ما إن أعلنت كل من تركيا وإسرائيل التوصل إلى اتفاق تفاهم ينهي التوتر ويعيد تطبيع العلاقات السياسية بينهما، حتى أعلن الكرملين أن الرئيس رجب طيب أردوغان، بعث برسالة إلى الرئيس فلاديمير بوتين، يعتذر فيها عن إسقاط طائرة “سو 24″، ويقدم تعازيه لأسرة الطيار، ويعلن فيها استعداده لبذل أقصى ما بوسعه لإعادة العلاقات التركية الروسية إلى سابق عهدها.
وتعتبر هاتان الخطوتان، مؤشرين هامين على التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية التركية وعلى وجهة التغييرات، التي يرها المسؤولون الأتراك، استجابة ضرورية للتحديات الخارجية والاستحقاقات الجديدة، التي فرضتها تطورات المنطقة، وظروف تركيا الداخلية، خلال السنوات الخمس الماضية، وبروز مؤشرات على تقادم التوجهات السياسية الخارجية السائدة.
وقام مسؤولون في الحكومة التركية بالتمهيد، سياسيا وإعلاميا، لتغييرات ممكنة في السياسة الخارجية، فيما اعتبر زعماء أحزاب المعارضة أن المسؤولين الحكوميين تأخروا كثيرا، وأنهم وجدوا أنفسهم مضطرين للبحث عن مخرج يبرر انعطافات مرتقبة للدور الإقليمي التركي، ويبرر كذلك تراجعات عن مواقف وتصريحات مهمة، بما يشكل خرقا جديدا محتملا لخطوط حمر، وضعها قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم تتعلق بالعلاقات مع روسيا وسوريا وإسرائيل ومصر.
تصحيح مسار
ولعل المسار الذي اتبعته تركيا في السياسة الخارجية، خلال السنوات الخمس الماضية -على الأقل- لم يمكنها من إحداث اختراقات مهمة في ملفات المنطقة، مع أنه أنتج مواقف تركية متمايزة عن حلفائها في قضايا الإقليم.
وقد أحدثت الثورات العربية تغيرات جيوسياسية هامة في منطقة الشرق الأوسط، فاضت تأثيراتها وإرهاصاتها على مختلف دول الجوار، وامتدت إلى مناطق أخرى من العالم. وكانت تركيا من أكثر الدول تأثرا بهذه الامتدادت والتفاعلات، نظرا لقربها الجغرافي من المنطقة العربية، والعلاقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسية، التي تربطها مع سائر الدول العربية.
وعرفت السياسة الخارجية التركية مسارات متعددة ومتنوعة، حيال الدول العربية، خاصة بعد اندلاع الثورات العربية، حيث شهد الدور الإقليمي التركي، صعودا مرحليا بعد نجاح الثورات في كل من تونس ومصر في إسقاط الحكام المستبدين، ولاحت ممكنات لتعميم نموذج حزب العدالة والتنمية في التغيير الديمقراطي والنمو الاقتصادي، خاصة مع وصول أحزاب وحركات إسلامية إلى الحكم في كلا البلدين، تلتقي توجهاتها مع توجهات حزب العدالة والتنمية، لكن عوامل منها تعسّر مسار الثورات، وعودة قوى الثورات المضادة إلى الحكم، والتدخلات الدولية، غيّرت كل الحسابات والمواقف.
واتخذت تركيا مواقف مختلفة عن حلفائها الأطلسيين خاصة في الملف السوري، والموقف من ما حدث فيما مصر، ومن القضية الفلسطينية، الأمر الذي جعلها تدخل في دائرة الاستهداف، حيث برزت تحديات داخلية، أفضت إلى توقف مسيرة “السلام الداخلي”، والدخول في حرب مفتوحة مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره منظمة إرهابية، مع تنامي قدرة ذراعه السوري، حزب الاتحاد الديمقراطي، ومحاولاته في فرض فيدرالية من طرف واحد في الشمال السوري، بما يعني إقامة دويلة كردية يحكمها هذا الحزب وميليشياته، التي باتت تحظى بدعم عسكري أميركي وروسي غير مسبوق، إلى جانب تنامي خطر تنظيم الدولة (داعش)، على المناطق الحدودية، وقيامه ببعض التفجيرات في بعض بلدات ومدن الداخل التركي.
ولم يكن ينقص تركيا توتر علاقاتها مع روسيا، بعد التدهور الحاد للعلاقات بين البلدين على خلفية حادث إسقاط طائرة “سو-24” الروسية، من قبل سلاح الجو التركي، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، وذلك بعد أن دخلت روسيا الحرب في سوريا دفاعا عن مصالحها وعن نظام الأسد الاستبدادي.
وأفضى كل ذلك إلى ظهور دعوات من داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، ومن المعارضة، تنادي بضرورة تغيير السياسة الخارجية التركية، كي تصبح أكثر واقعية، وذات نهج براغماتي، وتعمل على “تقليل عدد الخصوم والأعداء وزيادة عدد الأصدقاء” في المنطقة.
وانطلقت في الأوساط الإعلامية والسياسية التركية، في الآونة الأخيرة، إشارات واضحة حول التغيير في السياسة الخارجية وحدوده، مع التأكيد على أنه لن يتعدى “تصحيح مسار، وليس العودة عنه”، وأن المصلحة القومية التركية باتت تحتم القيام به، وتبيان حجم الفائدة منه، حيث لاحظ مسؤول تركي أن إصلاح العلاقات مع كل من ورسيا وإيران والعراق ومصر وسوريا سيعود على تركيا بعوائد تجارية، تصل قيمتها إلى نحو 36 بليون دولار.
وكانت أوضح الإشارات على ضرورة إحداث تغييرات في السياسة الخارجية التركية، أطقها نائب رئيس الوزراء التركي “نعمان كورتولموش”، الذي حدّدها في أربعة محاور، أهمها المحور السوري، إضافة إلى كل من روسيا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل.
ويبدو أن جملة من التغييرات ستتم بشكل سريع في السياسة الخارجية، استنادا إلى أرضية فكرية سياسية، تنطلق من الإدراك بضرورة العودة إلى سياسة واقعية وبراغماتية في التعامل مع المشاكل والأزمات المحيطة بتركيا، وأن الفهم التركي الرسمي ينهض على أساس أن “العالم بأسره دخل في مرحلة صراع كبيرة، ولا تملك تركيا القوة الكافية لحل المشاكل جميعها، وما عليها هو القيام بـ”تخفيف الصراع في مناطق النزاع المحيطة بتركيا، وعلى الأقل تخفيف الجانب الخاص بها، والمتعلق فيها من النزاعات التي تشكل فيها طرفا”.
حدود التغيير وممكناته
لا شك في أن حدود التغييرات في توجهات السياسة الخارجية، وممكناتها، محكومة بمنظومة التحالفات التركية، وإعادة صياغتها، بما يفضي إلى البحث عن شركاء جدد في الإقليم، وتطبيع وإصلاح العلاقات الفاترة والمتوترة مع عدد من الدول الإقليمية، أو على الأقل تخفيف حدة التوتر والفتور، واللجوء إلى مبدأ تدوير زوايا الخلافات معها.
وتجسد ذلك في تطبيع العلاقات التركية السعودية، الذي تلاه عودة العلاقات التركية الإمارتية إلى مجراها الطبيعي، ومن المهم تحويل سياقات التطبيع ورفعها إلى مستوى التعاون المتعدد الوجوه بين تركيا وكل من المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، وسائر دول الخليج العربي، بما يفضي إلى التصدي لمشروع الهيمنة الإيراني على المنطقة.
وكان المأمول أن يفضي تحسين العلاقات مع كل من السعودية والإمارات إلى إصلاح العلاقة مع مصر، لكن يبدو أن أنقرة مازالت على موقفها السياسي من النظام المصري، حيث مازالت تعتبر أن “أي تدخل ضد إرادة الشعب هو بالنسبة لها انقلاب”، لكن ذلك لا يمنع من سعيها إلى إقامة علاقات تجارية بين البلدين، “ويمكن تطوير العلاقات الاقتصادية والسياسة، لا سيما أن تطويرها سيكون مفيدا بالنسبة لكلا الشعبين”، حسبما يرى رئيس الوزراء التركي.
ويبدو أن المحور المصري هو الأكثر صعوبة وامتناعا حيال التطبيع، بالنظر إلى الموقف التركي، وعدم استجابة نظام السيسي لاستحقاقات تطبيع العلاقة بين البلدين، فيما تمّ التوصل إلى اتفاق مصالحة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يطبع العلاقات، ووصل الأمر إلى حدّ رفع تركيا “الفيتو” الذي كانت تضعه على مشاركة إسرائيل في مناورات حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ويتضمن الاتفاق -إلى جانب التعويضات والاعتذار- حلا وسطا، ما بين رفع الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وبين إيجاد صيغة أو شكلا ما للإبقاء عليه، في وقت تسربت معلومات عن استعداد إسرائيل وقبولها ترتيبات زيارة متوقعة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قطاع غزة، بالتزامن مع سماحها بإدخال مساعدات إنسانية إليه، بعد تفتيشها، مقابل تقييد تركي لحركة قياديّين من حركة “حماس” في تركيا.
ويربط بعض المحللين ما بين إعلان اتفاق المصالحة مع إسرائيل، وبين مصالحة مرتقبة مع روسيا، بوصف الأولى مدخلا للثانية، مع أن أنقرة تضع تصحيح العلاقة مع موسكو على رأس أولوياتها، الأمر الذي يفسر الإشارات الإيجابية التي أرسلتها مؤخرا، بدءا من المشاركة التركية في احتفال اليوم الوطني الروسي الذي نظمته السفارة الروسية في أنقرة، وصولا إلى رسالة التهنئة التي وجهها أردوغان إلى بوتين، وضمنها تمنياته في أن “تعود العلاقات بين البلدين للمستوى الذي يليق بها”، وصولا إلى رسالة أردوغان إلى بوتين، التي أعطت الإشارة لبدء تطبيع العلاقات التركية الروسية، وأولى ثمراتها موافقة الكرملين على زيارة لوزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، إلى موسكو في الأول من يوليو/تموز القادم.
الملفات الأصعب
ولعل ممكنات وحدود التغيرات في السياسة الخارجية التركية تطال جميع الملفات، ومحكومة بالتنازلات والحلول الوسط التي تقدمها جميع الأطراف، لذلك يبرز التساؤل على الدوام حول المقابل أو الثمن الذي يمكن لتركيا أن تدفعه مقابل تطبيع العلاقة مع كل من روسيا وإسرائيل ومصر وسوريا.
ويقود كل ذلك بالضرورة إلى الملف السوري، بوصفه الملف الأصعب والأعقد في ملفات المنطقة، حيث إن وزير الخارجية التركي، أبدى استعداد بلاده للتعامل مع مخرجات الحل السياسي في سوريا، دون أن يقدم أي اشتراطات كما في السابق، يضاف إليه أن رئيس الوزراء التركي، شدد في آخر تصريحاته على ضرورة وقف الحرب في سوريا، التي “يُقتل فيها إخواننا منذ خمس سنوات من دون سبب”، لكنه على غير العادة لم يتحدث عن ضرورة رحيل الأسد كشرط تركي لحل الأزمة.
كما أن تلميحات عديدة صدرت عن المسؤولين الأتراك حول القواسم المشتركة مع كل من روسيا وإيران في الملف السوري، والتي تجد متحققها في الحرص على وحدة الأراضي السورية، وعدم السماح بقيام كيان كردي فيها.
ويبقى أن تغيرات السياسة الخارجية التركية، تحددها مصالح تركيا قبل كل شيء، مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، وتحدث من منطلق فهم دور تركيا وواقعها، وتشابك علاقاتها من دول الإقليم والعالم، إذ إن مواصلة الصعود التركي الاقتصادي، مرتبط مع ممكنات التغيير الحقيقي السياسي، واتخاذ سياسات الانتشار والتمركز الإقليمي، والابتعاد عن العزلة إقليميا.
وبالتاليلن تحدث تغييرات جذرية وسريعة في المنظور القريب، ذلك أن تعقيدات الأوضاع في المنطقة ومقتضيات الأمن القومي التركي، تجعل من التغييرات محكومة بالتريث والحسابات الدقيقة، في ظل تمترس مختلف الأطراف وراء مواقفها السياسية، المنسجمة مع توجهات أنظمتها ومصالحها وأمنها.
عمر كوش
الجزيرة نت