اعتقلت السلطات التركية الطيارين اللذين كانا قد أسقطا الطائرة الحربية الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي لفترة وجيزة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وقال مسؤول تركي إن اعتقالهما تم في إطار الاعتقالات التي لها صلة بالانقلاب الفاشل. وبهذا تصبح من المحصلات الرئيسية للمحاولة الانقلابية واضحة المعالم. وكان الرئيس رجب طيب أردوغان قرر ترميم العلاقات مع روسيا وهو يستخدم المحاولة الانقلابية للإظهار للروس بأنه لم يكن متورطاً في إصدار الأمر بإسقاط الطائرة وأن أعداءه السياسيين هم المسؤولون.
ثمة بعض المشاكل في هذه النسخة من التطورات. فاعتراض الطائرة الروسية المقاتلة تم بعد عدد من التوغلات في المجال الجوي التركي. ووفق مصادر متعددة، بما فيها مصادر تركية، فإن الطائرة الروسية التي أسقطت كانت فوق الأراضي التركية لفترة وجيزة من الوقت. ولم يكن لدى مراقبي التكتيكات الدفاعية الجوية وقتاً لطلب الإذن من سلطة القيادة القومية (رؤسائهم) بإسقاطها. وكان من الواجب اتخاذ القرار بإطلاق النار على أي طائرة روسية تدخل المجال الجوي التركي قبل إسقاطها. وكان البديل أن المراقبين التكتيكيين على الأرض، وليس الطيارين، هم من تصرفوا من دون تخويل. ومعنى ذلك أن الأمر بإسقاط الطائرة الروسية صدر عن عقيد في الأغلب في المراقبة التكتيكية الأرضية.
وكانت الحكومة التركية بما في ذلك أردوغان أصدروا رد فعل مباشرا من دون تردد قائلين إن التوغل لم يكن الأول من نوعه وأن الروس كانوا ما يزالون ينتهكون المجال الجوي التركي باستمرار.
ودانوا بشدة الروس، كما تجدر الإشارة. ولم يكن هناك أي تسريب رسمي أو غير ذلك يشير إلى أن شيئاً ما خطأ بعملية إسقاط الطائرة الروسية كما لم يتم إعفاء أي أحد يعمل في الجو أو على الأرض من واجباتهم كما لم يكن هناك أي تلميح في أن تحقيقاً في عملية الإسقاط قد بدأ.
وعلى ضوء أن تركيا بلد عضو في حلف الناتو وأن موظفيها ينسقون باستمرار مع موظفي البلدان الأخرى، فإن أي إجراء ضبط يتخذ ضد أولئك المسؤولين عن إسقاط الطائرة كان ليكون قد عرف.
وفي الأثناء، تنتشر قصص تحقيقات ورؤوس تتدحرج كانتشار النار في الهشيم من خلال تنظيم عسكري واحتمالية عدم التقاطها من جانب موظفي الناتو والموظفين الروس احتمالية منخفضة. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن إعفاء قائد قسم تكتيكي وبعض الطيارين من المسؤولية عن أكبر حادث عسكري يشهده سلاح الجو التركي في غضون أعوام كان ليملأ كل كافتيريا في كل قاعدة تابعة للقوة الجوية التركية بالقيل والقال لأشهر عدة. لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحدث. ما حدث بالفعل كان الإدانة التركية الشديدة للروس.
كما أن السياسة لا تصنع شيئاً معقولاً. وكان التدخل الروسي في سورية يستهدف تعزيز نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وعارضت حكومة أردوغان الأسد لقتله تركمانيين في سورية. وما يزال هذا نزاع دموي منذ سنوات. وقد غضب الأتراك من التدخل الروسي ما جعل تركيا تبدو ضعيفة في الوقت نفسه الذي كانت تثار فيه أسئلة حول دعم تركي محتمل للدولة الإسلامية “داعش”. ولقد وضع التدخل الروسي الرئيس أردوغان في وضع سياسي صعب فضلاً عن أن نفاذه إلى المجال الجوي التركي من دون رد عليه كان ليجعله حتى أكثر ضعفاً. كان تحت ضغط للرد بعض الشيء. ولم يستطع أردوغان أن يبدو خائفاً من القيام برد في وجه الاتفزاز الروسي.
إسقاط الطائرة الروسية صنع شيئاً سياسياً معقولاً كما أنه من غير المرجح جداً أن يكون أمر عام يقضي بالتعرض السريع لأي طائرة متطفلة (الروسية). وإن أي شخص يصدر ذلك الأمر من دون إجازة من الجهات العليا- أي أردوغان نفسه- كان ليمثل أمام محكمة عرفية في أي قوة سلاح جو. وكانت العداوة للتواجد الروسي في سورية عميقة الجذور سياسيا وليست نزوة عابرة. ويجدر التنويه إلى أن أردوغان لم يفعل أي شيء بعد حادث إسقاط الطائرة يوحي إلى أنه لم يخول الهجوم ولم يقره. وحمل الروس المسؤولية. والفكرة، أشهراً بعد الحادثة، بأنها كانت جزءاً من انقلاب، صعبة على الإدراك.
