يذكر عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، في كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي”، أن العشائر في العراق تستنكف غالبا من تقديم شكوى إلى الحكومة بشأن قضايا خلافية تحصل في ما بينها، فأفراد العشائر “يعدون ذلك منافيا لقيم الرجولة والعصبية. فالرجل منهم يفضل أن يأخذ ثأره من خصمه بنفسه. أما الذين يذهبون إلى الحكومة يطلبون منها أن تأخذ بثأرهم فهم في نظره ضعفاء أذلاء”.
حينما أورد الوردي رأيه في كتابه الذي ألفه منتصف ستينات القرن الماضي، لم تكن العشيرة العراقية سوى مؤسسة اجتماعية، ذات بنية ريفية وبدوية، يتأطر حضورها بمدى تمسكها بالعرف والتقليد العشائريَّيْن، فيما تتباين أدوارها بين المشورة وفض نزاعات صغيرة في المحيط الذي تشغله.
وقد ظلّ هذا التصور متحققا في العراق حتى التدخل الأميركي سنة 2003، وما تبع ذلك من متغيرات صادمة وعنيفة في العديد من المجالات منها السياسي والاجتماعي والديني، وأيضا على مستوى تأثر العشائر بالمتغيرات السياسية وتأثيرها فيها في الوقت نفسه.
طالت هذه التحولات حضور العشيرة ودورها في الواقع الاجتماعي والسياسي العراقي، إذ لم تعد أدوارها تتحدد بالمنحى التكافلي ذي الطبيعة المجتمعية، بل تعدته إلى التواجد بقوة في ساحة الصراع السياسي واشتباكاته شديدة التعقيد، وفيما تنامت سلطة العشائر تراجعت سلطة القانون.
تعتبر العشيرة مكونا رئيسيا ومتجذّرا في المجتمع العراقي، وهي سلطة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها، حتى بعد أن تقلص دورها، سياسيا وقانونيا، لكن ظل التأثير الاجتماعي، وهذا الأخير هو ما يكسب نظام العشائر مناعة واستمرارية، ويجعله ينهض بقوة كلما ضعفت الدولة.
وهو ما حصل في العراق، حيث عادت العشائرية بعد سقوط النظام ودخول البلاد في فوضى ما بعد الغزو الأميركي، كما عادت المجالس العشائرية بعد عقود طويلة من انتهاء دورها، وأصبحت تتدخل في القضايا الاجتماعية والدينية والسياسية والقانونية والعسكرية إلى حد أنها أضحت أكثر تأثيرا من المؤسسات الرسمية القانونية.
وهذا الأسباب الرئيسية التي مهدت لتنامي الظاهرة العشائرية دعم الأحزاب السياسية المطلق لها؛ إذ تقرّبت الأحزاب من العشائر وعقدت معها تحالفات وتبادلت مصالح، لغرض كسب قواعدها الاجتماعية في الانتخابات وتقوية حضورها في المشهد السياسي. فالنواب يحصلون على أصواتهم الانتخابية عبر امتداداتهم العشائرية، فيما النفوذ العشائري يبدأ من الريف ويحضر بشكل ملموس وقوي في مدن العراق الكبرى مثل بغداد والموصل والبصرة.
العشائر في العراق تستنكف من تقديم شكوى إلى الحكومة بشأن قضايا خلافية، فهي تعتبر ذلك منافيا لقيم الرجولة
العشيرة والدولة
تنامى النفوذ العشائري، أيضا، بسبب ما يعانيه العراق من ضعف في تعزيز سلطة القانون والدولة، وتراجع دور القضاء، وأصبحت الأجهزة الأمنية هشّة، وتنامى الفساد، فضلا عن انشغال البلد بحروب ومعارك داخلية خاصة مع الميليشيات والمجموعات المسلحة؛ إذ يشير الباحث الاجتماعي إدريس القيسي إلى أن تزايد نفوذ العشائر دليل على ضعف القانون في العراق بعد عام 2003. ويقول في تصريحات نقلها عنه موقع “نقاش”، المعني برصد تطورات الوضع في الداخل العراقي، إن “السياسيين يستغلون العشائر وأبناءهم في الأرياف للحصول على الدعم أيام الانتخابات ومن ثم يهملون أوضاع الغالبية العظمى من أبناء العشائر مقابل رشوة زعماء القبيلة بالأموال والامتيازات الخاصة”.
ويضيف القيسي أن “أغلب زعماء العشائر الأثرياء تركوا القرى والأرياف الزراعية التي ينتمون إليها ويعيشون حاليا في المناطق الراقية في بغداد ومراكز المدن”، مؤكدا على أن الفوضى السياسية والصراع على السلطة والأموال ساهما في تعزيز نفوذ العشائر.
بات مسمى “مطلوب عشائريا” أو “مطلوب دم” ظاهرة مألوفة لدى البغداديين وأهالي المحافظات الجنوبية في العراق كأحد أوجه غياب الأمن واستشراء حالة الفوضى، والتي تهدف إلى غلق محلات تجارية، ونهب ممتلكات خاصة مختلفة، ودور سكنية لمواطنين، تحت ذريعة الثأر العشائري القائم غالبا على خلاف شخصي. وهي ممارسة مثلت عودة لما يُعرف بالفصول العشائرية أو الديّة العشائرية، التي عادة ما تتحول إلى عملية مصادرة للأموال والعقارات التابعة للضحية دون أي تدخل للقانون أو الجهات الأمنية.
هذه الظاهرة تحولت إلى مثار للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، عبر نشر العديد من الناشطين والإعلاميين والمواطنين في مناسبات عدة، صوراً لرياض أطفال ومولدات كهرباء أهلية ومنازل مواطنين ومرافق صحية عامة صادرتها العشائر، كتبت عليها عبارة “مطلوب عشائريا”.
