تبدو عملية “درع الفرات” العسكرية، التي بدأتها تركيا في 24 من أغسطس/آب الماضي، وكأنها عملية متدحرجة المراحل، تمتد وتتسع مع مرور الوقت، حيث تمكنت فصائل من الجيش السوري الحر بدعم عسكري تركي، ومشاركة من طيران التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من انتزاع السيطرة على مدينة جرابلس وريفها في المرحلة الأولى من تنظيم الدولة، ثم تأمين الحدود التركية السورية بين مدينتي الراعي وجرابلس وانتزاعها من هذا التنظيم خلال المرحلة الثانية من العملية.
أهداف العملية
وبعد تكهنات عديدة حول هدف المرحلة الثالثة من عملية درع الفرات، اتضح من تصريحات المسؤولين الأتراك أن هدفها هو انتزاع مدينة الباب وريفها من سيطرة تنظيم الدولة، وقطع الطريق أمام قوات “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في سوريا، من التقدم نحوها، تمهيدا للتوجه لاحقا نحو مدينة منبج، الخاضعة لسيطرة ما يعرف باسم “قوات سوريا الديمقراطية“، التي تشكل وحدات الحماية عمادها الأساسي.
ولعل معركة مدينة الباب لن تكون سهلة، خاصة وأن المدينة تحظى بأهمية بالغة بالنسبة لتنظيم الدولة، حيث تعتبر صلة الوصل مع مدينة الرقة “عاصمة” التنظيم. إضافة إلى أن الجيش السوري الحر سيخوص قبل الوصول إلى الباب معركة يعتقد أنها ستكون طاحنة في بلدة دابق التي تحظى لدى عناصر التنظيم برمزية دينية كبيرة.
والسؤال الذي يطرح بعد النجاح السريع والتقدم الواسع خلال المرحلتين الأولى والثانية من العملية العسكرية، يطال ضمان المكاسب التي حققتها العملية في شمالي سوريا الأمر الذي يحدّ من توسيع منطقة العمليات لصالح القيام بتحصين امتداد الحدود بين الراعي وجرابلس (حوالي 90 كم)، واتخاذ خطوات تمنع عودة تنظيم داعش مجددا إلى المنطقة، لكن مسؤولي الحكومة التركية، يعتقدون أن أمن بلادهم من الطرف السوري، يتطلب من فصائل الجيش السوري الحر السيطرة على عمق يمتد ما بين 35 إلى 45 كم على الأقل باتجاه الجنوب، إضافة إلى إنشاء منطقة آمنة محظورة الطيران تمتد من مدينة إعزاز وصولا إلى جرابلس على امتداد 100 كلم وبعرض يصل إلى 50 كلم، وهو أمر بات يلقى تفهما من طرف القوى الدولية الفاعلة في القضية السورية، خاصة بعد انهيار الهدنة التي حملها الاتفاق الروسي الأميركي في التاسع من سبتمبر/أيلول الجاري.
ولا شك أن توسيع العملية العسكرية التركية نحو مدينة الباب، يعني أن الحكومة التركية تعطي الأولوية لهزيمة تنظيم “داعش” في شمالي سوريا، قبل التقدم إلى الجنوب من جرابلس نحو مدينة منبج التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب، وهو ما يعني إعطاء الأولوية لإبعاد وحدات حماية الشعب إلى شرق الفرات، ومنعها من وصل كانتوني الجزيرة وعين العرب (كوباني) مع كانتون عفرين، حسبما يطمح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا.
حسابات السياسة
ونظرا لارتباط العملية العسكرية بحسابات السياسة من خلال التفاهم مع القوى الدولية والإقليمية، فإن إبعاد تنظيم الدولة عن الحدود التركية يخدم كل القوى، وخاصة الولايات المتحدة وروسيا، لكن امتدادات العملية قد تفضي إلى مصالح متضاربة ما بين تركيا والولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بوحدات حماية الشعب الكردية، بالنظر إلى أن هدف أنقرة الإستراتيجي والرئيسي من عملية درع الفرات، هو منع حزب الاتحاد الديمقراطي الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا من السيطرة على شمالي سوريا، وفرض كيان أو دويلة تمنع تركيا من التواصل الجغرافي مع سوريا والبلدان العربية.
لذلك تركز القيادة التركية على السيطرة الكاملة على الحدود بين تركيا وسوريا، وتريد الاستفادة من نجاح فصائل الجيش السوري الحر الميداني، كي توسع العملية، وهو أمر طرح خلال لقاء الرئيس الأميركي بارك أوباما مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال قمة العشرين في بكين، حيث تناقلت وسائل الإعلام التركية، أنه عندما قال أوباما “يجب أن تنسحب وحدات حماية الشعب من مدينة منبج، وأن تبقى العناصر العربية في جيش سوريا الديمقراطي فقط”، أجابه أردوغان بالقول “إذا انسحبت تلك الوحدات، فإن هذا يعني أن فصائل الجيش السوري الحر ستدخل منبج دون قتال”.
