تشهد السياسة الخارجية التركية مؤخرًا تحولات حيال العديد من القوى الإقليمية والدولية التي تراوحت علاقات وروابط أنقرة معها خلال الفترات الماضية ما بين التوتر والصراع بسبب السياسات والمقاربات والانحيازات التركية حيال قضايا وملفات الإقليم العالقة، والتي خلقت ارتدادات سلبية متعددة المستويات على الداخل التركي، بما دفع إلى ضرورة تفادي المخاطر عبر إعادة النظر فيما كانت قد اعتبرته سابقًا بعض الدوائر الرسمية “عزلة أنقرة الثمينة”.
وقد جاءت الاستدارة التركية أو استراتيجية “ردم الفجوات” حيال عدد من الفواعل النشطة على مسرح عمليات الإقليم، وفق ما يمكن أن يطلق عليه “التحرك بالجملة”، فقد أقدمت تركيا على توقيع اتفاق في العاصمة الإيطالية (روما) مع إسرائيل يقضي بتجاوز الخلافات وتطبيع العلاقات، تبع ذلك تقديم الرئاسة التركية ما اعتبرته موسكو “خطاب اعتذار” عن حادثة إسقاط الطائرة (SU24) في نوفمبر الماضي، هذا في وقت أشارت فيه تقارير إلى اجتماع استضافته إحدى الدول العربية لإدارة ملفات الخلاف بين ممثلين عن الدولة التركية والقيادة السورية، تزامن ذلك ولحقته تصريحات هادرة من قيادات تركية مختلفة بشأن اتخاذ البوابة الاقتصادية “مدخلا شرعيًّا” لتحسين العلاقات تدريجيًّا مع الدولة المصرية.
وقد صاغت المحركات الداخلية نمط ووتيرة “المراجعات السياسية” أو “المبادرات التطبيعية” حيال القوى الإقليمية التي تداخلت تركيا معها في حسابات متناقضة حيال العديد من قضايا الإقليم، وقد جاء ذلك على ثلاثة مستويات ارتبطت بالتحدي الأمني، والتوتر السياسي، والتراجع الاقتصادي.
تزايد عدد العمليات الإرهابية:
شهدت تركيا خلال الفترة الماضية ارتفاع منحنى العمليات الإرهابية التي وقفت وراءها عناصرُ ترتبط بحزب العمال الكردستاني PKK، من جانب، وجبهة التحرير الثوري اليسارية (DHKP/C)، من جانب ثانٍ، وتنظيم “داعش”، من جانب ثالث، كما برزت من جانب رابع أدوار منظمة صقور حرية كردستان TAK، والتي استطاعت أن تقوم باختراقات أمنية ضخمة في مدن رئيسية وفي مواقع تتصف بـ”السيادية”، حيث قلب مدينتي أنقرة وإسطنبول. وقد صاحب ذلك تصاعد ظاهرة “الأكراد الدواعش”، بما خلق ما يمكن أن يُطلق عليه “التهديدات المركبة”.
وقد ارتبطت هذه التهديدات بتزايد هجمات “الذئاب المنفردة” التي باتت تتحرك على نحو فردي داخل تركيا وعبر خلايا متناهية الصغر لاستهداف أية رموز أمنية ثابتة كانت أو متحركة، فضلا عن العديد من المؤسسات المحلية والأجنبية والمقرات الحزبية، بما يُشكل تهديدات متصاعدة لأجهزة الأمن التركية التي أضحت تُواجه هجمات أمنية بأدوات غير تقليدية، وذلك بفعل توالي عمليات حزب العمال الكردستاني النوعية والتي أفضت في مايو الماضي إلى إسقاط طائرة هليكوبتر تابعة للجيش التركي، إضافةً إلى تصاعد هجمات تنظيم داعش عبر الحدود السورية من خلال قصف البلدات التركية المجاورة، واستهداف المدن الكبرى، خصوصًا الميادين الرئيسية والمؤسسات الأمنية والأماكن السياحية.
ففي 19 أغسطس الماضي، أدى هجوم مسلح عبر قنبلة صوتية وإطلاق نار كثيف خارج قصر دولما بهجة بساحة مسجد السلطان أحمد، إلى مقتل نحو أحد عشر سائحًا ألمانيًّا، كما شهد مطار أتاتورك بإسطنبول في 28 يونيو الماضي هجومًا إرهابيًّا أفضى إلى مقتل نحو 44 شخصًا وإصابة زهاء 200 آخرين، وهو الهجوم العاشر لتنظيم داعش على الأراضي التركية، على النحو الذي أفضى إلى مقتل نحو 233 شخصًا منذ يناير 2015.
