من أبرز سمات المرحلة السياسية الحالية في العراق، أنها قادرة على افتعال الأزمات تلو الأزمات، وكأن غالبية السياسيين مبدعون في إدخال البلاد بأزمات معقدة ومركبة، وكأن ذلك جزء من الأدوار المرسومة لهم.
منذ أن انطلقت دعوات الإصلاح -البريئة وغير البريئة- ونحن نتابع فنون التسويف والمماطلة والوعود الخيالية، التي أكدت أن هؤلاء يتبادلون الأدوار بينهم لكسب الوقت، واغتيال فكرة الإصلاح.
مطالب الإصلاح المتعالية في العراق منذ عدة أشهر، ضرورية، وإنقاذية لبلاد انغمست بأنواع الفساد المالي والإداري كافة. لكن الغريب أن غالبية دعاة الإصلاح نسوا -أو تناسوا- أنهم جزء من هذا الخراب، وكأنهم يريدون أن يلبسوا ثياباً جديدة يخدعون بها الجماهير الكادحة. وهذا في الواقع مشهد من مشاهد مسلسل الفساد المستشري في البلاد.
سرطانات الفساد تنخر اليوم أجساد المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة العراقية. ولا أظن أن هذه الحقائق بحاجة إلى أدلة، لأن بعض السياسيين بدأوا يصرحون بمثل هذه الحقائق ضد بعضهم بعضا، ووسائل الإعلام مليئة بتلك التصريحات الكافية لإدانة هؤلاء الساسة.
مسلسل الأحداث المتناقضة والاتهامات المتبادلة وصل هذه الأيام إلى أروقة البرلمان العراقي، حيث وجدنا أنفسنا أمام فصول جديدة من مسرحية التمثيل المتميز على مسرح البرلمان، ورأينا كيف أن الممثلين -البرلمانيين- قد غيروا رئيس البرلمان ونائبيه، وهم -أي الانقلابيون- يعلمون أن الخطوات التي أقدموا عليها غير قانونية ومخالفة للمادتين (11) و(12) من النظام الداخلي لمجلس النواب العراقي، ورغم ذلك استمروا بالصعود على خشبة المسرح، وكان مرادهم نقل كرة الإصلاح الملتهبة من ملعب رئيس الحكومة حيدر العبادي إلى ملعب رئيس البرلمان سليم الجبوري، وهذا جزء من جريمة التسويف، وإهدار للوقت، ودليل قطعي على عدم جديتهم في إيجاد مخرج منطقي وعلمي وعملي للمعضلة العراقية المعقدة.
وحقيقة أن ما جرى لم يكن بريئاً، أكدتها صحيفة “ميدل إيست آي” الإلكترونية، إذ ذكرت الأحد الماضي أن “رئيس الحكومة السابق (نوري المالكي) هو من يقف بالفعل وراء الاضطرابات الأخيرة التي شهدها مجلس النواب”، وأنه “يحاول ضرب رئيس الوزراء (حيدر العبادي) بأي وسيلة ومهما كانت النتائج”، وأن “كل ما جرى خلال جلسة الخميس كان تحت إشرافه”. فهل من الحكمة إهدار الوقت والطاقات، أم على “ممثلي الشعب” أن يسابقوا الزمن من أجل تحقيق مصالح الوطن والمواطنين؟! وهل هذه الأساليب الملتوية يمكن أن تقدم الخير للمواطنين؟ وهل بهذه الطرق غير الصحية يمكن إنقاذ العراق من الكوارث، من قبل منْ يفترض أنهم يمثلون الشعب؟!
هكذا سيبقى هؤلاء يفتعلون الأزمات لتحقيق أهدافهم الشخصية، عبر أطراف مساندة لهم بصورة علنية أو سرية، داخل البرلمان وخارجه. وهذه الأساليب -وإن كانت في ظاهرها تدعو لتحقيق مصالح المواطنين- أثبتت التجربة عدم جدية وصدق غالبية أصحابها في مطالبهم. وأعتقد جازماً أن العراقيين متفهمون لكل هذه الفصول المسرحية.
الحل الأمثل لإنهاء التناحر السياسي والخراب العام في العراق ليس عبر مزيد من المسلسلات والمسرحيات الهزيلة أمام وسائل الإعلام، وإنما الحل يكمن في إدارة وطنية جادة تنهي المحاصصة وتوقف ورم الأحزاب الطائفية، ونبذ الخلافات الجانبية لإنقاذ المركب العراقي من تداعيات سموم وأورام الدمار الإداري والقضائي، قبل أن نجد أنفسنا في يوم من الأيام مواطنين بلا وطن، وبرلمانا بحاجة لبرلمان، ونكون حينها قد أرجعتنا الولايات المتحدة فعلاً -كما وعدت- للقرون الوسطى!
فهل أرض العراق وصلت إلى هذه الدرجة من العقم التي لا نجد فيها قيادة عراقية وطنية مخلصة؟! فعلاً إنها مواقف يصبح فيها الحليم في حيص بيص.
د.جاسم الشمري
صحيفة الغد الأردنية