تشهد الجهود التي تبذلها إسرائيل وتركيا لإصلاح العلاقات الثنائية المتوترة بينهما تقدماً جلياً. فقبل أسبوعين، في أعقاب جولة أخرى من المحادثات، أعلنت وزارة الخارجية التركية أنه من المتوقع التوصل إلى اتفاق بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل قريباً. وفي وقت سابق، اجتمع وزيري الطاقة من البلدين بعيداً عن أعين الجمهور وذلك خلال “قمة الأمن النووي” التي عُقدت مؤخراً في واشنطن، وهو أول اتصال على مستوى وزاري يحصل بين الطرفين منذ عام 2010، عندما حاول أسطول صغير من السفن برعاية تركيا كسر الحصار البحري الذي تفرضه إسرائيل على حكم حركة «حماس» في غزة، مما أدى إلى حدوث مواجهة عنيفة.
ومع تقدم محادثات المصالحة في الأشهر الأخيرة، تحسّن جو العلاقات بين الحكومتين بشكل ملحوظ. فبعد الهجوم الذي شنه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») في 19 آذار/ مارس في اسطنبول، والذي راح ضحيته ثلاثة سياح إسرائيليين إلى جانب آخرين، بعث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو رسائل تعزية للجانب الإسرائيلي، كما اتصل الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين بالرئيس أردوغان هاتفياً في أول محادثة تلفونية على المستوى الرئاسي بين البلدين منذ ست سنوات. كما أشادت القدس علناً بالطريقة التي تعاملت فيها أنقرة مع عملية إخلاء الضحايا الإسرائيليين. ومع ذلك، فإن التحديات التي تواجه التوصل إلى اتفاق دائم تتجاوز عالم الإيماءات الدبلوماسية الواعدة.
إحياء الاهتمام في المصالحة
حتى وقت قريب، كانت جهود المصالحة تتسكع منذ عدة سنوات شهدت خلالها صعوداً وهبوطاً في وتيرتها. فقد كان الطرفان قريبين من إبرام اتفاق تطبيع في عامي 2011 و 2013، ولكن أي منهما لم يشعر بأنه مضطر لاتخاذ خطوة إضافية لوضع اللمسات الأخيرة عليه. إلا أن الاهتمام التركي باستعادة العلاقات تزايد في الأشهر القليلة الماضية، فيما أصبحت إسرائيل تقدّر بشكل أفضل فوائد المصالحة مع طرف إقليمي هام وسط بيئة مضطربة.
ومن جهته، أعرب أردوغان عن رغبته المتجددة في التطبيع عبر قنوات عديدة، من بينها عن طريق نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي زار أنقرة في 21 كانون الثاني/ يناير والقدس في 8 آذار/ مارس. بالإضافة إلى ذلك، عقد رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى اجتماعين مغلقين مع أردوغان: في أنقرة في 9 شباط/ فبراير وفي واشنطن في 30 آذار/ مارس. كما عقد الرئيس التركي اجتماعاً لحكومته في 22 شباط/ فبراير لمناقشة عملية المصالحة، مع إشارة صحيفة “حرييت” التركية إلى أن الجو الذي طغى على الاجتماع كان إيجابياً ومتفائلاً. وفي الآونة الأخيرة، وخلال الخطاب الذي ألقاه في 31 آذار/ مارس في “معهد بروكينغز” في واشنطن، خصص أردوغان وقتاً لمناقشة المصالحة مع إسرائيل أطول من الوقت الذي خصصه لأي موضوع إقليمي آخر، وتكهن بأن المفاوضات في طريقها إلى نتيجة ناجحة.
ونمت مصلحة تركيا في التقارب مع إسرائيل مع رزوح سياساتها الإقليمية تحت وطأة الاضطرابات المستمرة، لاسيما في سوريا، حيث فشلت أنقرة في تحقيق هدفها الكامن في الاطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد. كما أن العامل المهيمن الآخر هو الأزمة المتفجرة في العلاقات مع روسيا بعد نشر موسكو قواتها لدعم الأسد في أيلول/ سبتمبر وإسقاط تركيا طائرة روسية في مجالها الجوي بعد ذلك بشهرين. وفي مواجهة هذه التحديات والتهديدات المتزايدة التي يطرحها تنظيم «داعش»، أدركت أنقرة الفائدة من تحسين العلاقات مع طرف إقليمي مستقر مثل إسرائيل يتشارك معها استياءها تجاه المحور الموالي للأسد.
