عام 1990 ومع انتهاء الحرب الباردة وإعادة افتتاح بورصة شانغهاي وإلغاء قوانين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بدأ عصر جديد بالنسبة إلى استثمار المؤسسات الغربية في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. وخلال السنوات الـ 25 التالية، غالباً ما لم تفرّق هذه المؤسسات في توزيع خياراتها، إذ استثمرت عشوائياً من أذربيجان (النفط والغاز) ودبي (العقارات) وزامبيا (النحاس)، في وقت كانت غالبية السلع الأساسية تتحرّك سوياً ضمن ما بدا «اتجاهاً تصاعدياً عالمياً» لا يمكن إيقافه.
كانت تلك سنوات سمان، اتسمت بعائدات سهلة في أكثرية الأسواق الناشئة والأسواق ما قبل الناشئة. وتأثّرت هذه الحقبة بجيم أونيل، كبير المحللين الاقتصاديين آنذاك لدى «غولدمان ساكس» في بريطانيا، الذي ابتكر مفهوم دول «بريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين) في 2001، وبجيم رودجرز، مؤسس صندوق «كوانتوم» بالاشتراك مع جورج سوروس، الذي باع منزله الضخم في نيويورك عام 2007، وانتقل للعيش نهائياً في سنغافورة ليتمكّن من التركيز على الأسواق الناشئة فيما يتعلّم أولاده الصينية والملاوية.
إلا أن الحماسة انحسرت في صيف 2015، عندما تخلى «مورغان ستانلي كابيتال انترناشيونال» عن محاولته غير المناسبة زمنياً لدمج الأوراق المالية الصينية، خصوصاً عندما ارتفعت قيمتها كثيراً، في مؤشره عن الأسواق الناشئة العالمية. وقامت حرب أسعار طويلة بين منتجي النفط التقليدي والصخري وانهارت أسعار النفط. واليوم، دخلنا في عصر يبدو صعباً جداً بالنسبة إلى كثير من الأسواق الناشئة إذ تحوّلت السنوات السمان في بعض الأحيان إلى سنوات عجاف.
الشهر الماضي أعلنت فنزويلا اعتماد أسبوع عمل مؤلف من يومين في محاولة يائسة منها لتوفير الطاقة. وتشعر الدول الكبيرة أيضاً على غرار البرازيل وجنوب أفريقيا بالتداعيات عينها، إذ إن الدين السيادي في الأولى يقف على هاوية خفض مذل لتصنيفه إلى استثمار ثانوي، فيما ترزح الثانية تحت اتهامات الفساد التي تلاحق كبار المسؤولين الحكوميين، ويواجه رئيسها جلسات استماع. أما الروبل الروسي والروبية الهندية فهما عند أدنى مستوياتهما منذ ثماني سنوات في مقابل الدولار، الأمر الذي زعزع قيمة استثمارات الأجانب التي كانت واعدة خلال العقد الماضي.
وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة أو حقبة العولمة الجديدة التي دامت ربع قرن (من 1990 إلى 2015)، سيطرت بوضوح عقيدة المحافظين الجدد اليمينيين وفروعها كعقائد يسار الوسط، أي الكلينتونية لدى الحزب الديموقراطي الأميركي وحزب العمال الجديد في بريطانيا والاشتراكية الليببرالية في فرنسا. ولم تكن صدفةً أن تكاتفت كل هذه القوى السياسية المختلفة أساساً لتدعم الاجتياح غير المشروع للعراق في 2003 وما خلفه من تداعيات لا تزال قائمة إلى يومنا هذا.
اليوم وصلت حقبة المحافظين الجدد إلى نهايتها. وقيل ان مبدأ عدم التدخل العابر للحدود والتجارة الحرة تماماً (اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية في 1994، واتفاق التجارة الحرة لأميركا الوسطى في 2005، ومعاهدة لشبونة لإصلاح مؤسسات الاتحاد الأوروبي في 2007، والشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار التي قد لا ترى النور) يتماشيان مع «تصدير» الديموقراطية الجفرسونية بالقوة إذا لزم الأمر: الحرب على العراق بقيادة الولايات المتحدة في 2003 والحرب على ليبيا بقيادة فرنسا وبريطانيا في 2011 وتداعياتها على الضفة الجنوبية الأوروبية (أزمة المهاجرين بين 2015 و2016 التي إن تركت من دون مراقبة قد تودي بالاتحاد الأوروبي).
