ليس من السهل، بل يبدو مستحيلا التنبؤ بمستقبل الأحداث والاتجاهات والظواهر الإنسانية التي تتفاعل بتسارع، وتتغير في كل لحظة؛ فكيف إذا كانت هذه الظواهر يكتنفها الغموض أصلاً!
تتغير الظواهر التي أعني بوتيرة وتسارع يفوقان قدرتنا؛ باحثين ومتابعين وخبراء، على الإمساك بتفاصيلها. ولعله من المخيب للآمال أننا لن نتمكن من تحليلها وإمكانية فهمها إلا بعد وقت طويل، ربما بعد زوالها. وأدرك بوضوح أن جزءاً كبيرا من هذه المعضلة يعود إلى بنية نظرية المعرفة نفسها. فمثلا، الشأن الاجتماعي موجود مذ وجد الإنسان، ومع ذلك لم يتم تأسيس علم الاجتماع حتى القرن التاسع عشر، حين بدأ صرح الاجتماع بالتكون واتخاذ أهداف ومناهج وأطر فكرية للإجابة عن أسئلة وفرضيات ونظريات، مثل تفسير الظواهر الجماعية، كالعنف والانتحار والتطرف الديني والإرهاب. وفي حقل السياسة الموغل في التاريخ، لم يظهر حقل العلاقات الدولية إلا في العام 1919 في بريطانيا. كما انتشرت الكتابة والتحليل حول العولمة بعد انهيار المعسكر الشرقي وتفتت الاتحاد السوفيتي بسنوات. واحتاج عالم الاجتماع الفرنسي أليكسي دو توكفيل إلى أكثر من نصف قرن بعد الثورة الأميركية والاستقلال العام 1783، ليكتب تحليله المهم عن الديمقراطية في أميركيا-الجزء الأول. أما بيير بورديو؛ عالم الاجتماع الفرنسي المثير للجدل، وصاحب مصطلح العنف الرمزي، فقد احتاج عقدا ونصف العقد ليقدم تحليله الخاص بثورة الطلبة في فرنسا، والتي اندلعت العام 1968.
تلك أمثلة قليلة على الظواهر والأحداث التي غيرت شكل العالم، والتي –ربما- تؤكد على أن تسارع الأحداث والاتجاهات والظواهر أوسع وأعمق وأسرع من القدرة على ملاحقتها وإخضاعها للبحث والتحليل من قبل الباحثين والدارسين والفلاسفة. وعلى هذا المستوى، أحاول على المستوى الشخصي أن أقدم مقاربة أولية عن ظاهرة إرهاب تنظيم “داعش”؛ مقاربة قد تساعد في تحليل وفهم هذه الظاهرة غير المسبوقة. وأنا أقف حائراً -حتى الآن- إزاء تقديم أي فرضية عنها، خاصة ونحن نشاهد وحش “داعش” يقاتل بشكل منتظم ودقيق، عبر عمليات متعددة (عسكرية، وشبه عسكرية، وحرب متمردين، وحرب مدن، وحرب عصابات، وذئاب منفردة)، في طول العالم وعرضه، متجاوزا بشكل منقطع النظير الزمكان!
هل هو تنظيم ينطبق عليه تعريف الأطراف الفاعلة ما دون الدولة؟ أم هو دولة وصاحب سلطة قهرية؟ أم هو إمبراطورية تجمع بين العالمين الواقعي والافتراضي؟ إذن، وبصراحة، فإن ما يقوم به هذا الشكل الجديد من التكوينات لم تكن تستطيع القيام به إلا الإمبراطوريات الكلاسيكية القوية التي كانت تحارب على أكثر من جبهة، وأزمنة مختلفة.
وأفترض أن “داعش” شكل مُركبا جديدا “هجينا” من إفرازات العولمة؛ يجمع بين صفات التنظيم والدولة والإمبراطورية الافتراضية. وأن هذا الشكل مهما كان توصيفنا له، واتفاق المهتمين والباحثين والخبراء والأكاديميين أو اختلافهم معي، لم يدرس حتى الآن بشكلٍ علمي محايد، وأن تأثيره في بنية وسلوك المجتمعات الإسلامية سيكون طويل الأمد، ولن ينتهي تأثيره بالقضاء عليه عسكريا؛ سواء في العراق أو سورية. كما لن تجدي معه الانطباعات الشخصية والتحليلات الرغائبية والادعاءات المريحة والكسولة التي تقول إنه صناعة الأجهزة الاستخبارية الغربية.
فالحقيقة أن “داعش” هو ابن مجتمعاتنا، ونتاج حضارتنا وإرثنا وتراثنا. ومطلوب منا على المستويات كافة، عدم الانتظار أكثر، والبدء بجد بالتعرف بشكل أكبر وأعمق على هذا الابن الضال؛ لأنه إذا ما استمر إهماله، فلن يجلب لنا إلا الخسائر والدمار.
د.سعود الشرفات
صحيفة الغد