وبصرف النظر عن الخلافات السياسية بين الجانبين بشأن القضية الفلسطينية، تحمل إسرائيل أيضاً المفتاح لدور تركيا في قطاع غزة، والذي له أهمية لحكومة أردوغان لأسباب تناقش أدناه باستفاضة. إلى جانب ذلك، من المحتمل أن مصالح الطاقة المشتركة تدفع بجهود التطبيع أيضاً. فإسرائيل تريد جني الفوائد الاقتصادية والسياسية من تصدير الغاز الطبيعي من الحقول البحرية إلى تركيا. ومن شأن أي صفقة من هذا القبيل أن توفّر لأنقرة إمدادات رخيصة من الغاز، وفرصة لإعادة تصدير بعض من هذا الغاز إلى أوروبا، ووسيلة لتنويع وارداتها من الطاقة بعيداً عن روسيا التي توفر حالياً نحو 55 في المائة من الغاز لتركيا. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأزمة السياسية بين تركيا وإسرائيل لم تقوّض العلاقات التجارية المدنية بين البلدين، والتي استمرت في النمو؛ كما أن “اتفاقية التجارة الحرة” بينهما، التي وُقعت في التسعينيات، لا تزال قائمة.
التحديات التي تواجه الاتفاق
اتفقت إسرائيل وتركيا على الشروط الأساسية لتطبيع العلاقات في عام 2011، ولكن بعض هذه الشروط لا تزال بانتظار اتخاذ قرار نهائي حولها على الرغم من التقدم الذي تم إحرازه مؤخراً. ففي آذار/ مارس 2013، ومن خلال وساطة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، اتصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو [هاتفياً] مع الرئيس أردوغان للاعتذار عن “أخطاء عملياتية” إسرائيلية أسفرت عن خسائر في الأرواح التركية على متن السفينة التي تصدرت الأسطول في عام 2010 (رغم أن إسرائيل ترفض الاعتذار عن عملية توقيف السفينة، والتي تعتبرها عملاً مشروعاً للدفاع عن النفس). بعد ذلك، وافقت إسرائيل على دفع تعويضات لعائلات الضحايا الأتراك بمجرد التوصل إلى اتفاق نهائي، وذلك عن طريق صندوق دولي خاص قيل إن مجموعه يبلغ حوالي 20 مليون دولار.
في المقابل، وافقت تركيا على سحب جميع لوائح الاتهام أو الإجراءات الأخرى، العامة أو الخاصة، ضد الإسرائيليين المتورطين في الحادث، أو حجبها. وقد اعترف أردوغان علناً بأن هذه المسألة “تمت تسويتها إلى حد ما”.
بيد، تتجلى العقبة الرئيسية في استمرار طلب تركيا بأن تشمل الصفقة رفع “الحظر” أو “الحصار” الإسرائيلي عن قطاع غزة. وفي هذا الإطار، تبرز الخلافات السياسية الرئيسية بين الطرفين، والتي كانت سبب حادثة أسطول الحرية في الأصل.
من جهتها، اعترضت إسرائيل على طلب رفع “الحصار”، لافتة إلى أن مئات الشاحنات تعبر يومياً من إسرائيل إلى قطاع غزة محمّلة بالمواد الغذائية والدواء والمواد اللازمة لإعادة الإعمار. لذا ركز المفاوضون على طلب تركيا الوصول من دون عائق من أجل تنفيذ مشاريع الإسكان وإعادة إعمار البنية التحتية. كما طلبت أنقرة إرساء سفينة لتوليد الطاقة في البحر قرب الشاطئ للمساعدة في حل نقص الكهرباء الحاد في القطاع.
