بدأ العدّ التنازلي لانطلاق عملية تصويت البريطانيين بشأن عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي وسط زخم كبير زاد من حدّته اغتيال النائبة العمّالية جو كوكس على يد متطرّف من أنصار معكسر الانفصال، وتصاعد وتيرة التصريحات سواء بين المعسكرين المتنافسين في الداخل البريطاني، وأيضا على صعيد التصريحات الصادرة عن جهات خارجية ومسؤولين أوروبيين، وتصاعد نبرة أحزب اليمين المتطرف التي قد تستغل انفصال بريطانيا، في حال تم، لتطالب بلدانها بخـطوات مـماثلة.
وسيطر أمس السبت على الاهتمام موضوع الجلسة الأولى لمثول توماس مير، المتهم بقتل كوكس، أمام محكمة وستمينستر التي تنظر عادة في قضايا مرتبطة بالإرهاب. وإثر الجلسة وضع المتهم قيد التوقيف في سجن بيلمارش شديد الحراسة إلى جنوب شرق لندن ومن المقرر أن يمثل مجددا الاثنين لكن أمام محكمة أولد بيلي بلندن.
وقد عبّر كثيرون ممن تابعوا المحاكمة عن صدمتهم لهتافات المتهم، البالغ من العمر 50 عاما، أمام المحكمة والتي كان أبرزها “الموت للخونة، الحرية لبريطانيا”، بينما، سادت مشاهد الحداد والحزن عموم بريطانيا، وسط تأثّر كبير عبّرت عنه أليس بول (40 عاما) بقولها “نعيش فترة مضطربة في المملكة المتحدة، وكأن بئر الكراهية فتحت. وجو كوكس لطالما تصدت لهذه القوى الظلامية”.
وبول واحدة من الآلاف الذين توافدوا لإحياء ذكرى النائبة التي عملت سابقا في المجال الإنساني وعرفت بدفاعها عن اللاجئين السوريين وهي التي ضغطت لصالح حملة البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ضمانات البقاء
على خطى صحيفتي فاينانشل تايمز وذي إيكونوميست، أعلنت صحيفة التايمز البريطانية، وهي جزء من المجموعة الإعلامية التي يملكها روبرت موردوخ، أنها تؤيد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وفي افتتاحية عدد السبت بعنوان “إعادة تأسيس أوروبا” قالت الصحيفة إن “أفضل نتيجة لهذا الاستفتاء ستكون تحالفا جديدا بين الأمم ذات السيادة في الاتحاد.. تحالف أساسه التبادل الحر والإصلاحات وموجه من قبل بريطانيا”.
ي هذه الأثناء، يواصل القادة الأوروبيون التعبير عن مواقفهم بشأن استفتاء تحديد المصير. وركّزت تصريحات المسؤولين الألمان على إمكانية تفكّك منظومة الاتحاد الأوروبي وتأثير خروج بريطانيا على الاقتصاد. وفي سياق مؤيّد لهذه التصريحات قال وزير الاقتصاد الإسباني لويس دي غيندوس بأن خروجا محتملا لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون له أثر اقتصادي قويّ على هذا البلد وسيكون “”خبرا سيئا” بالنسبة إلى الدول الـ28 المكونة للاتحاد.
إذا كانت أكثرية واضحة من الأوروبيين تؤيد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي تتميز فرنسا، أكثر من أي بلد آخر، بنسبة مرتفعة من أنصار الخروج من الاتحاد، تعبيرا عن شكوك متزايدة في جدواه
بدوره حذر بيل غيتس من أن بريطانيا ستصبح “بلدا أقل جاذبية لقطاع الأعمال والتجارة” في حال تصويت الناخبين البريطانيين لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، لأنه وكما جاء في التقييم السنوي المالي للاقتصاد البريطاني الصادر عن صندوق النقد الدولي سيكون لخروج المملكة المتحدة تأثير “سلبي وكبير” على اقتصادها وسيؤدي إلى “فترة طويلة من عدم اليقين الذي قد يؤثر على الثقة والاستثمار ويزيد من تقلب أسواق المال إذ أن المفاوضات حول شروط جديدة قد تستمر سنوات”.
ويحذّر العديد من القادة السياسيين وكبار رجال الأعمال والمنظمات الدولية الناخبين البريطانيين من مخاطر التصويت لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي الذي انضمت إليه بريطانيا عام 1973 بعد أن تم رفض عضوتها مرتين بسبب موقف الرئيس الفرنسي الأسبق تشارل ديغول.
لكن، يبدو أن فرنسا عادت إلى الوقوف في الصف الديغولي الرافض لانضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي؛ وإذا كانت أكثرية واضحة من الأوروبيين تؤيد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، تتميز فرنسا، أكثر من أيّ بلد آخر، بنسبة مرتفعة من أنصار الخروج من الاتحاد، تعبيرا عن شكوك متزايدة في جدواه.