ويبدو أن هذه الإيديولوجية المدمّرة تسير في مجراها إذ إن شعبية دونالد ترامب تزداد بين أعضاء الحزب الجمهوري والناخبين الديموقراطيين من أتباع ريغن لأن ترامب يرفض التجارة الحرة وأي نوع من أنواع التورط الخارجي (أميركا أولاً). ويشك بيرني ساندرز أيضاً بالإرث الاقتصادي الذي خلّفته حقبة كلينتون – بوش – أوباما و «عمالقة وول ستريت»، الأمر الذي يترك هيلاري كلينتون معزولةً في شكل مخيف داخل حزبها.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016، قد تضطر الأسواق الناشئة إلى التأقلم مع إدارة أميركية أكثر أنانية، قد تنجرّ إلى زيادة إنتاج النفط والغاز، والانسحاب أحادياً من العديد من الاتفاقات التجارية (خصوصاً تلك المبرمة مع دول أميركا اللاتينية المجاورة). ومن شأن هذه الخطوات أن تضر بالدول التي تعتمد على تصدير السلع (على غرار الصين والهند وجنوب أفريقيا وال برازيل وروسيا واندونيسيا وبعض دول الشرق الأوســط وشمال أفريقيا مثل الجزائر وتركيا وقطر،…).
إلا أن أصحاب الأصول الطويلة الأمد المميزين يمكن ان يجدوا بعد فرص استثمار مثيرة للاهتمام في الأسواق الناشئة، حتى في ظل الأزمات الاقتصادية التي طالت. ويمكن إيجاد مثل هذه القوانين في أميركا الجنوبية (كولومبيا، وكوستاريكا، وإكوادور، وباناما…) وأفريقيا (ساحل العاج، وكينيا، والمغرب، والسنغال) وآسيا (كمبوديا، والفيليبين وسريلانكا، وتايلاند،…) وأيضاً في دول الخليج العربي خصوصاً في عُمان والسعودية وأبو ظبي بفضل اقتصاداتها المتنوعة في شكل سريع والمستثمرين المحليين والمهندسين وخبراء الاقتصاد المدرّبين في شكل جيد (وغالبيتهم أكملوا تحصيلهم العلمي في الولايات المتحدة).
تختلف هذه الدول في طبيعتها، إلا أنها تملك بعض الصفات المشتركة: قاعدة اقتصادية متنوعة نسبياً، حكومات مركزية تكنوقراطية (بغالبها من قوميين من اليمين الوسط) وهي تركز بلا هوادة على النمو الاقتصادي والتحديث الإداري، واستعداد لتجربة أطر مالية جديدة تجمع بين رأسمالية الدولة المحلية والصناديق الإنمائية المتعددة الأطراف والاستثمارات الأجنبية الخاصة («رأس المال المختلط»، وهو المفهوم الذي كان رائداً خصوصاً من قبل البنك الإسلامي للتنمية ومقره جدة).
أما الدول التي دُمِّرَت بسبب الحرب الأهلية (كمبوديا، وكولومبيا، وساحل العاج، وصربيا) أو تأثّرت بـ «الربيع العربي» (المغرب وعُمان)، فهي اليوم من بين أكثر الاقتصادات سرعةً في النمو، إذ تتمتع بمعدلات نمو تُحسَد عليها – ومن المرتقب ان تنمو غالبيتها بما يزيد على 6 في المئة سنوياً حتى العام 2020 وما بعد. وعلى رغم الأخطار (المبالغ فيها أحياناً) المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو إعادة التفاوض المحتمل في شأن اتفاق أميركا الشمالية للتجارة الحرة (نافتا) بعد فوز ترامب (أو استبداله باتفاقات تجارة ثنائية أكثر توازناً)، ينشغل كثر من أصحاب الأصول والمطوّرين العقاريين والمقاولين الصينيين والأوروبيين والأميركيين (العاملين في بناء المرافق الكهربائية والطرق السريعة والمطارات وتشغيلها) بمضاعفة الاستثمارات في غرب أفريقيا ودلتا نهر ميكونغ وجبال الأنديز ودول مجلس التعاون الخليجي، في حين يغتنم مشاركون جدد من كندا وكوريا الجنوبية واليابان الفرص الممكنة.