في خطوة جريئة أشبه بما تفعله دولة فعلية، أجرى «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي إحصاءً في مقاطعة الجزيرة – روج آفا. ويبدو أن حكومة المنطقة التي تتمتّع بحكم ذاتي تُدرك أن الإطلاع بدور “الأخيار” في ساحة المعركة ليس كافياً. فلكي يصبحوا حكّاماً شرعيين، يحتاجون إلى ممارسة الحكم بطريقة مسؤولة.
وبصفتهم شركاء للولايات المتحدة يمكن الاعتماد عليهم في أرض المعركة، اكتسب الأكراد في سوريا، مثلهم مثل أشقائهم في العراق، سمعة كمقاتلين شرسين وحصن منيع في وجه تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»). وبالفعل، غالباً ما تمّ تصوير المقاتلين الأكراد على أنهم الجنود المشاة للولايات المتحدة في سوريا. وانطلاقاً من هذا الواقع، لم تدافع «وحدات حماية الشعب» وقوات “البشمركة” عن الشعب الكردي فحسب، بل من المقرر أن تساهم أيضاً في مساعي التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الرامية إلى طرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من الرقة والموصل. وهذا المستوى من التعاون والتنسيق بين الولايات المتحدة والأكراد لم يسبق له مثيل.
كما أن الانتصارات التي حقّقها الأكراد في ساحة المعركة عزّزت الطموحات التي راودت الشعب الكردي على مرّ قرن من الزمن بالتمتّع باستقلال سياسي أكبر. وبالفعل، بدأ البعض بالاحتفال باقتراب “لحظة استقلال الأكراد”، لا سيما في «إقليم كردستان العراق» حيث يعتزم رئيس «حكومة إقليم كردستان» مسعود برزاني إجراء استفتاء حول استقلال الأكراد. ويسعى «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى ترجمة دوره العسكري في التحالف ضد تنظيم «داعش» إلی دعم سياسي دولي أوسع نطاقاً.
ومع ذلك، فإذا كان الهدف يتمثّل بالاعتراف والشرعية الدولية، فإن الانتصارات العسكرية وحدها لا تُعدّ كافية. فلا بد أن تكون تلك الإنجازات في ساحة المعركة مقرونة ببناء مؤسسات حكومية يمكن مساءلتها ووضع إجراءات تضمن الاندماج السياسي وتوافر الفرص الاقتصادية. ولا يجب أن ننسى أن جزءاً كبيراً من الاستبداد وفشل الحكومات في الشرق الأوسط ينبع من عجز أبطال الحداثة الوطنيين والثوار (مثل صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا) عن إنشاء مؤسسات تضمن سيادة القانون وفرص اقتصادية ونظام حكم شامل وتنافسي. ويتمثّل فخّ آخر بالتسلسل: الوعد بتطبيق حوكمة جيدة فقط بعد إنزال الهزيمة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية». وهذه هي الحجة التقليدية التي تتسلّح بها الأنظمة الاستبدادية العربية وهي – أن الديمقراطية لن تأتي إلا بعد القضاء على إسرائيل.
وسيكون أي حكم شرعي نابع من رحم الانتصارات العسكرية عابراً إن لم يحظَ بدعم من العمليات الديمقراطية وفرص تحقيق ازدهار اقتصادي. وعلى الرغم من تمتُّع «إقليم كردستان» بنعمة الأمن خلافاً لأعمال العنف التي تشهدها سوريا والعراق، إلا أن الاستقرار يرتبط بشكل وثيق بخلق فرص اقتصادية. فالشباب سيكتفون بتوفير الدعم الشعبي في الوقت الراهن. لكن في النهاية، يحتاجون إلى فرص اقتصادية للعمل والبناء لتثنیهم عن العنف. وتبدأ عملية الانتقال من اقتصاد تشلّه الحرب إلى اقتصاد ينبض بالحياة ويتميّز بالتنوّع. فروج آفا تختزن نفطاً وتضمّ أراضيَ صالحة للزراعة ومياهاً عذبة. ويمكن لهذه الموارد الطبيعية أن تكون لعنة عليها ما لم تتمّ إدارتها بشكل فعال. ويتطلب تطويرها أيضاً استثمارات أجنبية. ويمكن توظيف طاقة الشباب على أفضل وجه من خلال القطاع الخاص وريادة الأعمال، وليس عبر النماذج الاشتراكية التي اتبعها “حزب البعث” في العراق وسوريا. ولم تبرز أي مؤشرات على أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» يرغب في التخلي عن إيديولوجيته الاقتصادية لصالح الواقعية الاقتصادية.
