لم ينجح الدروز طوال تاريخهم الطويل في المنطقة، والذي يمتد إلى ألف عام من الاستقرار، على تعريف موحد ونهائي للهوية. فلطالما كانت هذه الهوية خاضعة للتنازع بين جملة تيارات متباعدة ومتناقضة، تمنعها من الثبات والتمركز. وأدّى ذلك التشتّت الكبير إلى قيام صيغة تعريفية للهوية الدرزية، تنبني على معطيات اللحظة التاريخية، وتتحدد على أساسها، ما أنتج تراكم سلاسل من الهويات المتلاحقة والمتعاقبة والمنتسبة إلى مراحل مختلفة والخاضعة لتأثيرات وولاءات وخيارات متناقضة، ولكنها تشكّل من خلال تراكمها الروافد الصانعة للهوية الدرزية والناظمة لها.
كل هذا السياق خلق هوية مرنة ومتحولة وسيالة لا يمكن القبض عليها ولا محاكمة أصحابها، ولا التعامل معهم انطلاقا من تحديدات ثابتة وواضحة. هذه البنية شكلت عامل توحيد بين صيغة هوية تكاد تكون خفيّة، وبين طبيعة العقيدة الدرزية نفسها التي تتسم بالباطنية والكتمان، ورفض الإشهار والعلنية على عكس كل المذاهب الكبرى المنتشرة في المنطقة.
فرض هذا المنطق نفسه كذلك على الممارسة السياسية الدرزية عموما وفي لبنان خصوصا، حيث يتبع الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط في سلوكه السياسي خريطة التحولات المؤسسة للهوية الدرزية، والتي لا تسمح بالمكوث الطويل في موقف سياسي محدد أو الركون إلى صيغة ثابتة وواضحة، أو البقاء في تحالف معين. يتم غالبا تبرير التقلبات الجنبلاطية بأنها من صلب سمات السياسة في الأساس وليست سلوكا خاصا به في محاولة لفصلها عن كلّ المسارات المشكلة للهوية الدرزية، ولكن هذا التناغم الواضح بين عناصر هذه الهوية وبين السلوك السياسي للزعيم الدرزي الأبرز يعلن أن عملية الفصل بينهما غير ممكنة، فالهوية الدرزية تفرض مثل هذا السلوك السياسي، ويقوم هو بدوره بصيانتها وتكريسها.
من هنا لا يمكن القول إنه توجد مراحل محددة في تاريخ الدروز في لبنان والمنطقة بل لحظات قياسا على فكرة العبور والتحول التي يقدمها تعبير اللحظة، وكذلك لا يفصح تاريخ الدروز العقائدي عن بنية تؤيّد طرحه كدين أو حتى كمذهب نهائي مكتمل المعالم، بل لم يكن أبدا أكثر من حالة تستعير مصادر متنوّعة ومختلفة ومتناقضة من مرجعيات عديدة، وتحاول دمجها في بنية واحدة.
طموح اندماجي أكثري مكلف
ما نجح الدروز فيه هو تكريس وجودهم بوصفهم جماعة تعبر في كل حراكها وسلوكياتها عن خطاب لا يحتل فيه الديني والسياسي المرتبة الأساسية والحاسمة، بل تعود اللحمة الأساسية التي تجمع بين أبناء هذه الطائفة، والتي تظهر في لحظات التهديد كعامل فوق سياسي إلى هاجس تاريخي يجدده واقع اللحظة الحالية، وهو هاجس الإبادات. هذا الهاجس هو الذي يحدد خريطة تعريفات الدروز لأنفسهم ومعالم تجديد بنية هويتهم.