وترتبط التهديدات الأمنية المتصاعدة التي تواجهها أنقرة بما يمكن تسميته بـ”البراجماتية المتدنية” للقيادة التركية التي قامت بإنهاء عملية السلام مع الأكراد إثر فشل حزب العدالة والتنمية الحاكم في حيازة الأغلبية البرلمانية في انتخابات يونيو الماضي، وهو الأمر الذي ساهم في تحول الأراضي التركية إلى ميدان تحرك رئيسي للتنظيمات الجهادية التي استغلت غض طرف القيادة التركية عن تحركاتها عبر العديد من المدن -مثل: غازي عنتاب، وشارلي أورفا- لتعزيز بنيتها التحتية، وتصعيد عملياتها للتجنيد والتعبئة وزرع الخلايا النائمة. كما ساهمت هذه السياسات في انطلاق قطاعات من الشباب التركي للانخراط في صفوف هذه التنظيمات، بما بات يطرح -من ناحية- إشكالية العائدين من سوريا، والتي بدأت تركيا تشهد موجتها الأولى، ويثبت -من ناحية أخرى- أن القيادات التي دعمت بشكل أو بآخر مثل هذه التنظيمات لا يمكنها مطاردة تلك التنظيمات أو مكافحتها دون أن تتحمل تكلفة مضاعفة.
التوتر والاستقطاب السياسي:
شهدت تركيا خلال الآونة الأخيرة تصاعد حالة التوتر والاستقطاب السياسي الذي بات يتداخل بفعل سياسات الحكومة مع خطوط الانقسام العرقي والطائفي والمناطقي في تركيا، وذلك إثر صعود ما يمكن تسميته بـ”الأيديولوجية الأردوغانية” بديلا عن “الكمالية” باعتبارها الأيديولوجية الرسمية للدولة التركية، وذلك في ظل تزايد مؤشرات “تقديس” شخصية وكاريزما الرئيس “رجب طيب أردوغان”، والذي ينظر بدوره إلى الانتخابات باعتبارها أحد أهم “الأهداف الوسائلية” للسيطرة على مؤسسات الدولة وقطاعاتها الحيوية، وتهميش المعارضة الحزبية، وحصار المؤسسات الإعلامية، والحد من سلطة المؤسسات المستقلة، وفق ما يطلق عليه “الديمقراطية الخشنة”، مستغلا ومرسخًا لمفهوم “العقل المدبر” الذي يسود لدى قطاعات واسعة بأن ثمة قوى خارجية تناصرها مجموعات محلية تستهدف إسقاط النظام، وإفشال “التجربة الأردوغانية” في تركيا.
ويدفع ذلك الحكومة للعمل على التحول إلى “الرئاسة التنفيذية” القائمة بحكم الأمر الواقع، هذا بالإضافة إلى التوجه إلى فرض مزيدٍ من القيود على تحركات المعارضة عبر إجراءات عديدة، منها: سن تشريع يسمح برفع الحصانة البرلمانية عن نواب الأكراد، وهو إجراء يستهدف من ناحية إحكام السيطرة على البرلمان، ومن أخرى مواجهة الطموح الكردي على أكثر من ساحة إقليمية، قد لا يغيب عنها الساحة التركية، خصوصًا بعد تنامي الصلات وأطر العلاقات بين أكراد تركيا والعديد من القوى الإقليمية والدولية التي باتت توظف القضية الكردية كغيرها من قضايا تركيا السياسية والأمنية في إطار صراعها متعدد الجبهات مع الحكومة التركية، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن مقاربات أنقرة التطبيعية مع عدد من الدول الإقليم إنما تستهدف ضمن نطاق جملة أهدافها عزل أثر الفواعل الإقليمية عن مدخلات الصراع وقضاياه المحلية.
المصالح الاقتصادية:
شكّلت الدوافع الاقتصادية محركًا رئيسيًّا لمراجعات تركيا الخارجية، لا سيما بعدما تداخل أثر العوامل الإقليمية والمحلية في تشكيل عامل ضغط على صانع القرار التركي، وذلك بعدما واجهت أنقرة عقوبات اقتصادية ضخمة من قبل روسيا عقب نوفمبر الماضي، طالت قطاعات اقتصادية وتجارية ومالية رسمية وغير رسمية، كما شهدت معدلات السياحة الروسية تدنيًا غير مسبوق، فقد أوضح تقرير للبنك الأوروبي للتنمية أن العقوبات الروسية قد تقلل من معدل النمو التركي ما بين 0.3 إلى 0.7 نقطة مئوية في عام 2016. وتشير تقديرات أخرى إلى أن معدلات السياحة قد تنخفض هذا العام إلى قرابة 45% عن العام السابق، خصوصًا مع توالي العمليات الإرهابية التي طالت العديد من المناطق السياحية، ودفعت العديد من الحكومات الغربية إلى تحذيرات مواطنيها من اتخاذ تركيا واجهة سياحية.