ويركز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ومعه مسؤولو الحكومة التركية، على القول باستمرار، إنه من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، فإن العملية يجب أن تستهدف جميع التنظيمات الإرهابية في شمالي سوريا، وهو أمر جرى التعبير السياسي عنه بتغير الموقف التركي الجذري من رحيل الأسد إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومحاربة الإرهاب، ولاقى قبولا لدى الساسة الروس، واعتبرته الإدارة الأميركية فكرة إيجابية، فيما عنى ذلك أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا بات معزولا سياسيا لأن طموحه في تشكيل كيان أو دويلة تربط بين كانتوناته الثلاث لم يعد يلق أي دعم دولي أو إقليمي، لأنه يهدد وحدة الأراضي السورية.
ولا شك في أن القيام بعملية درع الفرات، بعد التغيرات في السياسة الخارجية التركية، جاء كي يدخل تركيا بقوة في القضية السورية، وخاصة من خلال دعم فصائل الجيش السوري الحر وتثبيته في المنطقة الحدودية، وجعل من تركيا جزءا مؤثرا وفعالا في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، الأمر الذي غير مواقف القوى في شمالي سوريا، وبات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من أكبر الخاسرين، وأظهر أن حساباته وطموحاته تفتقر إلى الواقعية، حيث تمادى في التوسع إلى مناطق في غرب نهر الفرات، فوقع في المحظور، وبات عليه أن يتراجع إلى مناطق شرق الفرات، حسبما طالبته الولايات المتحدة الأميركية.
وبالتالي أصبح مصير مقاتلي هذا الحزب في المدى المنظور رهن حليفهم الأميركي الذي عادة ما يغير حساباته ورهاناته تبعا لمصالحه وتحالفاته المتغيرة، حصوصا وأن تركيا تمكنت من تقديم بديل عن قوات سوريا الديمقراطية، ممثلا بفصائل الجيش السوري الحر لمحاربة تنظيم الدولة.
معركة الرقة وما بعدها
ومن سينايورهات عملية درع الفرات هو امتدادها نحو مدينة الرقة، وربما أبعد من الرقة، حيث أطلق الرئيس التركي خلال ندوة عقدت مؤخرا في مدينة إسطنبول، فكرة تتعلق بمدينة الموصل في العراق، بالقول: “نفكر في أن نطلق عملية مماثلة لدرع الفرات في العراق، ونطلب من جميع القوى الفاعلة في المنطقة تقديم الدعم لفكرتنا”.
ولم يطلق أردوغان هذه الفكرة إلا بالاستناد إلى معاهدة أُبرمت بين تركيا وبريطانيا عام 1926 تنص على حق تركيا بالدفاع عن الأقلية التركمانية التي تسكن الموصل في حال تعرضها لأي اعتداء. كما أن الميثاق الوطني الذي وضعه مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك عام 1920 يتحدث عن أن حدود الدولة التركية تضم الموصل، وكركوك والسليمانية. وبعد تجاذبات وصراعات بين تركيا وبريطانيا على الموصل انتهى الأمر بينمها إلى إبرام معاهدة أنقرة في 5 يونيو/حزيران/ 1926، نصّت صراحة على تبعية ولاية الموصل للعراق.
ولعل من المبكر الحديث عن إمكانية إسهام عسكري تركي في معركة الموصل، نظرا لرفض حكومة بغداد الخاضعة لسيطرة قوى سياسية شيعية معادية لتركيا، إلا أن التنسيق والمشاورات تجري بين أنقرة وواشنطن بهذا الخصوص، كما أن التنسيق بين الأتراك والأميركيين بخصوص التحضير لمعركة الرقة وصل إلى درجة متقدمة، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حديث مع صحيفة “حرييت” التركية قبل نحو أسبوعين، “إن تركيا وافقت على اقتراح أميركي للقيام بعملية مشتركة لـ(تحرير الرقة)”، وإن أوباما عرض الموضوع عليه خلال قمة العشرين الأخيرة في الصين، واقترح أن يلتقي العسكريون لوضع خطة العمل.
ويبدو أن تجهيزات تجري في أيامنا هذه تحضيرا لمعركة الرقة، حيث يعتبر دخول وحدات خاصة أميركية إلى بلدة الراعي للتنسيق مع طيران التحالف، وإسناد القوات المشاركة في عملية درع الفرات في معركتها للسيطرة على مدينة الباب، مؤشرا على انخراط أميركي في المساعي التركية في هذه العملية، الأمر الذي يشير على التعامل الإيجابي مع أهدافها وأبعادها المستقبلية.
عمر كوش
الجزيرة