جنبلاط يحاول تصميم خريطة نجاة في مرحلة شديدة الحرج لكن متطلبات هذه الخريطة تفترض نسف خصوصية الدروز
أسّس الدروز لأنفسهم خلال فترة الزعامة الجنبلاطية التي طبعت حضورهم الحديث والمعاصر في لبنان والمنطقة لوعي رافض لتعريف الدروز بوصفهم أقليات، كما أنهم لم ينجحوا في الآن نفسه في بلورة اندماج تام وناجح مع الأكثريات الغالبة في المنطقة، وخصوصا المكوّن العربي بوجهه سنيّ الملامح. فرض الواقع العددي على الدروز الابتعاد عن الركون إلى خطاب الأقليات نظرا لأن أيّ استثمار خارجي يمكن أن يستجرّه الدروز فيهم انطلاقا من هذا العنوان لم يحمل الكثير من الإغراء للأطراف المستثمرة، إضافة إلى أن الخطر الذي من الممكن أن يتسبب به للدروز كان خطرا عالي الكلفة. من هنا كان واقع رفض الدروز للمنطق الأقلوي الذي تعتمده جماعات ذات واقع قريب من واقع الدروز ينطلق من استحالة الاستفادة الواضحة منه قبل أن يكون قرارا أو خيارا سياسيا. كذلك انطوت فكرة الاندماج الكلّي في المحيط العربي على مخاطر فقدان الخصوصية والدور، وهو الواقع الذي تكرّس مع خروج الدروز من العداء للعروبة والقومية العربية بل تأييدهم ودعمهم للعروبة، والتأكيد عليها بوصفها مكوّنا أساسيا من مكوّنات هويتهم.
شكلت هذه العروبة أيام المرحلة الناصرية جملة من العناوين العريضة والكبرى، لم يكن الدروز قادرين على التأثير فيها، والحصول على دور خاص أو مميّز داخلها، لذا كانت مدخلا للتهميش الذي استكمل مع خضوع لبنان للعروبة بصيغتها البعثية والتي كان اغتيال الزعيم الدرزي التاريخي كمال جنبلاط عام 1977 مدخلا لإحكام سيطرتها على القرار اللبناني بشكل عام. كان كمال جنبلاط قد حاول عبر عنوان العروبة والتحالف مع المقاومة الفلسطينية ومحاربة الطغيان واليمين اللبناني الذي كان يمثل المارونية السياسية، أن يصنع دورا للدروز يتجاوز بكثير واقعهم الديمغرافي وواقع حضورهم العسكري الذي كان يتمثل في الحزب التقدمي الاشتراكي. هذا الدور كان ممنوعا بنظر العروبة الأسدية وذلك بغض النظر عن الشخص الذي يحاول القيام به، فالزعامة التي كانت البعثية الأسدية مستعدة للقبول بها والتعايش معها، هي تلك الزعامة التي لا تتجاوز في أقصى حدودها حدود طائفة الزعيم، حيث لا يمكن لأيّ شخصية أن تشكّل حالة وطنية عامة يمكن أن تكون منطلقا لدور أوسع يتصل بالمنطقة والعالم. هذا الدور الممتنع هو ما دفع بالعروبة الأسدية إلى اغتيال زعيمين لبنانيين تاريخيين كان أولهما كمال حنبلاط والآخر كان رفيق الحريري.
اغتيال كمال جنبلاط استتبع خضوعا درزيا شاقا ومريرا لوصاية العروبة الأسدية التي كانت متعايشة ومتفاهمة مع المحيط العربي، وكانت سيطرتها على القرار اللبناني ككل جزءا من اتفاق دولي عربي محلي.
حلّ الدروز في ظل هذه السيطرة في موقع شديد التّهميش وتلاهم خصومهم التاريخيون الموارنة في الخضوع إلى مفاعيل التهميش. نما في الآن نفسه الحضور الإسلامي بشقيه الشيعي المسلح، الذي سمح بتوسّعه على حساب الدولة والمؤسسات تحت عنوان المقاومة، وبجناحه السنّي الذي نجح رفيق الحريري من خلاله منذ ظهوره في تكوين مركز خاص للسنة في الحكم عبر صيغة تعايش ثابتة مع العروبة البعثية السورية ومن خلال تصميم شبكة صلات واسعة مع سائر مكونات الاجتماع اللبناني الطائفي جعلت منه شخصية تجمع العناصر النخبوية اللبنانية المؤثرة على قبولها مقبولة بوصفها ضامنة لمصالح الجميع.
الصعود الإسلامي في لبنان لم يكن لصالح الدروز إطلاقا، فقد أعاد هذا الصعود طرح سؤال الموقع والدور والمصير إلى الواجهة بقوة، وخصوصا أن حرص الدروز على الإعلان عن أنفسهم كعرب وكجزء من الطوائف الإسلامية، لم ينعكس إيجابا على منحهم دورا ملحقا بواقع نفوذ القوى الإسلامية السنية والشيعية، بل تمّ التعاطي معهم على الدوام كحالة تستخدم للتأثير على إحدى هاتين القوتين وحسب، وليس كحالة تملك حضورا خاصا. انتشر هذا المنطق في التعامل مع الدروز وخصوصا بعد أن أعاد جنبلاط التصالح مع النظام السوري الذي كان قد وصفه إبان إحدى احتفالات ذكرى الرابع عشر من آذار بنعوت غير مسبوقة، كانت نابعة من تقديره الذي يؤمن بقرب نهاية عدوه الأساسي، الذي لا يوازي عداءه العميق له سوى عدائه للموارنة، والذي لم تنجح كل التقلبات السياسية ولا المصالحات والتحالفات في محوه.
