أظهر الانسجام الواضح الذي اتصف به سلوك مُختلَف مؤسسات الدولة والثورة في إيران خلال المفاوضات النووية مع الغرب نجاح مساعي تحالف مؤسسة “بيت القائد” – «الحرس الثوري» الحاكم بإعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي استعداداً للدخول في هذه المفاوضات، وبرزت قوة تأثير هذا التحالف في ضبط سلوك جميع المؤسسات، والتيارات السياسية بما يخدم المصلحة العليا للنظام، فلا المُزاودين على النظام في الثوريّة (بعض قيادات «الحرس الثوري»، وتيار مصباح يزدي الأصولي، وأنصار أحمدي نجاد) سُمحَ لهم بتعكير أجواء المفاوضات أو عرقلتها، ولا البراغماتيين والإصلاحيين والليبراليين المندفعين للانفتاح على الغرب سُمح لهم بالتأثير على الفريق المفاوض، ودفعه لتقديم تنازلات تتخطى الخطوط الحُمر للنظام.
وبالتالي تمكنت ثنائية علي أكبر صالحي، رئيس وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، ومحمد جواد ظريف من إدارة عملية التفاوض بما يتوافق مع شروط النظام ومدعومةً من مختلف مراكز القوة في البلاد. وبعد التوقيع على الاتفاق، تجلّى هذا الانسجام بوضوح من خلال مصادقة «مجلس الشورى» التاسع ذي الأغلبية الأصولية على الاتفاق في زمن قياسي.
وحتى الآن، فإن المركزية الرامية إلى إبرام اتفاق نووي يحظى بقبول النظام كان لها بعض التداعيات التي تجلت بوضوح خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، ومن المرجح أن تستمر في تأثيرها على المشهد الداخلي في إيران على المديين القريب والمتوسط. ومن ثم، يمكن القول بأن ضعف المنافسة السياسية، وتآكل الحدود بين الكيانات السياسية، فضلاً عن استمرار المشاكل الاقتصادية، والتحول الذي حدث في البنية الاجتماعية خلال العام الماضي، يرجع أسبابها إلى الجهود المركزية للنظام.
دمج التيارات السياسية
بينما كانت عملية إعادة هندسة المشهد الداخلي تستهدف توقيع الاتفاق النووي، أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية بأن الاتفاق النووي أخذ يعمل بالمقابل على إعادة هندسة المشهد السياسي الداخلي في إيران. ويمكن القول بأن المنافسة الحقيقية في انتخابات 26 شباط/فبراير كانت على المستوى الشعبي، تجري بين أنصار الاتفاق النووي والتقارب مع الغرب، وبين معارضي الاتفاق، من أنصار الحفاظ على مبادئ الثورة.
وقد تجلّت تلك المنافسة بشكل أوضح في العاصمة طهران، حيث اتجه الناخبون في انتخابات «مجلس الشورى» إلى التصويت لصالح أشخاص لا يعرفونهم جيداً ليتمكنوا من إقصاء أشخاص يعرفون بأنهم سيعملون على إفراغ الاتفاق النووي من محتواه عبر عرقلة تنفيذه. ويُذكَر أن المقاعد الثلاثين لمدينة طهران حُسمت من الجولة الأولى لصالح “قائمة الأمل”، وحصل جميع مرشحي القائمة في طهران على أكثر من مليون صوت.
وقد أثبتت الانتخابات التشريعية الماضية بأن المشهد السياسي الإيراني لم يعد كما كان عليه الحال في العقد الأخير من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، حيث كان يتنافس تيّاران كبيران مُتمايزان بوضوح: أصولي وإصلاحي، وبينهما تيار معتدل براغماتي ذو نزعة اقتصادية ليبرالية. وكانت بداية ظاهرة السيولة هذه قد برزت في الانتخابات الرئاسية عام 2013، إذ لم يكن أمام ما تبقى من التيار الإصلاحي بعد عمليات التفكيك والإقصاء من خيار سوى سحب مرشحه، والتحالف مع طيف رفسنجاني-روحاني المعتدل، وبعض معتدلي التيار الأصولي في تلك الانتخابات التي فاز بها الرئيس حسن روحاني. أما في الانتخابات التشريعية لهذا العام فقد أدت قرارات «مجلس صيانة الدستور» المتمثلة في رفض أهلية معظم مرشحي التيارين الإصلاحي والمعتدل لـ «مجلس الشورى» إلى تآكل الأحزاب السياسية وتفتتها، حيث لم تستطع قائمة الإصلاحيين أن تقدّم أكثر من 172 مرشحاً في كل المناطق. كما تم رفض جميع مرشحي التيار الإصلاحي لـ «مجلس الخبراء».
