأطلسي عام 1952، إلا أن هذه العلاقات الجيدة لم تمنع من حصول فتور في العلاقات بين البلدين في أكثر من محطة، لعل أبرزها كانت عقب الاجتياح العسكري التركي لشمال قبرص عام 1974، ورفض البرلمان التركي استخدام أميركا الأراضي التركية لغزو العراق عام 2003.

واليوم تشهد هذه العلاقات توترا على خلفية تناقض الأجندة إزاء الأزمة السورية بعد أن باتت تركيا في دائرتها الداخلية والخارجية. ثمة من يتحدث في واشنطن عن خيبة أمل باراك أوباما من رجب طيب أردوغان بعد أن اختار أوباما تركيا كأول دولة إسلامية يزورها عام 2009 ومدح النموذج التركي وأكد على ضرورة تعمميه في المنطقة، قبل أن يكتشف أوباما أن ثورات الربيع العربي خلقت شرخا في سياسة البلدين إزاء مستقبل المنطقة والعلاقة بالقوى والأنظمة السياسية فيها.

ونتيجة لذلك باتت مواقف البلدين تحمل أجندة متباينة وبل متناقضة في الكثير من القضايا، وبدأ الإعلام الأميركي بشن حملة شرسة ضد أردوغان شخصيا ووصفه بالدكتاتور والسلطان المستبد القامع للحريات، وحرض الجيش على الانقلاب ضده، فيما يرى أردوغان أن كل ذلك يعود إلى القرار التركي المستقل وللمخططات التي تحاك في الدوائر السرية الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وأن تركيا الحليفة التاريخية للولايات المتحدة ليست مستثناة من هذه المخططات.

قضايا خلافية
لعل أبرز القضايا التي تثير الخلافات بين البلدين هذه الأيام، قضية حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي بدا المستفيد الأكبر من الأزمة السورية بعد أن نجح بفضل الدعم الأميركي والروسي في تحقيق نجاحات على الأرض، تمثل في دحر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق شمال سوريا وشرقها، وأقام إدارة ذاتية قبل أن يعلن عن فيدرالية مؤخرا، مؤكدا عزمه ربط المناطق الكردية في سوريا مع بعضها، بما يوحي بإمكانية قيام دولة كردية على الأرض تمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية السورية وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط على الحدود السورية التركية.

وهذا الأمر ترى فيه تركيا تهديدا إستراتيجيا لأمنها، خاصة أنها تعتقد أن الطرف الذي يقف وراء هذا المشروع هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني، وعليه ترى أن الصعود الكردي المثير في سوريا سيؤثر على المطالب الكردية في تركيا على شكل رفع لسقف المطالب والتطلعات خاصة بعد أن أعلن كرد تركيا تطلعهم إلى إقامة حكم ذاتي.

“لعل أبرز القضايا التي تثير الخلافات بين البلدين هذه الأيام، قضية حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي بدا المستفيد الأكبر من الأزمة السورية بعد أن نجح بفضل الدعم الأميركي والروسي في تحقيق نجاحات على الأرض، تمثل في دحر داعش من مناطق بشمال وشرق سوريا وأقام إدارة ذاتية”

وترى تركيا أيضا -وهي التي دخلت في حرب طاحنة ضد حزب العمال الكردستاني لمنع إقامة مثل الحكم- أن الموقف الأميركي الداعم للكرد لا يشكل تناقضا في المواقف الأميركية فحسب، بل خطرا على تركيا، خصوصا أن سياسة واشنطن في هذا المجال لا تتناسب مع تصنيفها حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، كما ترى أن الإصرار الأميركي على عدم تصنيف حزب الاتحاد الديمقراطي في قائمة المنظمات الإرهابية بحجة أنه حليف لها في محاربة داعش أمر غير مقنع، خاصة أنها قدمت لها العديد من الخطط للاعتماد على الفصائل السورية المسلحة بدلا من وحدات حماية الشعب الكردية في محاربة داعش.

الخلاف الأميركي التركي يشمل كيفية حل الأزمة السورية، إذ ليس خافيا أن أردوغان بنى السياسة التركية تجاه الأزمة السورية على أساس إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد والسعي إلى تحقيق هذا الهدف بكل الوسائل والإمكانات، ومن الواضح أن مثل الأمر غير موجود على أجندة واشنطن التي تركز على أولوية محاربة داعش، والتفاهم مع الروس على إيجاد تسوية للأزمة لا يتضح فيها على وجه اليقين مستقبل النظام السوري.