وقد اتخذت تصريحات مسؤوليها مسارا أكثر حدّة في هذا الملف، حيث أكد وزير الاقتصاد الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع صحيفة لوموند أن على بلاده توخي الحزم في التعامل مع بريطانيا التي “ستنعزل وستصبح وكالة تجارية أو موقع تحكيم على حدود أوروبا” في حال خروجها.
ورأى الوزير الفرنسي أن على مجلس الاتحاد الأوروبي أن يبعث برسالة واضحة للدول الأعضاء وإرشادات ملزمة في حال خروج بريطانيا من التكتل “فإما داخل التكتل أو خارجه”، واقترح في اليوم التالي لخروج بريطانيا وقف منح جوازات سفر تابعة للاتحاد الأوروبي للمؤسسات البريطانية.
التشكيك في جدوى الاتحاد الأوروبي ليس جديدا في فرنسا التي رفضت الدستور الأوروبي خلال استفتاء في 2005، لكنه يتزايد. وجاء في دراسة أعدها “مركز بيو للبحوث” أن فرنسا هي البلد الذي شهد فيه التأييد للاتحاد الأوروبي أكبر قدر من التراجع. وقال دومينيك مويزي من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري) إن “هذا الموقف يعكس علاقة فرنسا بأوروبا اليوم وعلاقة فرنسا ببريطانيا دائما”.
تشدد اليمين
على امتداد إنشاء الاتحاد الأوروبي، تعتبر لائحة الأزمات بين باريس ولندن طويلة: من الفيتو المزدوج للجنرال ديغول في ستينات القرن العشرين، إلى انضمام المملكة المتحدة إلى السوق المشتركة و”المناوشات” حول السياسة الزراعية المشتركة. ولا يزال الناس يتذكرون طرفة تعود إلى سنة 1988، عندما وجّه جاك شيراك، الذي كان آنذاك رئيسا للوزراء، انتقادات حادة إلى مارغريت تاتشر خلال قمة أوروبية، وقد أغضبته مطالبتها بخفض المساهمة البريطانية في ميزانية السوق. وتساءل شيراك، الذي لم ينتبه إلى أن مكبر الصوت أمامه كان مفتوحا “ماذا تريد مدبرة المنزل هذه أيضا؟”. وبعد خمسة عشر عاما، أعلن شيراك الذي أصبح رئيسا للجمهورية، معارضته في لندن للحرب في العراق.
وبغض النظر عن العلاقات بين البلدين على امتداد العصور، تنطوي النسبة المرتفعة من الفرنسيين المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على مفارقة بحيث أنها تقرن، لأسباب متناقضة تناقضا تاما، بين معارضي الاتحاد من اليمين المتطرف، والمنادين بالسيادة والناشطين في سبيل أوروبا اتحادية. وقال دمينيك مويزي “هذا مزيج من (التيارين السيادي والاتحادي) فإذا قال البريطانيون ‘لا لأوروبا’ فسنضطر إلى إعادة النظر في أوروبا؛ وثمة أيضا الفكرة القائلة إننا قادرون من دونهم على معالجة الوضع الأوروبي بشكل أفضل”.
ذكرت أحزاب يمينية متطرفة وأحزاب متشككة في الاتحاد الأوروبي أن الاستفتاء المزمع في بريطانيا بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي ربما يضطر التكتل إلى إعادة بعض السلطات إلى الدول الأعضاء ويمكن أن يؤدي إلى إجراء استفتاء آخر.
وأوضح فرنسوا لافون، الأستاذ في معهد الدراسات السياسية، أن “اليمين المتطرف يعتبر أن ما يحصل هو بداية النهاية، والإشارة المنتظرة منذ فترة طويلة، هذا يعني أننا سنتمكن من طلب الشيء نفسه”. وأعلنت مارين لوبن، النائبة الأوروبية ورمز اليمين الفرنسي المتطرف، أنها ترى في “القوى المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤشرا قويا لدينامية ربيع الشعوب”.
واعتبرت أن “لدى فرنسا على الأرجح أسبابا تفوق بكثير أسباب الإنكليز للخروج من الاتحاد الأوروبي”، معربة عن الأمل “في أن تجري جميع البلدان مراجعة لعلاقاتها بالاتحاد الأوروبي”.
لكن، وبغض النظر عن النتيجة التي سيتمخض عنها الاستفتاء، يؤكّد تيموثي آش، الخبير الاستراتيجي لشرق ووسط أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، أن “الشيء المؤكد أنَّ التطرف اليميني واليساري، سيزداد، وأن أوروبا في وضع صعب”.
صحيفة العرب اللندنية