إعادة التموضع دفعت بجنبلاط الذي كان شريكا لقوى الرابع عشر من آذار إلى إسقاط حكومة سعد الحريري، وإعلان العودة إلى الوسطية في محاولة للعب دور خطر وغير مضمون ويقوم على ابتزاز يخلّف في نفس من يخضع له مرارة وعداوة تنتظر الفرصة للانتقام ورد الصاع صاعين. هكذا جعل جنبلاط الدروز خصوما للسنّة وحلفاء غير موثوق بهم للشيعة، إضافة إلى الإبقاء على خصومتهم التاريخية للمسيحيين عموما وللموارنة خصوصا.
لحظة الحرب السورية أفرزت واقعا سنيا جديدا سقط فيه مشروع الاعتدال، ونتج كبديل عنه إسلام سنّي متشدد وحربي، يحاول التوازي مع الإسلام الشيعي الأيديولوجي الذي يحاربه. الدور الذي كان يحلو لجنبلاط لعبه في لبنان والذي اصطلح على تسميته بدور “بيضة القبان” لم يعد قابلا للاستعمال بعد التطورات السورية دموية الطابع، والتي فرضت على الدروز سلسلة من التكيّفات مع فصائل وتيارات إسلامية متباينة، إضافة إلى تعايش صعب ومكلف مع متطلبات النظام، ومساعيه إلى جرّهم إلى ساحة المعركة لصالحه وفرضه التجنيد الإجباري عليهم. محاولات التكيّف ولعب دور يتناسب مع مصلحة الدروز لم يكن ناجحا إطلاقا، لأن منطق المعالجة بالابتزاز والحيلة لم يعد نافعا في مواجهة خصوم مثل النصرة وداعش والفصائل الإسلامية المتشددة، وكذلك لم يعد التفاهم ممكنا مع النظام السوري من دون دفع أكلاف بشرية باهظة ومكلفة للغاية.
هكذا كانت الحصيلة أن سقط للدروز وفق إحصائيات تعود للعام 2015 حوالي 1500 شاب في صفوف النظام، وكلفتهم التوترات مع النصرة وغيرها سقوط العشرات من القتلى من قبيل مقتل عشرين شابا درزيا على يد جبهة النصرة في قرية لوزة في ريف إدلب شمالي سوريا. يضاف إلى ذلك تشتت القرار الدرزي وتوزع ولاءاته بين النظام وقوى المعارضة، ففي حين شكلت مجموعة مشايخ الكرامة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس حالة رافضة للتجنيد الإجباري ومعارضة للنظام، شكل شيخ العقل حكمت الهجري حالة موالية للنظام راحت تدعو الشباب الدروز إلى الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية ومحاربة المعارضة. هكذا وجد الدروز أنفسهم عرضة للانتقامات من الطرفين، إضافة إلى ابتكار الفصائل الإسلامية صيغة للتعامل معهم تقوم على أساس التشكيك بمذهبهم، ودعوتهم إلى العودة إلى الإسلام الصحيح أي الإسلام السني، وهو ما فعله الدروز في بعض المناطق الخاضعة لسلطة الفصائل الإسلامية المتشددة مثل إدلب، حيث أعلن الدروز توبتهم وعودتهم إلى الإسلام الصحيح، وبذلك لم يعودوا دروزا.
