أعلن المسؤول البارز في «حزب الدعوة» الإسلامي علي الأديب، رئيس كتلة دولة القانون النيابية ووزير التعليم العالي والبحث العلمي، في مداخلة له في المجلس النيابي العراقي، «أن الدولة لا يمكن أن تتحمل مجانية التعليم بعد الآن»، داعياً إلى» جعل التعليم الإلزامي إلى المرحلة المتوسطة فقط». وقال: «أظن أن الأزمة المالية ستستمر معنا إلى فترة طويلة. فمن غير الممكن الالتزام بالتعليم الإلزامي (…) يمكن الدستور أن يلتزم بالتعليم المجاني الإلزامي للمرحلة المتوسطة. أما بعد ذلك، فميزانية الدولة لا تتحمل. فكلفة تعليم الطالب الجامعي الواحد تفوق 13 مليون دينار سنوياً» (نحو 10 آلاف دولار سنوياً، أو أقل من المعاش والمخصصات لنائب عراقي في شهر واحد). وحذّر قائلاً: «من غير المعقول أن تستمر الموازنة على هذا الأمر».
تشكّل هذه المداخلة النيابية محاولة جديدة لهدم ما تبقى من العراق الحديث. فالتعليم المجاني بكل مراحله، من الروضة إلى الدراسات العليا المتخصصة من خلال نظام البعثات إلى الجامعات العالمية، شكل ركناً أساساً من أركان تقدُّم الدولة العراقية الحديثة. وتنص المادة 34 من الدستور العراقي، التي يطالب الأديب تغييرها، على أن «التعليم المجاني حق لكل العراقيين، في مختلف مراحله».
الحرمان من التعليم المجاني ما بعد المرحلة المتوسطة، يعني حرمان شريحة اجتماعية عراقية واسعة من الطبقة المتوسطة، ناهيك عن الفقيرة التي تمثل نحو 23 في المئة من السكان، من مراحل مهمة من التعليم المجاني المتوافر منذ تأسيس الدولة العراقية. ما يعني بدوره، حجب الفرص لأبناء هاتين الشريحتين من التعلم، وتسلّم مسؤوليات متخصصة لاحقاً.
للتعليم المجاني مساوئ عدة، فلم يستطع اللحاق بالمستويات العالمية، إذ تكاد تخلو الجامعات العراقية الرسمية من بحوث معترف بها دولياً. لكن المشكلة هنا ليست بالأموال المخصصة للمعاهد الرسمية، بل بمناهج التدريس التي تعتمد على الحفظ والأسس التعليمية القديمة. لكن على رغم هذه المشكلة، فقد استطاع الطلاب المتفوقون الحصول على بعثات علمية لأحسن الجامعات العالمية. وتم اختيار هؤلاء على أساس الدرجات التي حصلوا عليه في امتحاناتهم، ومن مختلف شرائح المجتمع العراقي، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية. وهكذا برزت المواهب الفنية والمعمارية، واستطاعت الدولة تأميم قطاع النفط وإدارته بكادر عراقي بحت. كما استطاع العراق تطوير برنامجه النووي بكادر وطني متخصص. وتمكن التعليم الرسمي، على رغم عيوبه، من فتح المجال لآلاف الطلاب المتفوقين لاستكمال دراساتهم العليا. وعلى سبيل المثل، استطاع الراحل عبدالجبار عبدالله، من مواليد قلعة صالح في محافظة العمارة، أن يدرس الثانوية في قريته، ثم أرسلته الحكومة للدراسة في لبنان ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن حيث حصل على شهادة الدكتوراه في الفيزياء. وهو واحد من أربعة طلاب فقط في العالم تتلمذوا على يد العالم ألبرت أينشتاين. وشغل منصب رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية ثم رئيس جامعة بغداد. وحصل الراحل صبري عبدالرزاق كاظم على شهادة الثانوية من مدرسة الديوانية عام 1957، حيث كان الأول على الجنوب والعاشر على عموم العراق . ثم نال شهادة هندسة النفط من كلية كينغز كولدج – جامعة لندن باستحقاق في 1963 ليلتحق بعدها بقطاع النفط،، وشكل مع زملائه الرعيل الأول من العراقيين الذين أسسوا شركة النفط الوطنية العراقية. وعمل بعدها في وزارة النفط . ثم انتدبته الحكومة إلى منظمة «أوبك» للأعوام 1975 – 1980 لمنصب رئيس الإدارة الاقتصادية. ثم عمل مستشاراً لوزير الطاقة القطري السابق عبدالله بن حمد العطية.
معروف أن التعليم المجاني باهظ الكلفة. لكن نود أن نذكّر الأديب، الذي درس في مدارس كربلاء الرسمية وجامعة المستنصرية، بأن الأموال المخصصة للتعليم مصدرها الريع النفطي الذي هو ملك الشعب العراقي برمته. وبما أن الحصة الأكبر في موازنة الدولة هي من الريع المالي، فمن الخطأ حرمان شرائح واسعة من الشعب من التعليم المجاني. ولا يستطيع أحد إنكار دور هذا النظام التعليمي المجاني في تخريج أجيال من العراقيين المهنيين.
وفي ما يخص المخاوف من بقاء الريع النفطي منخفضاً، فالمشكلة ليست في الريع المتوقع مستقبلاً، بل في تحديد الحكومة أولويات الموازنة السنوية. وأولى هذه الأولويات التدقيق في وجهة الريع خلال السنوات الأخيرة التي حكم فيها «حزب الدعوة». لا حاجة هنا الى تبيان أرقام الفساد الذي يعم البلاد، والمعاشات الباذخة للنواب وغيرهم من المسؤولين. من الممكن الاكتفاء بتقارير منظمة الشفافية الدولية للسنوات الأخيرة، التي صنفت العراق ضمن الدول العشر الأكثر فساداً في العالم، يليه جنوب السودان، أفغانستان، السودان، كوريا الشمالية والصومال. ومن واجب الحكومة ترشيد الإنفاق. ومن واجب الشعب أن يطالب بوضع حد للفساد المستشري في مؤسسات الدولة، قبل تقليص الإنفاق على التعليم المجاني الإلزامي.
لا شك في أن نفقات الموازنة التي كانت مبنية على أساس سعر 100 دولار للبرميل تستوجب إعادة نظر. لكن يتوجب التذكير بأن التعليم المجاني الإلزامي كان بدأ منذ أوائل عشرينات القرن العشرين، واستمر من دون انقطاع. بمعنى أن التعليم كان مجانياً في الفترة التي كان فيها تصدير التمر يشكل الدخل المالي الرئيس للبلاد، وليس المعدلات القياسية الإنتاجية والتصديرية النفطية الحالية.
مركز العراق الإنتاجي حالياً هو الثاني في منظمة «أوبك». كما أن مستوى الإنتاج والصادرات الحالية قياسية بالنسبة الى المعدلات السابقة. إذ يبلغ الإنتاج أكثر من 4 ملايين برميل يومياً، والصادرات نحو 3.2 مليون برميل يومياً.
من الأجدى إذاً، مساءلة الفاسدين ومحاكمتهم عن فقدان معظم الريع النفطي للبلاد خلال السنوات الأخيرة، والطلب منهم إعادة مئات الملايين من الدولارات المفقودة، قبل حرمان فئات كبيرة من المجتمع من حقهم في التعليم المجاني.
* نقلا عن صحيفة ” الحياة ”