في السؤال عمّا بعد “داعش”، يظهر مستويان: تساؤل عن الترتيبات السياسية؛ وتساؤل عن إجراءات ثقافية في صلبها التعليم.
على المستوى الأول، فإن التراجع الذي يعيشه تنظيم “داعش” في العراق، وبدرجة أقل في سورية، يفتح باباً لسيناريو يفترض أنه مستقبل بلا “داعش”. لكنّ هذا السيناريو المرهون باشتداد الحرب الإقليمية والدولية على التنظيم، والتخطيط لقصم ظهره في الرقة والموصل وسرت، بعد النجاح في الرمادي، إنما يخفي عناصر إخفاقٍ قد تُحيل “النصرَ” إلى هزيمة. مَرَدُّ هذا التشاؤم أننا ننشغل “بقتل البعوض بدلاً من تجفيف المستنقع”. فالأنبار وعاصمتها الرمادي في حالة خراب واحتقان لغياب جهود إعادة الإعمار والبناء والتأهيل، وعدم توازي الجهود العسكرية مع جهود أخرى لا تقلّ أهمية، على رأسها التأسيس لمصالحة وطنية مستدامة. وقالت وزارة الدفاع الأميركية إنها أنفقت 6.5 مليار دولار منذ العام 2014 على الجهود العسكرية ضد “داعش” في العراق، وفق صحيفة “فايننشال تايمز”، في حين لم تنفق الوزارة إلا 15 مليون دولار على جهود دعم “الاستقرار”، ما يطرح أخطار الجمع بين كسبِ الحرب وتجاهُلِ تبعاتها.
أمّا على المستوى الثاني لطي صفحة “داعش” و”تجفيف المستنقع”، فتفيد تقارير بأنّ ما يزيد على خمسين في المئة من الجامعات العربية لا تمتلك برامج دراسية في العلوم الاجتماعية. هنا لا مبالغة إذ نقول إنّ ذلك مؤشرٌ إلى ضعف قدرة المجتمعات العربية على امتصاص الصدمات الاستراتيجية، ومنها ظاهرة التطرف والإرهاب. وهو، أيضاً، يكشف جزءاً من جاذبية “داعش” وخطاب المواجهة مع العالم وإغراء الخلاص من تعقيده، لفئات معتبرة من الشبان المسلمين. ومع الموافقة على أنّ “داعش” والظاهرة الإرهابية الإسلامية “أقلوية”، إلا أن لها خطورتها المؤكدة والمتزايدة، في ظل غياب تسويات عادلة للصراع في سورية والعراق، وفي ظل غياب مشاريع حكومية ومجتمعية لتجفيف مورديها الأساسيين في دولنا: الاستبداد السياسي وفساد الحكومات وضعف الحوكمة من جهة، والاستبداد الديني وانكماش مساحة التفسير الفردي الحر للنصوص الدينية من جهة أخرى.
في هذا الوقت، يكشف استطلاع للرأي حول “داعش”، أجرته أخيراً مؤسسة “بين شوين بيرلاند”، ومقرها أميركا، أن نحو ربع المشاركين يعتقدون أن البطالة ونقص الفرص يمثلان المحركين الرئيسين وراء تجنيد الشبان في “داعش”. لكنّ ثلثي المشاركين يطالبون القيادات الحكومية بفعل المزيد “لتحسين حرياتهم الشخصية وحقوق الإنسان”. وقد يتيح ذلك تأكيد أن المَوْرِدَين يجمعهما عدم اكتراث بحرية الإنسان وكرامته، والسعي إلى “الهيمنة” عليه.
جانبٌ من مشكلتنا يكمن في الامتناع عن البحث في الذات وتحولاتها. وهذا ميدان أساسيّ في العلوم الاجتماعية والإنثروبولوجيا. والمفارقة أنه منذ بداية الألفية الثالثة، على الأقل، يتزامن صعود الظاهرة الإرهابية وأشكال التطرف والمحافظة الخشنة في مجتمعاتنا، مع نكوص في الحالة الثقافية العربية فناً وسينما وموسيقى وأدباً وفلسفة، وهذه منابعُ لإرساءِ التنوعِ وشحذِ التساؤل والشكِّ والتحديق في الهوية والآخر، والتجرؤ على تعديلاتٍ مستمرة على الهوية الفردية والجماعية، للاستجابة لتنوع الحياة وزخمها وصعوبة القبض على جريانها المستمر. ومنذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كان جديراً بنا الانكباب على السوسيولوجيا والفلسفة وعلم الأديان المقارن، لكننا لم نفعل.
خطابُنا بأنّ “داعش ليس الإسلام” غير كافٍ، فنحن نعيش أزمة في الهوية والقيم العامة والعجز عن تقديم النماذج الجاذبة، ولم نؤسس حتى الآن لرؤية حضارية تُقنع العالم (من دون أن يجاملنا) بأنّ “داعش” لا يُمثلنا، وبأنّ قيمنا تحثّ على التسامح وحبّ الحياة والتصالح مع منطق العصر والعالم، وبأنّ وجودنا غِنى للكون ويُحدِث فارقاً إيجابياً. هذه معركتنا، وطائرات “إف-16” فوق الرقة والموصل وسرت لا تكفي للفوز فيها.
محمد برهومة
صحيفة الغد الأردنية