الخلاصة التي توصل إليها وليد جنبلاط تقتضي باعتبار نفسه محايدا لبنانيا وأقرب إلى التفاهم مع حزب الله، وهكذا يحيّد طائفته ويمنع وقوعها في دائرة العداء مع الشيعة وحزب الله في الداخل، كما أنه من ناحية أخرى عمد إلى نسب نفسه وطائفته إلى المذهب الإسلامي السنّي
دروز الشيعة ودروز السنة
دفعت تطورات الحريق السوري الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى تصميم خريطة نجاة يستجيب فيها لثنائية التهديد الوجودي القائمة حاليا والتي تتمثل بالشيعة والسنة. قرأ أن التهديد الشيعي تنحصر مفاعيله بالنسبة للدروز في الساحة اللبنانية الداخلية، أما التهديد السني فإنه الخطر الوجودي الذي يهدد بإبادة الدروز الذين لا يشكلون أقلية، يمكن منحها امتيازات انطلاقا من إمكانية الاستثمار الحربي فيها لمحاربة الإرهاب، كما هو حال الأكراد مثلا. يعود سبب انعدام إمكانية انتزاع دور خاص للدروز، انطلاقا من هذا المنطق الذي يجتهد حزب الله في محاولة الحصول عليه، إلى جملة أسباب أبرزها أن عدد الدروز قليل جدا قياسا على سائر الأقليات الموجودة في المنطقة، إضافة إلى أن وجودهم ينحصر في لبنان وسوريا وفي فلسطين المحتلة، وهم محاصرون في كل مناطق وجودهم بفيض إسلامي ديمغرافي هائل. وضع الدروز ليس كوضع الأكراد مثلا حيث أن عدد الأكراد في العالم يبلغ حوالي الـ30 مليونا، وهم يملكون قوة عسكرية منظمة وكبيرة وفاعلة يمكن الاعتماد عليها لتحريك واقع عسكري معيّن، ما يسمح بمنحهم حضورا ودورا لا يسمح واقع الدروز لهم بالحصول على ما يوازيه.
الخلاصة التي توصل إليها وليد جنبلاط تقتضي باعتبار نفسه محايدا لبنانيا وأقرب إلى التفاهم مع حزب الله، وهكذا يحيّد طائفته ويمنع وقوعها في دائرة العداء مع الشيعة وحزب الله في الداخل، كما أنه من ناحية أخرى عمد إلى نسب نفسه وطائفته إلى المذهب الإسلامي السنّي، ودعا إلى الجهر بالصلاة وإعادة إعمار المساجد في المناطق الدرزية ورفض، بشكل فاجأ الجميع حين أعلنه، اعتبار جبهة النصرة منظمة إرهابية.
سلوك جنبلاط هذا يحاول تصميم خريطة نجاة درزية في مرحلة شديدة الحرج، ولكن متطلبات تصميم هذه الخريطة تفترض نسف بنية خصوصية المذهب الدرزي وباطنيته، واجتراح أصل جديد له يماهيه مع إسلام سني لا يجد أيّ إغراء في إضافة جماعة صغيرة يبلغ عدد أتباعها الثلاثة ملايين شخص على الأغلب. لذا فإنه حتى لو أعلن الدروز سنيتهم، وهو ما لا يمكن إخفاء أسبابه المرتبطة برعب الإبادات، فإن دمجهم في الجماعة السنية التي ركّبت خلال السنين صورة سلبية عن سلوك الدروز توحده مع بنية التقية الراسخة في أصل المذهب الشيعي، لن يكون متيسرا دون عملية إذابة كاملة لكل خصوصية هذه الجماعة. من هنا سيكون الدروز سنّة “قيد الدرس“ دائما، كما أن حضور الباطنية في هذا المذهب مرجحة للازدياد، لأن الدروز سيمارسون طقوسهم بمزيد من السرية.
التهديد الذي يطال الدروز يرتبط في بعده الأكثر راديكالية بتحويلهم إلى مجرد أصحاب طريقة وإلى دروشتهم، بمعنى نزع الفاعلية السياسية عنهم، وضرب بنية العصبية التي توحّدهم، والمهددة بالتلاشي إثر الاصطدام المؤلم بعنصر شمولي واسع كالإسلام السني. كذلك قد يشهد المعطى الديمغرافي الدرزي تراجعا سريعا إذا ما فرض على الدروز الخروج من دائرة التزاوج الداخلية.
الدروز ليسوا أقلية، وليسوا سنّة ممكّنين ولا شيعة تاريخيين، إنهم أبناء الخصوصيات المتعايشة التي كانت علامة تميز لبنان والمنطقة، وقد باتت الآن عنوانا للحظة ممتدة لم تعد الخصوصيات تعرّف فيها عن نفسها بغير الدم.
شادي علاء الدين
صحيفة العرب اللندنية