وكان ناشطون قد نشروا على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً أظهرت قيام أفراد من عشائر معينة بوضع لافتات على أحد المجمعات التجارية كتبوا عليها “المول مطلوب عشائرياً” ما أثار موجة سخرية شعبية واسعة واستياءً بين المواطنين ممن وقعوا ضحية لتلك الخلافات؛ إذ مجرّد خلاف بين شخصين يمكن أن يؤدي إلى تدخل عشيرة أحدهما بأكملها لتبدأ بعدها مرحلة الابتزاز والتهديد وطلب الثأر. في ظل تداعيات الفوضى العشائرية هذه، تقف الحكومة العراقية التي وصفها أحد الكتاب العراقيين بكونها “سلطة أحاطت نفسها بالمقدسات والمسلحين والميليشيات السرية والعلنية والبخور والأدعية”، عاجزة عن بسط سلطتها الأمنية وحماية السلم الأهلي.
وكشف مسؤول حكومي في محافظة ديالى مؤخرا، أن رئيس الوزراء العراقي، القائد العام للقوات المسلحة، حيدر العبادي أعطى أوامره لقيادة العمليات المشتركة بإرسال قوة خاصة إلى ناحية أبي صيدا في محافظة ديالى لإنهاء نزاع عشائري اندلع فيها.
فشل الدعوات إلى نزع السلاح من العشائر، التي طالبت بها أطراف مجتمعية ودينية، سواء بمحاولة إشراك المؤسّسة الدينيّة في نزع فتيل المعارك، أو بمحاولات منظّمات المجتمع المدنيّ
وكان مدير مكتب العلاقات والإعلام في دائرة شرطة المحافظة قد تحدث في وقت سابق عن الأحداث التي شهدتها منطقة أبي صيدا بمحافظة ديالى، وقيام البعض بحرق مبنى الناحية والهجوم على البعض من الدور السكنية فيها. وقـال إن سبب النزاعات الحاصلة في تـلك الناحية يعود إلى “خلافات عشائرية”.
تأتي مثل هذه النزاعات امتدادا لنزاعات حدثت في مناطق ومحافظات أخرى، إذ تسبب حصول نزاع مسلح بين عشيرتي الفرطوس والبوعلي، في محافظة ميسان، في سقوط تسعة قتلى و30 جريحا بينهم نساء وأطفال. ونشبت معارك عشائرية في قضاء سيد دخيل شرق مدينة الناصرية، استخدمت فيها الأسلحة الناريّة الخفيفة والثقيلة. وفي مدينة البصرة، تسبّب نزاع عشائريّ مسلّح على إثر خلاف ماليّ بين عشيرتي الحمادنة والبطوط، استخدمت فيه مختلف الأسلحة، بمقتل عراقي وإصابة إثنين آخرين.
سلطة أعراف
تسلّط هذه الأحداث المتواترة، والتي تزيد من صعوبة الوضع الأمني الحرج في البلاد، الضوء على فشل الدعوات إلى نزع السلاح من العشائر، التي طالبت بها أطراف مجتمعية ودينية، سواء بمحاولة إشراك المؤسّسة الدينيّة في نزع فتيل المعارك العشائريّة وإقناعها بالتخلّي عن أسلحتها، أو بمحاولات منظّمات المجتمع المدنيّ للتثقيف ضدّ العنف العشائري والنزاعات الداخليّة، أو حتى من خلال مواقف البعض من العشائر الداعية إلى وقف النزاعات عبر تبنّي مواثيق شرف يتم التعهد بها باللجوء إلى الحوار بدل الاقتتال، أو إلى سلطة القضاء ومؤسّسات الدولة لحلّ الخلافات.
لكن لم تستجب العشائر لهذه الدعوات لكونها تجد في السلاح ضمانا لها في الدفاع عن نفسها، في حال حصول صدامات مسلّحة، ويمثل اقتناء العشيرة السلاح وحيازته جزءا من أعراف وتقاليد راسخة منذ زمن بعيد، حيث تفتخر العشيرة العراقية بكثرة عدد السلاح وتنوّعه بين أفرادها.
ومع ضعف وفساد الأجهزة التنفيذية في الحكومة العراقية، أصبحت العشائر تشارك في صفقات الفساد، وحماية المسؤولين، وتسيير المؤسسات الحكومية بحكم الانتماء العشائري للذين يشرفون على إدارتها.
وباتت قادرة على التدخل في فض النزاعات ما بين السياسيين عبر تسويات قائمة على دفع الدية والتعويض، كما حدث مع النائبة عن كتلة دولة القانون حنان الفتلاوي، بتقديم شكوى عشائرية ضد أحمد أبوكلل الناطق باسم “ائتلاف المواطن”، بتهمة “الشتم” خلال مشادة كلامية في إحدى الحلقات التلفزيونية حين وصف الفتلاوي بـ”الانبطاحية”، ما دفعها إلى التوجه إلى عشيرتها التي قاضت عشيرة الأخير وغرمتها بدفع مبلغ 84 ألف دولار مع اعتذار علني، تم بثّه على إحدى القنوات التلفزيونية المحلية.
إن فشل الحكومة في حماية المجتمع العراقي، أدى إلى بناء سلطة أعراف وتقاليد عشائرية رديفة لسلطة القانون، والدفع بالمجتمع نحو القبلية. وهو توجه قد يؤدي إلى نتائج مجهولة، ويعود بالمجتمع العراقي إلى سلطة العشيرة التي تدفع خلافاتها بالمزيد من المواجهات، ما يضر بوحدة العراق ونسيجه الجمعي.
صحيفة العرب اللندنية