وقد تحالف من اجتاز اختبار رفض الأهلية من مرشحي التيارين مع أنصار رئيس البرلمان علي لاريجاني، إضافة إلى شخصيات أصولية معتدلة تدعم الحكومة، مثل النائب علي مطهري. كما تحالف هاشمي رفسنجاني مع مَنْ قَبِل التحالف معه من مرشحي التيار الأصولي، وبرزت ظاهرة تكرار ورود اسم المرشح الواحد في أكثر من قائمة في الانتخابات، بعضها متنافسة فيما بينها؛ وهو ما يشير إلى حالة السيولة بين التيارات السياسية وضعف التمايُز بينها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لم يكن أحد في إيران يتوقع أن ترد أسماء علي مطهري، وكاظم جلالي في قائمة الإصلاحيين بعد أن كانوا في انتخابات المجلس السابع على تضادّ كامل مع هذا التيار، وذلك حينما كانوا يُظهرون ميولاً أصولية متشددة.
وتشير مصادر مقربة من التيار الإصلاحي إلى أن الأصوليين المتشددين لم يرغبوا في تشكيل قائمة مستقلة للإصلاحيين يرأسها إصلاحي، بل في انخراطهم في قائمة أصولية معتدلة يرأسها أصولي. لكن جهوداً بذلها روحاني وخاتمي ورئيس “مجلس تشخيص مصلحة النظام” هاشمي رفسنجاني، أتاحت تشكيل قائمة “الأمل” برئاسة محمد رضا عارف، نائب خاتمي سابقاً.
وقد أولى الناخبون أهمية بالغة لانتخابات «مجلس الخبراء» هذه المرة على غير العادة في انتخابات المجلس الأربع السابقة، فقد حصل المرشح الأول لـ «مجلس الخبراء» هاشمي رفسنجاني على حوالي 2.3 مليون صوت، بينما حصل المرشح الأول محمد رضا عارف على حوالي 1.6 مليون صوت في «مجلس الشورى»، كما حصل 6 من مرشحي «مجلس الخبراء» على أكثر من 2 مليون صوت. ونجح في الوصول إلى «المجلس» أول مرشح من غير رجال الدين المعممين (محسن إسماعيلي)؛ وهذه الأرقام تُشير بوضوح إلى تأثير موضوع خلافة خامنئي المحتملة على الناخبين. وإذا أضيف إلى ذلك إخفاق رموز التيار الأصولي المُتشدّد من الوصول إلى «المجلس»، فيمكن الاستنتاج أيضاً بأن أكثرية الناخبين الإيرانيين يريدون خليفة لخامنئي من خارج التيار الأصولي المتشدد.
لقد أبرز الاتفاق النووي، ومن بعده الانتخابات التشريعية براغماتية الرئيس روحاني إلى جانب ميزته كخبير أمني-سياسي، حيث أظهر روحاني مرونة مع خصوم الداخل والخارج، وتنازلَ عن كثير من وعوده الانتخابية في سبيل الوصول للاتفاق النووي، فازداد اقترابه من رفسنجاني الذي كرّس في الانتخابات الحالية فكرة “مظلومية” تيار الاعتدال والإصلاح من خلال التزام الصمت عن التهم والإساءات والمضايقات التي تعرض لها خلال السنوات الماضية؛ وهو ما عمل على تحسين صورته لدى الناخبين، فحصل على 2.3 مليون صوت رغم أنه بالكاد نجح في انتخابات «مجلس الشورى» السادس مثلاً، وجاء آنذاك في ذيل القائمة بحوالي 750 ألف صوت.
الانعكاسات الاجتماعية للتحولات السياسية والاقتصادية
كان الاقتصاد ولا يزال أهم أولويات الناخب الإيراني منذ انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، لكن استجابة مختلف التيارات داخل النظام السياسي الإيراني لهذا التحدي ظلت محكومة بالمخاطر الأمنية والوجودية التي تعرضت لها الثورة، ومع مطلع القرن الحالي بدأت هذه المخاطر بالتراجع التدريجي، خاصة بعد سقوط طالبان في أفغانستان، ونظام صدام في العراق، إلى توقيع الاتفاق النووي، وتخلي أمريكا والغرب رسمياً عن فكرة الإطاحة بالنظام الإيراني. ومن ثم، مثلت تلك التغيرات نقطة تحول كبيرة للاقتصاد الإيراني.
