نعى العديد من الأكراد ـ خلال الشهر الماضي ـ الذكرى السنوية المئوية لاتّفاقية “سايكس بيكو”، التي وقعت في 16 أيار/مايو عام 1916، ووضعت الأساس لقيام الدول القومية التي نراها اليوم في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن القول بأنه لا توجد مجموعة عرقية واحدة تبغض هذا الاتفاق أكثر من الأكراد، فهم يعتبرون صياغة الدول العظمى له، السبب الأول في تعليق حلم قيام دولة كردية مستقلة وتعطيله إلى يومنا هذا. إذ يمكن القول: لو قامت دولة كردستان التي تشكلت ملامحها في أوائل القرن العشرين، لأنقذت الملايين من الأرواح، ولساعد ذلك على التخفيف من مخاطر العنف المتفاقم الذي نراه اليوم في الدول القومية التي شُكلت بناءً على اتفاقية “سايكس بيكو.”
وفى خضم هذا العنف المتزايد، أصبحت كردستان ـ اليوم ـ دولة شبه مستقلة في العراق، تمثل إحدى عوامل الاستقرار في المنطقة، حيث استضافت الملايين من اللاجئين، بل وتمكنت من إلحاق الهزيمة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في عدة معارك. وبالمثل، نجح السوريون الأكراد ـ في كردستان السورية ـ في وقف زحف قوات تنظيم «داعش»، حتى أجبروها على الانسحاب من الأراضي التي تقطنها الأغلبية الكردية في سوريا.
وإنني ـ كجزء من هذه المعاناة ـ أرى بأن تلك القرارات التاريخية النابعة عن اتفاقية “سايكس بيكو” أدت إلى بعض العواقب الشخصية التي أثرت علي بصفتي الفردية، إذ ـ مثلي مثل غالبية الأكراد ـ عانيت شخصياً من الآثار المترتبة عن تلك الاتفاقية، حيث كنت لاجئاً لثلاث مرات، حتى قبل أن أتجاوز من العمر أحد عشر عاماً! كما أن مدينتي “حلبجة” استُهدفت من قبل الحكومة العراقية السابقة بقنابل الغاز والأسلحة الكيماوية، حيث فقدت العديد من أفراد أسرتي، بالإضافة إلى الآلاف من الضحايا الذين لقوا حتفهم. وعلاوة على الهجوم ضد “حلبجة”، قامت الحكومة العراقية السابقة بدفن ما يقارب من مائة وثمانين ألف كردي؛ أحياءً في الصحراء العراقية، كما تم ذبح ثمانية آلاف آخرين من مدينة “برزان”، مع تجريف نحو أربعة آلاف قرية كردية خلال فترة الثمانينيات.
لم تكن تلك الأحداث سوى عينة صغيرة من الفظائع المتعاقبة التي ارتكبتها الأنظمة في بغداد، منذ تأسيس الدولة العراقية في أوائل العشرينات. وكما هو الحال في العراق، فقد عاش الأكراد أيضاً، حياة قاسية في دول أخرى في المنطقة، مثل: تركيا، وإيران، وسوريا، حيث فقد الكثير منهم أرواحهم، في سعيهم للحصول على حقوقهم السياسية والثقافية، كما تعرضوا للطرد من مناطقهم، وللإدماج القصرى بمناطق أخرى. لقد كان ثمن عدم الاستقلال بالنسبة للأكراد كبيراً، لكن بالرغم من كل ذلك، يجب عليهم ـ اليوم ـ أن ينخرطوا في التأمل الذاتي، فيسألوا أنفسهم عما حدث من أخطاء خلال تلك السنوات الطويلة في مسعاهم من أجل الاستقلال. ومن ثم، يتساءلون: كيف نجح العرب في إنشاء دول مستقلة من بقايا الإمبراطورية العثمانية، وكيف نجح الأتراك في إقامة دولة جديدة، في الوقت الذي ظل فيه الأمل الكردي بإقامة دولة ذات سيادة، مجرد حبر على ورق؟
يظهر التاريخ أن كثيراً من العوامل وقفت حائلاً دون نمو الدولة الكردية المستقلة، أهمها: غياب الخطاب الكردي المتماسك، وتشرذم القيادة الكردية، والخصومات الشخصية بينها. ومن ثم، مخطئ من يرى بأن الممانعة من قبل باريس، أو لندن، هي السبب الأول في عدم استيعاب مطالب الأكراد بقيام دولة في المناطق ذات الأغلبية الكردية. فبعد مرور مائة عام، يتضح لنا أن الأسباب الداخلية الخاصة بالأكراد أنفسهم هي التي تحول دون تشكيل دولة كردية مستقلة. وهذا لا يعفي ـ بطبيعة الحال ـ إنجلترا وفرنسا من المسؤولية التاريخية، إذ ارتكب كل منهما ـ خلال عملية إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط ـ أخطاءً مصيرية في حق الشعب الكردي، ومهما يكن من أمر، فيتحتم على القيادات الكردية ـ اليوم ـ أن تتحمل المسؤولية أيضاً، لتتوقف عن استخدام الدول الأجنبية ككبش فداء لفشلها في تحقيق السيادة الكردستانية، سواء عند التفسير التاريخي أو في الوقت الحاضر.
وعلى النقيض من التفكير التقليدي الذي يرى أن الأكراد لم يكونوا على دراية كاملة بمجريات العلاقات الدولية، هناك ـ في الواقع ـ العديد من القادة الذين يدركون المخاطر التي يتعرض لها الشعب الكردي، ومن ثم، يعملون على إقناع القوى العظمى ـ مثل بريطانيا وفرنسا ـ بتحقيق مطلب هذا الشعب في وطن مستقل. غير أن انعدام التوافق بين القيادات الكردية، ساهم في تعزيز تشرذم تلك القيادات، ومنعها من الاصطفاف تحت راية واحدة.