لكن مع ذلك ثمة عقلانية في طرح هذا الادعاء في سياق الاستراتيجية التركية الحالية. ويدعي الأتراك بأن فتح الله غولن كان يقف خلف المحاولة الانقلابية. هو يعيش في الولايات المتحدة الأميركية وطالب أردوغان بأن تسلمه الولايات المتحدة إذا كانت “شريكا استراتيجياً بالفعل” لتركيا. ولا تستطيع الولايات المتحدة ببساطة تسليمه في ضوء قانون معاهدات الترحيل مع تركيا والولايات المتحدة. لكن في حشو المطالبة تلك ثمة تلميح إلى أن الولايات المتحدة ساعدت في هندسة المحاولة الانقلابية. وإلى ذلك، تعج صحف الشرق الأوسط بهذا الاتهام. وبينما يتساءل الكثيرون ما إذا كانت بالفعل محاولة انقلابية ثمة ادعاء آخر ينجم ومؤداه أن الولايات المتحدة كانت تقف وراء تلك المحاولة.
عندما أسقطت الطائرة وانهارت العلاقات التركية الروسية أجبر واقع الحال تركيا على الدخول إلى علاقات أوثق مع الولايات المتحدة. ولم تكن تركيا قوية بشكل كاف لأن تتخذ منحى عدائياً من كل من روسيا والولايات المتحدة على حد سواء. لكن تركيا لم تكن مرتاحة من حيث إقامة روابط أوثق مع الولايات المتحدة. أولاً لم ترد أن تقوم بدور عسكري رئيسي في سورية وعلى الأخص من حيث الانخراط في قتال موسع مع الدولة الإسلامية. لقد أراد الأميركيون أن يلعب الأتراك دوراً أقوى، لكن الأتراك اعتقدوا بأنه سيكون احتلالاً لا نهاية له وهو الأمر الذي لم يكونوا مستعدين للنهوض به.
ثانياً تصاعدت هجمات داعش الإرهابية في تركيا عندما انتقل الأتراك إلى داخل الموقف الأميركي المرغوب. وتوجت تلك الهجمات بالهجوم على مطار أتاتورك مما دمر صناعة السياحة في تركيا. ولم يرد أردوغان أن يصبح البيدق الأميركي في صراع لم يرد أن يخوض غمار قتاله. وبالإضافة لم يرد أن يسحب إلى داخل تحالف معادٍ لروسيا من هندسة أميركية ويضم أيضاً بولندا ورومانيا. وكان الأميركيون يحاولون احتواء روسيا ولم يشأ أردوغان أن يُجر إلى هناك أيضاً.
لم يرد أردوغان أن يصبح الشريك الصغير القاصر للولايات المتحدة
عندما قاد إسقاط النفاثة (الروسية) تركيا في ذلك الاتجاه. فأقدم على خطوة مفاجئة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وأصدر بشكل متزامن تقريباً اعتذاراً روسيا عن إسقاط الطائرة. وكان الهدف من الخطوة نحو إسرائيل إرضاء الولايات المتحدة. ولم يرد أردوغان الذهاب بعيداً جداً في عصيان الولايات المتحدة. ولمحت الخطوة الثانية إلى أنه أراد إنهاء المواجهة مع روسيا وبذلك لن يجر إلى داخل أي خطة دفاعية أميركية ضد الروس.
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن أردوغان لم يكن راضياً تماما البتة عن تقديم اعتذار. فأعطته المحاولة الانقلابية الفرصة لإعادة قولبة الاعتذار. فالهجوم على الطائرة الروسية لم يخول من جانبه وإنما صدر التخويل من جانب المحاولة الانقلابية. ولقد كان أردوغان ضحية لإسقاط الطائرة الروسية بالقدر نفسه الذي كانت فيه روسيا. ومن خلال معاقبة الانقلابيين نجده يرمم أي ضرر لحق بالروس. ومن خلال الانسحاب من المواجهة مع الروس يخلي فضاءه ليناور ويعفي تركيا من الضغط الأميركي.
لقد كان للمحاولة الانقلابية أو مهما كانت صلة كبيرة أكثر من هذا بالطبع. لكن ما تبعها في جزء منه هو حول استعادة فضاء تركيا الذي فقد عندما أصبحت تركيا مستقلة عن الولايات المتحدة بعد إسقاط الطائرة. ويخلق الاكتشاف بأن الناس الذين خططوا للانقلاب خططوا أيضاً لإسقاط الطائرة المجال ويبين أن أردوغان لم يكن مخطئاً. وهناك بعض الناس في تركيا خاصة وحيث الجمهور المستهدف سيشترون هذا الرأي. وفي الأثناء، يضغط أردوغان على الولايات المتحدة وينقل ثقلها باتجاه روسيا، خطوة ميزان قوة كلاسيكي.
جورج فريدمان
صحيفة الغد