كان الجيش السوري يترنح في العام الماضي بينما كان آلاف المقاتلين الثوار يغذون الخطى في مناطق من البلد طالما اعتبرت معاقل للحكومة. وقد لقي الهجوم المضاد الذي شنه الثوار المساعدة من صواريخ مضادة للدبابات زودتهم بها وكالة الاستخبارات الأميركية (السي آي إيه) والسعودية.
في تلك الأثناء، راجت تقييمات استخبارية تم تداولها في واشنطن مؤداها أن الرئيس السوري بشار الأسد كان يفقد قبضته على السلطة. لكن الروس وصلوا في ذلك الحين، وأجبروا قوات الثوار المدعومين من وكالة الاستخبارات الأميركية على التقهقر بعدما نفذوا حملة جوية ضدهم. والآن، يقول قادة الثوار الذين يسيطرون على الضواحي المحاصرة في مدينة حلب المقسمة، أن الشحنات الواردة من وكالة الاستخبارات المركزية من الصواريخ المضادة للدبابات آخذة في النضوب.
لأول مرة منذ أفغانستان في الثمانينيات، ما يزال الجيش الروسي يخوض قتالاً مباشراً، منذ العام الماضي، ضد قوات الثوار المدربة والمزودة أميركياً. وكان الثوار الأفغان الذين يدعمهم الأميركيون قد تسيدوا الموقف خلال الصراع الذي دار إبان الحرب الباردة. لكن المحصلة هذه المرة مختلفة -حتى الآن.
وفي هذا الصدد، يقول مايكل كوفمان، الزميل في مركز ويدرو ويلسون في واشنطن: “لقد كسبت روسيا الحرب بالوكالة -في الوقت الراهن على الأقل”.
أعطت نجاحات روسيا في ميادين المعارك في سورية لموسكو، المعزولة من جانب الغرب بعد ضمها شبه جزيرة القرم وتوغلاتها الأخرى في داخل أوكرانيا، رافعة جديدة في القرارات المتعلقة بمستقبل الشرق الأوسط. وتتحدث إدارة الرئيس أوباما حالياً مع حكومة الرئيس فلاديمير بوتين عن خطة لتقاسم المعلومات الاستخبارية ولتنسيق الضربات الجوية ضد “داعش” وغيره من المجموعات المتشددة في سورية. وهكذا نجد أن السيد بوتين قد حقق حتى الآن أهدافه في سورية من دون الوقوع في المستنقع الذي كان البعض -بمن فيهم الرئيس أوباما- قد تنبأوا له بوقوعه فيه.
ولكن، حتى السيد أوباما أعرب عن توجسه حيال التوصل إلى صفقة دائمة مع موسكو. وقال الرئيس أوباما في مؤتمر صحفي يوم الخميس قبل الماضي: “لست واثقاً من أننا نستطيع إيلاء الثقة للروس أو لفلاديمير بوتين. إنك عندما تحاول التوسط في أي صفقة مع أحد مثل ذلك، فعليك أن تذهب إلى هناك ببعض التشكك”.
وفي الوقت نفسه، أشار بعض الخبراء العسكريين إلى أن السيد بوتين حمل روسيا عبء تعزيز الجيش السوري الذي واجه صعوبة في تدمير الثوار من تلقاء نفسه.
وكانت الحملة الروسية قد بدأت في شهر أيلول (سبتمبر) بعد هجوم مضاد لمدة شهر كان الثوار المدعومون من الاستخبارات الأميركية قد شنوه وكسبوا فيه أراضي جديدة في إدلب وحماة واللاذقية في شمالي سورية. ولعل إحدى المشكلات بالنسبة لواشنطن هي أن تلك المجموعات قاتلت في بعض الأحيان إلى جانب جنود “جبهة النصرة” التي كانت حتى وقت قريب تابعة لتنظيم القاعدة.
وأخذ الهجوم المضاد في حينه القوات السورية بعنصر المباغتة، مما ولد مخاوف لدى موسكو ودمشق على حد سواء من أن حكومة الأسد التي لطالما حظيت بدعم الروس ربما تواجه المتاعب.
وفي ذلك الوقت، تفاخرت بعض مجموعات الثوار بأن صواريخ “تاو” المضادة للدبابات والمزودة للثوار من قبل ناشطي وكالة الاستخبارات المركزية والسعودية كانت السبب الرئيسي وراء نجاحهم. ولعدة أعوام كانت الاستخبارات الأميركية قد انضمت لأجهزة التجسس في عدة دول عربية لتسليح وتدريب الثوار في قواعد في دول عربية، وحيث مول السعوديون الكثير من العملية.
من جهته، امتنع ناطق بلسان الاستخبارات الأميركية عن التعليق حول أي مساعدة أميركية للثوار السوريين. لكن المقدم فارس البيوش، مهندس الطيران السابق والذي يتزعم مجموعة الثوار المعروفة باسم “فرسان الحق” قال في مقابلة في أيار (مايو) 2015 أن مجموعته ستتسلم شحنات جديدة من الأسلحة المضادة للدبابات بعد استهلاك الصواريخ. وأضاف: “إننا نطلب ذخائر وصواريخ ونحصل على أكثر مما نطلب”.
ومع ذلك، خلق ذلك التقدم أيضاً مشاكل بالنسبة للتجمع المتشظي من مجموعات الثوار، كما أنه سمح لجبهة النصرة بكسب السيطرة على المزيد من المناطق في شمالي سورية. وكانت إدارة أوباما قد حظرت رسمياً على أي من مقاتلي “جبهة النصرة” تلقي أسلحة أو تدريب. لكن المجموعة أظهرت في بعض الأحيان قدرة أكبر في مقابل قوات الحكومة السورية مقارنة مع وكلاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
وبالإضافة إلى ذلك، أظهر مقاتلوها أنهم يستطيعون -وسوف يدمرون أو يهمشون الثوار المدعومين أميركياً، والذين لا يوافقون على إقامة تحالفات في الميدان. ومن ناحيتها، استشهدت موسكو بالنجاحات الميدانية التي حققتها جبهة النصرة لتبرير توغلها العسكري في سورية كحملة لمكافحة الإرهاب -حتى لو كان هدفها الرئيسي إنقاذ جيش الأسد من كل المجموعات المتمردة.
وكان الروس قد بدأوا بناء عسكرياً سريعاً في أيلول (سبتمبر)، فشنوا حملة جوية استهدفت مجموعات الثوار السوريين التي شكلت التهديد الأكثر مباشرة لحكومة الرئيس الأسد، بما في ذلك بعض المجموعات التي دربتها (سي. آي. إيه). ومع منتصف شهر تشرين الأول (أكتوبر)، صعدت روسيا من ضرباتها الجوية إلى 90 ضربة جوية في اليوم تقريبا.
كما انتشر حوالي 600 جندي من البحرية الروسية في سورية مكلفين بمهمة حماية القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية، ثم تزايدت أعداد القوات البرية الروسية في عموم سورية، بما في ذلك عدة مئات من أعضاء القوات الخاصة.
واستغرق الأمر بعض الوقت حتى أصبح للتدخل الروسي أثر كبير في وعلى ميدان المعركة السوري، مما دفع السيد أوباما إلى التنبؤ بأن موسكو قد تصبح غارقة في مستنقع صراعها الخاص في الشرق الأوسط.
وكان الرئيس أوباما قد قال في مؤتمر صحفي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي: “إن أي محاولة من جانب روسيا وإيران لتعزيز الأسد ومحاولة تحييد المواطنين سوف تجعلهم يعلقون وحسب في مستنقع ولن تؤتي ثمارها. وسيظلون هناك لفترة إذا لم ينتهجوا نهجاً مخالفاً”.
تحركت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للتصدي للتدخل الروسي، فشحنت عدة مئات إضافية من صواريخ “تاو” المضادة للدبابات إلى وكلائها. وقال أحد قادة الثوار الذي تحدث شريطة عدم كشف هويته بسبب تهديدات من المجموعات الأكثر تطرفاً داخل ائتلاف الثوار في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إن مجموعته استطاعت في ذلك الوقت الحصول على العديد من الصواريخ كما أرادت. وقال: “كان ذلك مثل شيك على بياض….. وما عليك سواء أن تملأ الأرقام فقط”.
لكن قوة النار الروسية اجتاحت مجموعات الثوار في الشمال في نهاية المطاف. وفي وقت مبكر من هذا العام، سمحت الهجمات التي شنتها القاذفات الروسية بعيدة المدى والنفاثات المقاتلة والطائرات العمودية الهجومية وصواريخ الكروز للجيش السوري بقلب العديد من مكاسب الثوار، والاستيلاء على مناطق بالقرب من الحدود التركية كان الكثيرون يظنون أن الحكومة السورية لن تستطيع استعادتها أبداً.
وقد تواصل تدفق أسلحة الاستخبارات الأميركية، لكن الأسلحة أثبتت أنها ضئيلة جداً في مواجهة الهجوم الروسي.
من جهته، يقول جيفري وايت، ضابط وكالة الاستخبارات الدفاعية السابق الذي يدرس حالياً سورية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن الروس بنوا شبكة استخبارات قادرة في سورية، والتي تعطيهم فهماً أفضل لمناطق ومواقع قوات الثوار. وسمح ذلك للقوات الروسية بتوجيه ضربات محكمة، جاعلة منها أكثر فعالية ضد الثوار.
وكان عدم التكافؤ ظاهراً أكثر ما يكون قوة في الأشهر القليلة الماضية، حيث فرضت القوات الحكومية السورية وبمساعدة روسية حصاراً على مناطق في حلب تقع تحت سيطرة الثوار. وإذا خسر الثوار موطئ قدمهم في حلب التي كانت ذات مرة أكبر مدينة سورية، فستكون تلك ضربة قوية تتوجه إليهم.
وكانت الطائرات الحربية السورية والروسية قد شنت قصفاً عشوائياً على حلب، بما في ذلك هجمات على ستة مشاف في المدينة وحولها في الأسبوع قبل الماضي، وفق بيان لأطباء يعملون في مجال حقوق الإنسان.
وقال ويدني براون، مدير البرامج في المجموعة: “ما نزال نشهد منذ حزيران (يونيو) تقارير متزايدة عن هجمات على المدنيين في حلب، وضربات على ما تبقى من البنية الطبية التحتية في المنطقة”. وأضاف: “وتشكل كل واحدة من هذه الهجمات جريمة حرب”.
حققت مجموعات الثوار في الأيام الأخيرة مكاسب مفاجئة في هجوم مضاد جديد في محاولة للنفاذ من خلال الخطوط العسكرية السورية التي تطوق حلب، ولكن إذا فشلت هذه العملية، فسيواجه الثوار في داخل المدينة خياراً بين تحمل الحصار أو الاستسلام.
وفي مقابلات حديثة، قال قادة الثوار أن تدفق الأسلحة الأجنبية التي تمس الحاجة لها لكسر الحصار قد تباطأ.
وقال مصطفى الحسين، عضو “صقور الجبل”، إحدى المجوعات التي تدعمها الاستخبارات الأميركية: “إننا نستخدم معظم أسلحتنا في المعركة من أجل حلب”. وأشار إلى أن تدفق الأسلحة إلى المجموعة قد تضاءل في الأشهر الثلاثة أو الأربعة الماضية. وأضاف: “والآن، فإننا نطلق النار عليهم كلما كان ذلك ضرورياً وملحّاً فقط”.
وثمة قائد آخر، الرائد موسى الخالد من الفرقة 13 المدعومة من جانب الاستخبارات الأميركية أيضاً، والعاملة في إدلب وحلب، والذي قال إن مجموعته لم تتلق أي صواريخ منذ أسبوعين. وقال أيضاً: “لقد قدمنا طلباً للحصول على صواريخ تاو لجبهة حلب”، لكن الجواب كان أن المستودعات خالية من الصواريخ.
وقال قادة ثوار وخبراء عسكريون إنه أكبر خطر ملح الآن ربما يتمثل في أن طرق الإمداد من تركيا، والتي تعتبر أساسية للثوار المدعومين من جانب الاستخبارات الأميركية، قد تكون قطعت.
وتقول إميلي هوكايم، محللة شؤون الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية والمنتقدة للأسد: “تعمل الولايات المتحدة ما يكفي فقط لإرضاء حلفائها وشركائها، وتقول إنها تفعل شيئاً لكنها لا تسعى إلى عمل ما يؤدي إلى تغيير الظروف في ميدان المعركة”.
لقد أنجز السيد بوتين العديد من أهدافه الأكبر -إنقاذ وتعزيز حكومة السيد الأسد، والمحافظة على وصول طويل الأمد للقاعدة البحرية الروسية على البحر الأبيض المتوسط، واستخدام سورية كأرض تجارب لأكثر التكنولوجيا العسكرية الروسية تطوراً.
وفي الأثناء يظل بعض الخبراء العسكريين متفاجئين من أن السيد بوتين اتخذ الخطوة الخطيرة المتمثلة في قتال القوات المدربة والمجهزة أميركياً، لكنهم يقدرون أن مقامرته السورية تبدو وأنها تؤتي أكلها.
إنها معركة من نمط حقبة الحرب الباردة، لدرجة أن السيد أوباما أصر في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي على أنه لا يريد الدخول فيها. وقال: “لن نجعل من سورية ميدان حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا. إنها ليست نوعا من مباراة شطرنج بين قوى عظمى”.
مارك مازيني
صحيفة الغد