وبالنسبة إلى إسرائيل، إن هذه المطالب حساسة جداً من الناحية السياسية والأمنية. فتركيا من أشد مؤيدي الحركات الإقليمية المتحالفة مع جماعة «الإخوان المسلمين» وتسعى علناً إلى تمكين حركة «حماس» التي تدور في فلك الجماعة في غزة، والتي تتعهد رسمياً بالقضاء على إسرائيل. وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، تم جر إسرائيل إلى ثلاث جولات من القتال مع «حماس» وغيرها من الجماعات المسلحة في غزة إثر عملية إطلاق الصواريخ المستمرة وغيرها من التدابير الاستفزازية. واليوم، لدى إسرائيل مصلحة واضحة في إعادة إعمار القطاع وهي تعمل بنشاط على تسهيل هذه الجهود، معتبرة أنه يمكنها أن تقلل من خطر تفجر عنيف آخر للأوضاع. مع ذلك فهي تدرك جهود «حماس» الحثيثة لإعادة التسلح، من خلال عدة طرق من بينها تحويل المساعدات الإنسانية. لذلك، تصر إسرائيل على أن يتم إيصال جميع المساعدات الخارجية لغزة ضمن ترتيبات أمنية راسخة – إن كان ذلك ممكناً في إطار هدنة طويلة الأمد مع «حماس»، عن طريق الوساطة بمشاركة السلطة الفلسطينية.
ومن العقبات الأخرى الهائلة التي تحول دون تطبيع العلاقة، معاداة أردوغان الشديدة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. فقد حاولت أنقرة أن تقدم شكوى لمجلس الأمن الدولي ضد حكومة السيسي من أجل فرض عقوبات عليها بعدما أطاحت بحكومة «الإخوان المسلمين» المدعومة من تركيا برئاسة الرئيس المصري السابق محمد مرسي في عام 2013. وفي المقابل، استخدمت مصر بطاقة قبرص، إذ بنت علاقات حميمة مع القبارصة اليونانيين وأجرت مناورات عسكرية مشتركة معهم ومع اليونان وإسرائيل في عام 2015. وفي الوقت نفسه، إن العلاقات المصرية الإسرائيلية هي الآن في أفضل حالاتها منذ عقود (وإن كانت بمعظمها سرية)، وقد أوضح السيسي لإسرائيل أنه يجب ألا تقوم جهود تطبيع علاقاتها مع أنقرة على حساب مصالح القاهرة.
وبالإضافة إلى ذلك، لدى مصر تحفظات جدية بشأن طموحات تركيا في غزة المجاورة. فالقاهرة، مثلها مثل إسرائيل، تعتبر «حماس» عدواً بسبب ارتباطها بجماعة «الإخوان المسلمين» وتعاونها مع عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في شبه جزيرة سيناء. حتى إن حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتهمت رسمياً حركة «حماس» وناشطاً مصرياً في جماعة «الإخوان المسلمين» في تركيا بالتورط في اغتيال النائب العام هشام بركات في القاهرة العام الماضي. وعلى الرغم من محادثات المصالحة التي أُطلقت مؤخراً مع الحركة، لا ترغب مصر في تعزيز سلطة «حماس»، ولا تريد أن تتولى تركيا دوراً قيادياً في غزة. وتولي إسرائيل أهمية كبيرة لآراء القاهرة بشأن المسألتين.
إن هذه الاعتبارات مجتمعة، جعلت إسرائيل غير متحمسة إلى حد كبير تجاه طموحات تركيا الأكبر في قطاع غزة. ويقيناً، أنها مستعدة للسماح لأنقرة بتوسيع استثماراتها الكبيرة في مجال الإسكان والبنية التحتية والصحة والتعليم في القطاع. على سبيل المثال، قبل بضعة أسابيع فقط، أعلنت “وكالة التعاون والتنمية التركية” (تيكا) عن خطط لبناء 320 وحدة سكنية هناك. بيد أن إسرائيل لن تخاطر بأي تنازلات تهدد أمنها أو علاقاتها مع مصر، كما أنها لن تمنح تركيا دوراً تفضيلياً في غزة. ويبقى أن نرى كيف ستعمل أنقرة على التوفيق بين هذا الموقف وبين مطلبها الخاص بأن تقوم إسرائيل بـ “رفع الحصار عن غزة”، كما شدد المتحدث الرسمي باسم الرئاسة في 11 نيسان/ إبريل.