ينضاف إلى ذلك أن الإدارة الأميركية هي التي وقفت عمليا ضد إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، قبل أن تتدخل روسيا عسكريا في سوريا وتلغي إمكانية إقامة مثل هذه المنطقة، وقد ازدادت شكوك تركيا إزاء الحليف الأميركي عقب إسقاط أنقرة مقاتلة روسية، إذ وجدت أن المطلوب منها أميركيا وأطلسيا هو استيعاب الضغط الروسي وحدها والمهادنة وعدم الانجرار إلى الصدام، لتتحمل وحدها النتائج.

كما أن موقف واشنطن من التصعيد الروسي ضدها لا يتناسب -وفق رؤية أنقرة- ومقتضيات عضويتها في الحلف الاطلسي، وهو ما جعلها تشك في التزامات الحلف نحوها، وربما تحس بأنها عضو من درجة ثانية إن لم تكن ثالثة، علما أن حدودها الجغرافية هي الأهم أمنيا بالنسبة للحلف، لجوارها الجغرافي مع روسيا وإيران والعراق وسوريا.

على وقع هذه الخلافات، برزت قضية الحريات في تركيا ملفا خلافيا جديدا بين البلدين، إذ بدا الإعلام الأميركي والغربي عموما وكأنه في حملة ضد أردوغان شخصيا من خلال إظهاره دكتاتورا قامعا للحريات وللرأي الآخر، ومعيقا للعملية الديمقراطية في البلاد وللنموذج التركي الذي تم التعويل عليه كثيرا.

مستقبل غامض
بالنظر إلى تلك الاعتبارات، يبدو التساؤل واردا بشأن مستقبل العلاقات بين الطرفين، وهل قررت واشنطن إنهاء شراكتها الإستراتيجية مع أردوغان وتسعى للتخلص منه عبر خطوات متراكمة في الداخل والخارج؟ وهو سؤال ربما يأتي طرحه على خلفية حديث بعض الصحف الأميركية مؤخرا عن أن حصول انقلاب عسكري ضد أردوغان لن يؤدي إلى ذرف الدمع عليه في الغرب.

“مع التأكيد على أن الطابع العام للخلاف الأميركي التركي في هذه المرحلة الانتقالية هو حدود الدور والسياسات، فإنه ينبغي القول إن مسار هذا الخلاف بات مرتبطا بمرحلة ما بعد أوباما، بعد أن دخلت قرارات إدارة الأخير في قطار انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية”

بداية، ينبغي النظر إلى أن نشر مثل هذا الأمر في الصحافة الأميركية ومن قبل المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية مايكل روبين، أمر ليس أمرا بلا معنى أو مجرد رأي صحفي، وإنما هو تعبير عن ما يجري في الدوائر السرية والمغلقة، ولكن هل الهدف من طرح الموضوع في الإعلام هو التهيئة الفعلية لأمر من هذا القبيل، أم مجرد الضغط على أردوغان للاستجابة للأجندة الأميركية؟

من المؤكد أن سبب الحملة الأميركية غير متعلق بالحرص على الحريات الصحافية والديمقراطية والقضية الكردية كقضية شعب حرم من حقوقه التاريخية، وأن انقلاب الجيش ضد أردوغان لا يتم من خلال الحديث عنه في الإعلام قبل وقوعه، مما يعني أن الأمر مرتبط أساسا بما هو مطلوب أميركيا من أردوغان.

في الواقع، وعلى الرغم من البعد الإستراتيجي للعلاقة الأميركية التركية، فإنه من الواضح بالنسبة لواشنطن أن هذه العلاقة محكومة بالدور الوظيفي لتركيا وبمدى رؤيتها لحدود دور الحليف التركي.

ولعل مشكلة واشنطن هنا هي أنها بدت ترى أن هذا الحليف يخرج عن هذا الدور ويحاول أن يقوم بدور مستقل حتى لو تعارض ذلك مع الأجندة الأميركية وهو ما لم تعهده واشنطن من أنقرة من قبل، وربما ترى أن السبب الأساسي في ذلك لا يتعلق بتركيا كدولة وإمكانات، وإنما يخص طموحات أردوغان وتطلعاته الكبيرة، وهو ما يستوجب ضغطا خاصا عليه للتجاوب في القضايا الخلافية وفي مقدمتها العلاقات مع إسرائيل.

ومع التأكيد على أن الطابع العام للخلاف الأميركي التركي في هذه المرحلة الانتقالية هو حدود الدور والسياسات، فإنه ينبغي القول إن مسار هذا الخلاف بات مرتبطا بمرحلة ما بعد أوباما، بعد أن دخلت قرارات إدارة الأخير في قطار انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، دون أن يعني ما سبق تغيرا في الثابت الأميركي الذي يقول بأهمية الحليف التركي لأسباب جيوإستراتيجية.

خورشيد دلي

الجزيرة نت