وقد أسهمت العقوبات الاقتصادية التي تخللت هذه الفترة في رفع مستوى التحدي الاقتصادي ليتحول إلى خطر وجودي على النظام والدولة، وعلى الرغم من دعوات القائد خامنئي إلى تبنّي استراتيجية الاقتصاد المقاوم كبديل عن الانفتاح الاقتصادي على الغرب، وباعتباره خطة بديلة في حال أخفقت المفاوضات، كرّست حكومة الرئيس حسن روحاني مقولة أن إصلاح الاقتصاد مرهون بتوقيع الاتفاق النووي، وهو ما أوجد زخماً شعبياً كبيراً مُناصراً لتوقيع الاتفاق وإظهار مرونة في التفاوض مع الغرب.
وقد أظهرت هذه الانتخابات رغبة قوية من جانب الناخبين في تغيير الوضع الاقتصادي القائم. فقد تنافست مختلف القوائم على طرح شعارات ذات أبعاد اقتصادية، كما أظهر الناخبون رغبة قوية في تغيير الوضع الاقتصادي القائم حالياً، سواء من صوّت منهم لصالح القوائم الداعمة لحكومة روحاني، أو من صوّت لصالح المحافظين والمستقلين. فالناخب أراد لـ «المجلس» العاشر أن يتبنى السير في خريطة طريق الاتفاق النووي، ويدعم تحقيق التنمية الاقتصادية. ومن الصعب على النظام بكل أطيافه الآن تقديم مُبرّرات مقنعة للناس إذا لم ينجح في تحسين وضعهم الاقتصادي والمعيشي.
وأظهرت الانتخابات التشريعية أيضاً قدرة الشعب الإيراني على الاستغلال الأمثل لمساحات وهوامش الحرية الضّيِّقة التي يُتيحها النظام، كما أظهرت اتجاه المزاج العام نحو التغيير التدريجي السلمي، ولم تُبدِ أي من التيارات المتنافسة رغبة في التصعيد بعد الأحداث التي أعقبت انتخابات عام 2009، إذ بلغت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات حوالي 50 % في طهران، و62 % في مختلف أنحاء إيران على الرغم من توسُّع «مجلس صيانة الدستور» في قرارات رفض الأهلية للترشح بشكل غير مسبوق. وقد بات واضحاً أنه لا مكان في المعادلة الجديدة للسلطة في إيران لعودة التيارات اليسارية الإسلامية مثل “منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية” أو “جبهة المشاركة”.
ويشير معظم المحللين في الداخل الإيراني إلى دور وسائل الإعلام البديلة، ووسائل التواصل الاجتماعي في نجاح جميع مرشحي “قائمة الأمل” في العاصمة طهران التي تنشط فيها هذه الوسائل خلافاً لباقي المحافظات؛ ما يعني أن النظام الإيراني بشكل عام وبمختلف تياراته السياسية بات أمام ضرورة التكيُّف مع هذه الحقائق الجديدة، وأن وسائل التمحيص والمنع المتبعة لغاية الآن لم تعد مجدية.
وأعادت الانتخابات الأخيرة التباينات الثقافية والاجتماعية بين العاصمة طهران – حيث تتركز بقايا الطبقة الوسطى من عهد الملكية، والطبقة الوسطى الجديدة – وباقي المحافظات الإيرانية، فبينما امتدح رموز تحالف تياري الاعتدال والإصلاح سكان العاصمة بعد احتكارهم جميع مقاعدها في «مجلس الشورى»، اتهم بعض رموز التيار الأصولي سكان طهران بالتسليم للإنجليز، وشبّهوا سكان المدينة بأهل الكوفة كنايةً عن خذلانهم للثورة.
وأظهر الاتفاق النووي ومن بعده الانتخابات التشريعية تنامي مكاسب التقارب بين “البراغماتية الثورية” لِطَيْف روحاني-رفسنجاني، و”الواقعية الثورية” للتحالف الحاكم، مقابل اضمحلال “المثالية الثورية” للتيار الأصولي. وأدّت عمليات إقصاء وتفكيك كل من التيار الإصلاحي، وطيف أنصار الرئيس السابق أحمدي نجاد إلى اضمحلال الجدل الداخلي، وبالتالي إضعاف الديناميات التي كانت تنتج الأفكار والحلول والبدائل، وترافق ذلك مع تصاعُد وتيرة هجرة الكفاءات، وانتشار مظاهر التملق والنفاق للنظام السياسي، وانحسار هامش النقد الجادّ والبنّاء؛ ما يؤشر إلى تراجُع متوقّع لأداء الدولة بشكل عامّ. وكانت الانتخابات التشريعية مصداقاً لحالة الجمود وضعف التنافسية هذه حيث كانت الأسماء التي سُمح لها بالترشُّح لـ «مجلس الشورى» والبرلمان – باستثناءات محدودة- غير معروفة، ولم يتبنى معظم المرشحين أية مواقف أو آراء أو بدائل جديدة ذات أهمية للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن في إيران.
د.محمد الزغول
معهد واشنطن