من جانبها، تطالب إسرائيل تركيا بإغلاق مقرات «حماس» في اسطنبول، والتي تدّعي المخابرات الإسرائيلية أنها كانت توجه المؤامرات العنيفة في الضفة الغربية في السنوات الأخيرة. ففي العام الماضي، طلبت تركيا من صالح العاروري، مدير مكتب «حماس» وشخصية بارزة في الجناح العسكري للحركة، مغادرة أراضيها، بيد أنه عاد وزار البلاد بعد مغادرته لها، فيما لا يزال عمل المكتب جارياً. ومن الصعب أن نرى إسرائيل تقبل المصالحة من دون حظر هذه الأنشطة، فهي ستصر على الأقل على طرد قيادة «حماس» من تركيا بشكل دائم.
بُعد الطاقة
تدعم واشنطن تصدير الغاز الإسرائيلي إلى تركيا وعن طريقها، تحقيقاً لمصلحتها وكعامل محفز محتمل للتطبيع على حد سواء. وخلال زيارته الأخيرة إلى إسرائيل، سلّط وزير الطاقة الأمريكي إرنست مونيز الضوء على الطريقة التي يمكن من خلالها لهذا الاتفاق المساعدة في تنويع إمدادات الغاز الأوروبية بعيداً عن روسيا. بيد، لا يخلو هذا الخيار من التحديات الخاصة به أيضاً.
في ظل عدم تيقنها من روابطها مع تركيا، عززت إسرائيل علاقاتها مع قبرص التي يهيمن عليها اليونانيون ومع اليونان في السنوات الأخيرة، وذلك عبر عدّة طرق من بينها التعاون الناشئ في مجال الطاقة. ففي 28 كانون الثاني/ يناير، اجتمع قادة الدول الثلاث في مدينة نيقوسيا وأعلنوا تشكيل لجنة ثلاثية لبحث إمكانية مد خط للغاز الطبيعي (“إيست مد”)(“EastMed”) الذي يربط الحقول الإسرائيلية والقبرصية عبر اليونان وصولاً إلى أوروبا. ومن الناحية العملية، هذا الخيار غير واقعي بسبب الصعوبات الطبوغرافية. ولكن سيتوجب حتى لخط الأنابيب الذي يصل إلى تركيا عبور المياه القبرصية، الأمر الذي يتطلب اتفاقاً بين البلدين، فضلاً عن توحيد قبرص، ربما بمساعدة وساطة أمريكية. وحالياً، لا تربط أنقرة أي علاقات دبلوماسية مع الحكومة اليونانية في الجزيرة. وفي غضون ذلك، هناك تحديات تنظيمية محلية تواجه إمكانات الغاز الإسرائيلي. لذا سيتعين على إسرائيل أيضاً أن تقدّر بعناية الحساسيات المحتملة لروسيا لتصدير الغاز الإسرائيلي عبر تركيا إلى أوروبا، حتى بكميات متواضعة.
المحصلة
على الرغم من أن مفاوضات التطبيع تبدو جدية وأقرب من أي وقت مضى إلى التوصل إلى نتيجة، إلا أن تحديات كبيرة وخلافات سياسية عديدة لا تزال قائمة، مما يعطي انطباعاً في أنقرة بأن إسرائيل أقل حماسة للتوصل إلى اتفاق. لذلك، حتى ولو أصبح هذا الاتفاق ملموساً، فإنه من غير المحتمل أن يؤدي إلى الألفة الثنائية التي شهدتها التسعينيات.
مع ذلك، فإن أي جهود أمريكية لتشجيع حتى النتائج المتواضعة للتطبيع ستساعد على جمع حليفين من حلفاء الولايات المتحدة الأكثر أهمية في الشرق الأوسط. وهذا من شأنه توسيع خيارات السياسة الأمريكية للإدارة القادمة في الولايات المتحدة في منطقة تشهد اضطرابات عديدة.
سونر جاغايتاي ومايكل هيرتسوغ
معهد واشنطن