وبينما شكّل ذلك دافعًا لاضطلاع اللوبي الاقتصادي داخل حزب العدالة والتنمية بتصعيد ضغوطه من أجل إصلاح العلاقات مع موسكو التي تعد أيضًا المورد الرئيسي للنفط والغاز إلى السوق التركية، ووجهة أولى للصادرات التركية؛ فإن محاولة تعظيم المكاسب وتقليل الخسائر لعبت كذلك أدوارًا رئيسية في التحرك التركي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وإعادة النظر في المقاربات والسياسات حيال مصر. فقضية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى الدول الغربية تدفع القيادة التركية إلى العمل على أن يكون ذلك عبر الأراضي التركية، بما يُمكِّن تركيا من استخدام إسرائيل كورقة ضغط في إطار العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويزيد من القدرة على المناورة في مواجهة روسيا التي تمتلك شركة غازبروم التي تزود بدورها تركيا بنحو 55 في المائة من احتياجاتها من الغاز.
يُمثل دفع مصر إلى مراجعة إجراءاتها العقابية على الصعيد الاقتصادي حيال تركيا ملفًّا مهمًّا بالنسبة للعديد من رجال الأعمال المحسوبين على الحكومة التركية وداخل جمعية “موسياد” (جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين التركية)، حيث يعمل بعضهم على حث الحكومة على تذليل العقبات أمام الاستثمارات التركية الموجودة في مصر، أو تلك التي تسعى إلى الدخول إلى هذا السوق الضخم وتنتظر السياق السياسي المحفز على ذلك. ومن هنا تبرز استراتيجية الفصل بين المسارات السياسية والاقتصادية في العلاقات المشتركة باعتبارها تمثل محاولة تركية لاستنساخ نمط العلاقة مع طهران التي تتناقض حسابات أنقرة الإقليمية معها في الوقت الذي تتزايد فيه أطر الروابط التجارية والاقتصادية.
مسارات محتملة:
إن محاولة تركيا إنتاج “موجة ثانية” من استراتيجية “تصفير المشاكل” مع دول الجوار تبدو محاولة محفوفة بالمخاطر؛ حيث إن سياقات التهدئة التركية لم تختلف عن سياقات وخلفيات التصعيد مع الفواعل والقوى النشطة على مسرح عمليات الإقليم، فما زالت التناقضات المصرية–التركية سائدة، وثمة تضارب شبه مقصود في التصريحات بين مؤسسة الرئاسة ورئاسة الوزراء التركية بشأن “تطبيع منخفض المستوى” مع مصر التي تقابل بدورها الطروحات
التركية بفتور رسمي، وتصعيد “شبه رسمي” للتأكيد على أن بحث أولويات تركيا الاقتصادية لا يمكن أن يسبق مناقشة أولويات مصر الأمنية.
هذا فيما تشهد علاقات تركيا مع روسيا تناقضات أبعد من منطقة الشرق الأوسط، فبينما يمثل الملف السوري أحد ملفات التوتر والاضطراب في العلاقات المشتركة، فإن العلاقات شهدت تصعيدًا متعدد الجبهات خلال الآونة الأخيرة في منطقة البحر الأسود وفي إطار الروابط التركية مع أوكرانيا وجورجيا وتصعيد أطر التعاون العسكري المشترك على نحو غير مسبوق، وذلك ضمن تحركات تنسجم مع سياسات حلف الناتو في مناطق الجوار الروسي، والتي تستهدف ممارسة الضغوط على موسكو.
وتختلف أيضًا السياسات التركية مع إسرائيل بشأن التعاطي مع الملف الكردي والذي يحظى بأولوية لدى القيادة الإسرائيلية، كما أن أنقرة، وعلى جانب آخر، لم تقطع بعد صلتها بحركات الإسلام السياسي، بما من شأنه أن يعرض علاقاتها بإسرائيل لاهتزازات تلقائية مع أول اختبار تصعيدي بين إسرائيل وحركة حماس.
وخلاصة القول، إن “البراجماتية الرخيصة” -بحسب تعبير حازم صاغية- وسيادة منطق العمل بأولوية تحقيق “الأهداف الوسائلية” لتقليل التحديات التي باتت تواجهها الساحة المحلية بعدما انتقلت تركيا من قيادة “رياح التغيير” الإقليمي إلى حالة المعاناة من شدة عواصفه، قد لا يعكس تحولا جوهريًّا وفق ما عبر عنه المتحدث الرئاسي إبراهيم كالين، وإنما محض تحولات تكتيكية تنطلق من تقدير مُغالَى فيه للقدرات الذاتية والصعوبات الإقليمية التي تعترض تسوية أزمات صنعت في مرحلة سابقة شرعية النظام السياسي التركي.
محمد عبدالقادر
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية