ملخص مهما كانت الحقيقة خلف أسباب انخفاض أسعار النفط فمن الواضح أن إيران وروسيا متفقتان على مسؤولية السعودية. لكن مسألة أسعار النفط ليست الوحيدة في التوتر المتفاقم للعلاقات السعودية-الإيرانية، الذي يعود إلى عدد من الملفات الإقليمية الأخرى. بل إن الخلافات الإقليمية، السابقة على انهيار أسعار النفط، قد تكون هي الدافع الأهم وراء التفسيرات المتضاربة لأسباب انخفاض أسعار النفط ورفض السعودية خفض إنتاجها. |
مقدمة
نشرت وكالة أنباء فارس، المقربة من الحرس الثوري، السبت 17 يناير/كانون الثاني، تصريحًا لعلاء الدين بروجردي، رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، ذات التأثير المهم على سياسات الحكومة الإيرانية، قال فيه، في سياق لقاء مع كبار مدراء وزارة الدفاع: “إن حرب النفط آخر أداة للسعودية ضد إيران؛ وبالرغم من أنهم يتضررون من ورائها إلا أنهم يقولون: لا بأس في ذلك، فلتغرق سفينة إيران في الوحل”. هذه الاتهامات للسعودية ليست جديدة، وتمثل حلقة أخرى في سلسلة تصريحات متشابهة أطلقها مسؤولون إيرانيون في الآونة الأخيرة. قبل يومين فقط من حديث بروجردي، وجَّه الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي يوصف عادة بالمعتدل، في خطاب شعبي، تهديدات مباشرة للسعودية والكويت، متهمًا الدولتين العربيتين الخليجيتين بشن حرب نفطية لتقويض الاقتصاد الإيراني. استدعت تهديدات روحاني ردًّا كويتيًّا، أكدت فيه الكويت أنها لا تتبع سياسة عدائية تجاه أي من بلدان الجوار، وأن لا دور لها في انخفاض أسعار النفط. تجاهلت الرياض، من جهتها، خطاب روحاني، كما تجاهلت الاتهامات والتهديدات الإيرانية الأخرى.
أطلقت موجة التصريحات الإيرانية تكهنات باندلاع حرب نفطية بين إيران وحلفائها، من جهة، والسعودية وحلفائها، من جهة أخرى. ولكن الواضح أن العلاقات السعودية-الإيرانية، بما في ذلك التوتر المتفاقم بينهما بسبب الانخفاض الفادح في أسعار النفط، أعقد بكثير من أن تُحلَّ بمجرد حرب ساخنة كتلك التي شنَّها العراق على الكويت في 1990-1991، لذات الأسباب تقريبًا. السعودية ليست دولة مجاورة لإيران، وتدرك الأخيرة أن حربًا على السعودية هي مخاطرة باهظة التكاليف، ولكن ذلك لا يعني أن العلاقات السعودية-الإيرانية تمر بمرحلة طبيعية. الحقيقة، أن السعودية تواجه تحديًا إيرانيًّا غير مسبوق في حدته واتساع نطاقه، وأن هذا التحدي مرشح للتفاقم. فيما يلي قراءة لما تطرحه سياسة إيران التوسعية النشطة على السعودية من تحديات، ومحددات تبلور رد سعودي.
لغز البراميل النفطية
فقد النفط، منذ أغسطس/آب الماضي 2014، زهاء نصف قيمته في السوق العالمية، ليهبط سعر نفط برنت والعربي الخفيف في يناير/كانون الثاني 2015 إلى أقل من 50 دولارًا للبرميل. يقول السعوديون وحلفاؤهم من منتجي أوبك: إن انهيار الأسعار حدث بفعل التباطؤ المطَّرد في الاقتصاد العالمي، والارتفاع السريع في إنتاج النفط الصخري، سيما في الولايات المتحدة، والاعتماد المتزايد لمستهلكين رئيسيين، مثل: ألمانيا والهند والصين، على مصادر الطاقة البديلة. ويقول هؤلاء: إن نصيب أوبك من السوق العالمي لا يتجاوز 30 بالمئة، وإن كان من الضروري ضبط الأسعار بسحب 3-4 مليون برميل يوميًّا من السوق، فلابد أن يقوم المنتجون الرئيسيون من خارج أوبك، مثل: روسيا والمكسيك والبرازيل، بخفض ملموس لإنتاجهم كذلك.
من جهة أخرى، تتهم إيران وروسيا السعوديةَ بالمسؤولية عن هذا الانهيار في أسعار النفط، ويعتبرون الانهيار في الأسعار وقع بفعل توافق أميركي-سعودي للضغط على موسكو وطهران، سواء في أوكرانيا أو في مباحثات الملف النووي. تقول روسيا وإيران: إن الانخفاض في الأسعار وقع بسرعة كبيرة، ولا يمكن أن يكون انعكاسًا لوضع الاقتصاد العالمي؛ وإنما وقع بفعل الفائض الكبير في كميات النفط المطروحة في السوق. ويشيرون إلى أنه بالرغم من أن حصة أوبك لا تتعدى ثلث السوق، فإن السعودية هي الموازن الرئيس لهذا السوق، لأنها المنتج الوحيد الذي يستطيع بسهولة إنتاج ما بين 6 و12 مليون برميل يوميًّا؛ والواضح أن السعودية ترفض خفض إنتاجها بأية صورة من الصور، ولا حتى التفاهم مع منتجي أوبك الآخرين والمنتجين من غير أوبك لخفض متزامن في الإنتاج.
مهما كانت الحقيقة خلف أسباب انخفاض الأسعار فمن الواضح أن إيران وروسيا متفقتان على مسؤولية السعودية. في زيارة وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، الأخيرة لموسكو، 21 نوفمبر/تشرين الأول الماضي، رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقابلته؛ كما اتهم بوتين في مؤتمره الصحفي التقليدي نهاية العام صراحةً السعودية بالتفاهم مع الغرب لتقويض الاقتصاد الروسي. أما اتهامات المسؤولين الإيرانيين للسعودية فأكثر من أن تُحصى.
خلال العام الماضي، خسرت روسيا، بفعل العقوبات الغربية وانخفاض سعر النفط، أكثر من 100 مليار دولار من رصيدها المالي الاحتياطي لدعم الروبل وإيقاف تدهور قيمته المتسارعة أمام الدولار واليورو. أما إيران فقررت إعادة وضع ميزانيتها لهذا العام على أساس 40 دولارًا للبرميل بدلًا من التقدير السابق البالغ 70 دولارًا. وفي ضوء أوضاع السوق الحالية، فليس من ضمانة لبقاء سعر برميل النفط فوق الأربعين دولارًا. ولأن الاقتصاد والمالية العامة لإيران، كما روسيا، تعتمد إلى درجة كبيرة على النفط، تواجه الدولة الإيرانية مأزقًا كبيرًا في المديين القصير والمتوسط.
حسابات النفوذ
بالرغم من إلحاحها وتأثيرها ثقيل الوطأة، فإن مسألة أسعار النفط ليست الوحيدة في التوتر المتفاقم للعلاقات السعودية-الإيرانية، الذي يعود إلى عدد من الملفات الإقليمية الأخرى. بل إن الخلافات الإقليمية، السابقة على انهيار أسعار النفط، قد تكون هي الدافع الأهم وراء التفسيرات المتضاربة لأسباب انخفاض أسعار النفط ورفض السعودية خفض إنتاجها.
لم يعد حماس الرياض للثورة السورية كما كان قبل عام، وربما تراجع مستوى الدعم الذي تقدمه للثوار السوريين، ولكن تغيير النظام السوري وتخلِّي الرئيس الأسد عن الحكم، لم يزل المحدد الرئيس للموقف السعودي من الأزمة السورية. وهذا ما ترفضه طهران، التي تقول: إن الرئيس الأسد لابد أن يكون جزءًا من أي حل للأزمة. وقد ذهبت طهران إلى ما هو أبعد من ذلك عندما دفعت بحزب الله ومتطوعين شيعة من كافة أنحاء العالم، إضافة إلى خبراء عسكريين إيرانيين، لدعم قوات الأسد وتعزيز قدراته العسكرية.
ويرتبط الوضع في لبنان إلى حد كبير بالوضع في سوريا؛ حيث تحول حزب الله وحلفاؤه إلى قوة موازية للدولة اللبنانية. وبالرغم من أن السعودية تعمل على تعزيز نفوذها في مؤسسات الدولة اللبنانية الرسمية، إلى الحد الذي قررت فيه الرياض تحمل فاتورة من مليارات الدولارات لإعادة تسليح الجيش اللبناني، فقد وصل الخلاف السعودي-الإيراني مستوى بات مانعًا أمام تبلور توافق سياسي وانتخاب رئيس لبناني جديد منذ عدة شهور.
في العراق، وبالرغم من ترحيب الرياض، وعدد من العواصم العربية الأخرى، بالتخلص من رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وتولي حيدر العبادي رئاسة الحكومة، وقرار السعودية إعادة فتح سفارتها في بغداد، فإن الشكوك حول توجهات الحكومة العراقية لم تتبدد نهائيًا. تحتاج الرياض تعزيز التعاون مع بغداد لمواجهة الخطر المتعاظم من تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن الواضح أن النفوذ الإيراني في العراق يزداد اتساعًا وتأثيرًا، بما في ذلك في المجال العسكري. والمشكلة أن واشنطن، التي تقود المواجهة مع الدولة الإسلامية، تبدو متقبلة للدور الذي تلعبه إيران في العراق. وبالرغم من تشجيع السعودية للسياسيين العراقيين السنَّة للتعاون مع العبادي من أجل تشكيل حكومة مستقرة، فإن ممارسات الميليشيات الشيعية وأجهزة حكومية رسمية ضد السنة العراقيين العرب لم تتوقف؛ وهو ما يسبِّب إحراجًا للسعودية والدول العربية الأخرى التي قررت الانفتاح على بغداد.
بيد أن اليمن يبدو اليوم وكأنه أصبح الملف الإقليمي الأكبر في العلاقة بين الدولتين. لم تكن الصلات الوثيقة، الأيديولوجية والسياسية واللوجيستية، بين الحوثيين (أو أنصار الله، كما يسمون أنفسهم) وإيران، خافية على أحد. ولكن، لا الرياض ولا أيٌّ من الأطراف الإقليمية ذات الاهتمام قدَّرت القوة الحقيقة للحوثيين. كانت الأطراف الدولية اتفقت، منذ اندلاع الثورة اليمنية ضد الرئيس عبد الله صالح في 2011، على أن تقوم دول مجلس التعاون الخليجي، بقيادة السعودية، بوضع التصور لعملية الانتقال في اليمن من حكم صالح إلى حكم تعددي وتوافقي. في الواقع، أصبحت السعودية، باسم مجلس التعاون، هي طرف الوساطة الرئيسة في اليمن.
خلال العام الماضي، تبلورت السياسية السعودية في اليمن في عدد من التوجهات الرئيسة:
- إضعاف حزب التجمع اليمني للإصلاح، الإطار السياسي للإخوان المسلمين اليمنيين وحلفائهم، ضمن الاندفاعة السعودية لتحجيم التيار الإخواني في كافة دول المجال العربي.
- الحفاظ على الرئيس صالح وحزبه، ليس فقط كطرف في النظام الانتقالي، بل أيضًا كقوة توازن في الساحة السياسية.
- بناء توافق واسع حول الرئاسة الانتقالية، على أمل أن يستطيع نظام الرئيس عبد ربه منصور هادي صنع استقرار دائم في البلاد، في تواؤم مع السياسة السعودية، ولكن الأمور لم تمض كما أمَّلت الرياض.
كان الحوثيون، في ظل الوضع الانتقالي القلق، يزدادون قوة؛ وقد استطاعوا خلال النصف الأول من 2014 الزحف شيئًا فشيئًا خارج منطقة نفوذهم الأصلية في صعدة، وتعزيز صلاتهم مع الأوساط الزيدية ذات الاستعداد للانضواء في مشروعهم، سواء في أجهزة الدولة أو الدوائر القبلية، مُضفين بُعدًا طائفيًّا على الصراع السياسي في البلاد لأول مرة في تاريخها الحديث. كما بنى الحوثيون تحالفًا ضمنيًّا مع الرئيس السابق صالح وحزبه؛ مما وفر لهم دعمًا ملموسًا من وحدات الجيش والمؤسسات الأمنية التي لم تزل على ولائها للرئيس السابق. وبعد سلسلة من المواجهات مع قوات الجيش المناهضة لهم، ودفْعهم الآلاف من مناصريهم إلى الاعتصام في إطار تجمعات شعبية في صنعاء، سيطر الحوثيون فعليًّا على العاصمة اليمنية في 21 سبتمبر/أيلول الماضي 2014، وعملوا في الأسابيع التالية على السيطرة على المدن والمحافظات ذات الأغلبية الزيدية.
اضطر الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، بسبب عجزه عن مواجهة قوتهم الصاعدة، إلى تقديم التنازل تلو الآخر للحوثيين، سواء على مستوى وجودهم في المواقع القيادية لأجهزة الدولة، في الحكومة الائتلافية الجديدة، أو في قاعات الحوار الوطني. ولكن هدف الحوثيين، مدعومين من إيران، كان التحكم الكامل في مؤسسة الدولة اليمنية، أو ما تبقى من هذه الدولة، وفرض اتجاه الحوار الوطني؛ الأمر الذي كان يصعُب على الرئيس هادي القبول به؛ وهذا ما فجَّر الأزمة الأخيرة في العلاقة بين الحوثيين والرئاسة في 19 يناير/كانون الثاني، التي يبدو أنها ستودي بالرئيس وتطيح بنظامه.
لا يمثل اليمن مجرد جار عربي للسعودية، ولكن الاعتبارات السكانية والحدودية تجعله الجار الأكثر حساسية للمملكة. وفي حال استطاع الحوثيون بسط سيطرتهم على مقدرات الدولة، سيصبح اليمن ثالث دولة عربية تسقط في يد حلفاء إيران في السنوات العشر الأخيرة. كما أن تعقيد الأوضاع السياسية اليمنية، سيفتح البلاد على مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار، وعلى انتشار نفوذ القاعدة وتفرعاتها، بعد أن فقدت الأغلبية السنية الأمل في قدرة التجمع الوطني للإصلاح على مواجهة الحوثيين. ولأن الاندفاعة الحوثية نجحت في زراعة الانشقاق الطائفي بين الزيدية والشافعية، يبدو أن السعودية ودول الخليج الأخرى تخسر، لأول مرة منذ عقود، الكثير من صلاتها التقليدية بالكثير من القبائل الزيدية.
في تجلٍّ رمزي لتراجع نفوذها في الإقليم، قامت السعودية ببناء حاجز أمني بينها وبين العراق، وبدأت بالفعل في بناء حاجز مشابه مع اليمن. ولكن، وحتى إن نجحت مثل هذه الإجراءات في ردع مهربين أو مجموعات إجرامية صغيرة، فلن تستطيع الوقوف أمام مشاريع سياسية تحاصرها، ولا أن تسترد النفوذ والتأثير السياسيين. وقد بدأ عدد من أصوات المراقبين والأكاديميين السعوديين بالفعل في الاحتجاج على ما يبدو وكأنه ارتباك في مواجهة التوسع الإيراني المطرد في المنطقة.
اختلال الموازين
ما يدركه الجميع أن ثمة تطورًا محتملًا وشيكًا يُلقي بظلاله على كافة ملفات الخلاف الإيراني-السعودي، وهو ذلك المتعلق بمفاوضات الملف النووي بين إيران والولايات المتحدة، الذي لم يزل أقرب إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق منه إلى عدم الاتفاق. المؤكد، على أية حال، أن السعودية ودول الخليج ستكون الجهة التي تدفع الثمن في الحالتين: إنْ أُنجز الاتفاق على الملف النووي، فلابد على واشنطن أن تفسح مجالًا أوسع لإيران في الإقليم؛ وهو الأمر الذي تظهر بوادره في العراق. أما إن لم يُنجَز، فستصبح السياسة الإيرانية أكثر هجومية إقليميًّا، في محاولة لجمع أكبر عدد من الأوراق، بانتظار بدء التفاوض من جديد مع “الشيطان الأكبر”. ولأن النفوذ الإيراني الإقليمي بلغ مدى غير مسبوق، فليس من المستبعد أن تدفع إيران في المستقبل القريب باتجاه تصعيد التوتر المذهبي في دول الخليج ذاتها.
والحاصل أن إيران والدول العربية تتسابق على تحقيق مصالح متضاربة في أحيان كثيرة، ويحاول كل منهما أن يعظِّم قوته ليفرض أجندته إما بالتهديد أو بالمواجهات الساخنة بشكل مباشر أو غير مباشر، ويبدو أن إيران تمكنت في جبهات كثيرة من تسجيل نقاط لصالحها، وستظل توسع نفوذها ما دامت موازين القوى بالمنطقة تميل لصالحها، ولن تتمكن الدول العربية من علاج هذا الاختلال إلا إذا نجحت في إصلاح أنظمتها السياسية حتى لا يكون انتقال السلطة خطرًا على استقرار البلد وتماسكه ووحدته. وتعيد دوله الكبرى مثل العربية السعودية ترميم العلاقات العربية-العربية، بل وداخل البلدان العربية ذاتها، التي ساءت أحوالها الداخلية منذ الانقلاب في مصر، كما يظهر على مستوى الجماعات الأهلية، قَبَلية وغير قَبَلية، في دول مثل لبنان والعراق واليمن. وتعمل على توفير الشروط التي تعيد الفاعلية للدور المصري في الساحة العربية، مثل تحقيق مصالحة مصرية داخلية، تضع حدًّا للحالة الانقلابية غير المستقرة؛ مع العلم بأنه حتى في مثل هذه العودة، فستحتاج مصر لعدد من السنوات ربما قبل أن تستطيع تعهد دور قيادي في الساحة العربية.
مركز الجزيرة للدراسات