ونستحضر من تلك القيادات التاريخية، القائد “شريف باشا” الذي عمل مبعوثاً للأكراد في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، حيث تفاوض مع مبعوثي فرنسا وإنجلترا. كما وقع اتفاقاً مع “الأرمن” بشأن المناطق التي يتنازع بشأنها الأكراد والأرمن معاً. غير أن اتفاقه هذا، لم يلقَ قبولاً من الزعماء في كردستان، حيث سارعوا إلى رفض الاعتراف بـ “شريف باشا” ممثلاً للأكراد، كما أن وجهاء “بابان” الأكراد في “إستنطبول” تبرأوا أيضاً من ذلك الاتفاق.
لقد كان لرفض تلك القيادات الكردية في إسطنبول وأماكن أخرى تأثير شديد على “شريف باشا”، أدى إلى إصابته بالإحباط، ومن ثم، إلى الاستقالة، إلا أنه في نهاية المطاف تبنى فكرة وجود منطقة حكم ذاتي للأكراد في إطار الإمبراطورية العثمانية، وهو موقف مماثل لذلك الذي اتخذته قيادات كردية أخرى.
وإلى جانب “شريف باشا” نذكر كذلك، “أمين على بدرخان”، أحد الشخصيات الكردية البارزة التي كان لها دور كبير في النضال من أجل الاستقلال، حيث بعث خطاباً إلى رئيس الوزراء البريطاني، حثّه فيه على المساعدة في تحقيق حلم دولة كردستان المستقلة. إلا أن الزعيم الكردي المؤثر “الشيخ عبد القادر”، رفض التوقيع على تلك الرسالة، نظراً لأنه كان يطمح إلى إنشاء دولة كردية تتمتع بالحكم الذاتي تحت لواء السلطة العثمانية.
وبالعودة إلى التاريخ، يمكننا القول أنه لو قامت القيادات الكردية في إسطنبول وغيرها من المناطق بدعم “شريف باشا” خلال مؤتمر باريس للسلام، لكان من الممكن أن يصبح الصوت الرسمي للأكراد، وربما كان باستطاعته تغيير المحصلة السياسية للأكراد بشكل عام.
والآن، وبعد مرور قرن من الزمن، إذا كان لزاماً علينا مساءلة النفس عما تعلّمه القوميون الأكراد من أخطاء الماضي، حتى نعمل على تجاوزها، فإن الواقع مخالف لذلك، حيث نشاهد ـ اليوم ـ كيف يستمر هؤلاء الزعماء الأكراد في الصراعات الداخلية، الشيء الذي أدى إلى وضع كارثي، وكأن هؤلاء القادة يعانون من ضعف في الذاكرة، وقصور في الوعي بتاريخهم القومي.
وإذا كانت الديمقراطية تتطلب وجود نظام من الأحزاب المتعددة، فإن واقع الحال يحتم علينا ضرورة توحيد تلك الأحزاب لتشكيل حكومة فعالة تتجاوز الماضي، ولتكوين برلمان فعال يعمل كرقيب حقيقي على أداء هذه الحكومة، ويخضع جميع المسؤولين للمساءلة. وللأسف، يبدو أن تحقيق ذلك، مازال ـ في الوقت الراهن ـ بعيد المنال عن كردستان العراق، حيث ليس هناك حرج من وجود “مناطق نفوذ سياسية ” في أماكن متعددة من كردستان؛ إذ من خلال إلقاء نظرة بسيطة على الواقع الحالي للمنطقة، تتبدى لنا الصورة الكارثية الدالة على التشتت والتشرذم، فها هي كردستان العراق لا تزال منقسمة بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بزعامة “مسعود بارزاني” الذي يسيطر على محافظات “دهوك” و”أربيل”، في حين نرى حركة “كوران” بقيادة “نوشيروان مصطفى”، وكذلك «الاتحاد الوطني الكردستاني»، وهما يبسطان سيطرتهما على “السليمانية” و”حلبجة” و”كركوك”. وقد أبدى أعضاء «الحزب الديمقراطي الكردستاني» تحمساً لإجراء استفتاء محتمل وغير ملزم حول مستقبل كردستان العراق، بينما أبدى الحزبان الآخران تحفظهما تجاه فكرة الاستفتاء، حيث لم يعلنا تأييدهما الصريح لتلك الفكرة. وقد غلب على موقف حركة “كوران” و« الاتحاد الوطني الكردستاني» نوع من الارتياب العميق الناتج عن اعتقادهما بأن ذلك الاستفتاء ما هو إلا مناورة سياسية من قبل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» لضمان سيطرته على الحكومة وصرف نظر الناس عن مسألة الخلافة الرئاسية.
وأخيراً، إذا لم يُنَحِّ زعماء الأكراد خصوماتهم الشخصية ومصالحهم وغرورهم جانباً من أجل القضية الكردية الأكبر، وما لم ينخرطوا في مناقشات جادة مع بعضهم البعض، فإن فرص النجاح ستكون ضئيلة للغاية. لذلك يجب أن تكون هناك قيادة كردية ذات صوت موحد تتحدث نيابة عن جميع الأكراد، كما يجب إضفاء الطابع المؤسسي لقوات “البيشمركة” تحت قيادة مركزية، وإلا ستتكرر السيناريوهات نفسها التي حدثت خلال القرن الماضي، خاصة وأن منطقة الشرق الأوسط تمر بعملية ترسيم جديدة للحدود.
يريفان سعيد
معهد واشنطن