وإذا كانت تجربة «حكومة إقليم كردستان» في العراق تحمل أي عِبر لروج آفا، فهي ضرورة بناء خدمات عامة ومؤسسات اقتصادية فعالة. وعلى الرغم من تمتُع قادة الإقليم بشخصية جذابة وبشرعية ثورية، إلا أن خطر العجز يُحدق بها نتيجة تداعيات الاعتداءات الخارجية، ولکن الخطر الأكبر يتمثل في التجزئة الداخلية والفشل الاقتصادي إلى حدّ كبير. وفي ظل غياب أي مؤسسات وإجراءات لحل النزاع، كالبرلمان، ينقسم الأكراد العراقيون حول مصالح سياسية واقتصادية على الرغم من وجود عدوّ مشترك. وعلى نحو مماثل، سيعتمد اقتصاد روج آفا على العلاقات الجيدة مع المناطق المجاورة.
ويوفّر الاهتمام المؤاتي الذي يحظى به الأكراد في العراق وسوريا بفضل دورهم الفعال في محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» فرصةً لهم وللتحالف الدولي على السواء من أجل تعزيز الحوكمة الجيدة في كردستان. وإذا انصبّ التركيز على النصر العسكري فقط، فسرعان ما سينتُج عن ذلك اضطرابات. وخير دليل على ذلك: المجاهدون الأفغان بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي. وبالنسبة للإدارات الكردية التي تحكم الأكراد منذ عام 1992 في «حكومة إقليم كردستان» و منذ عام 2013 في سوريا، من الضروري الاستفادة من الدعم الأمريكي والدولي لبناء قاعدة حوكمة متينة. ولسوء الحظ، برز منحى عكسي تمثّل بالميل نحو حكم أحزاب كردية – بغية إضفاء طابع الشرعية على حكمهم من خلال الدعم العسكري الدولي بدلاً من الحوكمة التي يمكن إخضاعها للمساءلة. وفي ظل «حكومة إقليم كردستان» برئاسة البرزاني، يبقى رئيس الإقليم غارقاً في فراغ قانوني في حين حظيت رئاسته بالشرعية من خلال الجهود المبذولة في الحرب وزيارته عواصم أجنبية. لكن هذا الأمر لم ينقذ «حكومة إقليم كردستان» من الانتقاد الدولي عندما يُقتل صحافي أو يتعرض مكتب حزب سياسي للهجوم.
وكما هو الحال في «إقليم كردستان العراق»، أصبحت المقاطعات في روج آفا مأوىً ليس للأكراد فحسب بل للعرب والتركمان والمسيحيين أيضاً. ومن الضروري أن تضمّ إدارة روج آفا الصاعدة كافة الأقليات العرقية والدينية. وعلاوةً على ذلك، وعلى الرغم من شعبية «حزب الاتحاد الديمقراطي» والتأييد الواسع الذي يحظى به، تبرز الحاجة إلى منح الجماعات الأخرى الحرية السياسية وفسح المجال لوسائل الإعلام لكي تؤدّي رسالتها بِحُرية. وعندما تتثاقل نخوة الحرب، يخسر الكلاشنكوف أمام سيادة القانون ويرضخ له باعتباره المصدر الرئيسي للشرعية.
بلال وهاب
معهد واشنطن