انهار التوافق الروسي الأميركي على وقف إطلاق النار في سوريا، بإعلان النظام انتهاء الهدنة، وبشن الطيران الروسي غارات وحشية بالقنابل الارتجاجية، على المناطق الشعبية الآهلة بالسكان في حلب، والخارجة عن سيطرة النظام، بحجة استهداف جبهة فتح الشام (النصرة سابقا)، وبدعوى عدم انفصال فصائل المعارضة “المعتدلة” عن تلك الجبهة.
في المقابل وردا على هذه التطورات، التي أعقبت الخلاف على تنفيذ بنود الاتفاق المذكور، بسبب رفض روسيا فرض حظر على طلعات الطيران السوري، وإصرارها على إدراج العديد من جماعات المعارضة العسكرية في قائمة الاستهداف، باعتبارها جماعات إرهابية، ومنعها دخول قوافل المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في حلب، واستهداف طيرانها قافلة مساعدات إنسانية أممية (21/09)، أعلنت الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها وقف التعاون مع روسيا في الموضوع السوري، والبحث عن وسائل أخرى لوقف القتال؛ علما أن هذه هي المرة الثانية التي يفشل فيها اتفاق كهذا في هذا العام، إذ كان الأول في فبراير/شباط الماضي.
تطورات الموقف الروسي
بدت روسيا متفاجئة من التحول في الموقف الأميركي، إذ تسارعت التطورات بعده بإعلان وزارة الدفاع الروسية نشر صواريخ “أس 300 و400″، في قاعدتها البحرية في طرطوس ومطار حميميم، باعتبارها مجرد صواريخ دفاعية، علما أن هذه الصواريخ بإمكانها اعتراض وتدمير الصواريخ الباليستية متوسطة وبعيدة المدى التي تحلق بسرعة 4500 متر في الثانية، والصواريخ المجنحة وصواريخ “توماهوك“، وطائرات التجسس والتوجيه العملياتي؛ أي أن الغرض منها ليس مواجهة أي من جماعات المعارضة العسكرية، في رسالة ذات مغزى للولايات المتحدة.
فوق ذلك فقد اتبعت روسيا تلك الخطوة بإرسال المدمرتين سيربوخوف وزيليوني والسفينة الصاروخية ميراج إلى البحر المتوسط، وبإلغاء اتفاقيتيها مع واشنطن حول التخلص من البلوتونيوم الصالح لصناعة الأسلحة النووية وحول البحث النووي، في حين كان الطيران الروسي يكثف غاراته على حلب ومحيطها.
لم يقف الأمر عند هذا الحد إذ ترافقت هذه التحركات العسكرية بالتهجم على سياسة الولايات المتحدة، واتهامها بدعم الجماعات التي تنعتها روسيا بـ “الإرهاب”، فضلا عن التشكيك بصدقية موقفها إزاء انتهاج الحل السياسي للصراع السوري. بل إن روسيا وصلت إلى حد توجيه التهديدات إليها باحتمال التصادم، إن عن طريق اعتراض طائراتها من قبل صواريخ شبكة الدفاع الجوي الروسية، وحتى باعتبار أي استهداف لجيش النظام بمثابة استهداف للجيش الروسي من خلال عناصره العاملة في القطعات العسكرية السورية، إذ لوح الناطق باسم وزارة الدفاع إيغور وكلاشينكوف برد قوي من جانب الجيش السوري والقوات الروسية العاملة في سوريا في حال تعرضت مواقع النظام لضربات عسكرية.
كما دعا من وصفهم بـ “الرؤوس الحامية” في واشنطن إلى تذكر أن روسيا نشرت صواريخ “أس-300” في طرطوس و “أس400” في قاعدة حميميم باللاذقية، داعيا للتنبه إلى أن “مدى النظامين وقدراتهما ستحمل مفاجآت تنتظر من يفكر في الهجوم على سوريا”، وأن طواقم الأنظمة الروسية “لن يكون لديها الوقت الكافي لرصد مسارات الصواريخ بدقة أو من أي اتجاه تم إطلاقها”. وطبعا فقد تصاعد الأمر أكثر مع موافقة مجلس “الدوما” (البرلمان الروسي) على الإبقاء على وجود عسكري روسي دائم في الأراضي السورية.
ومعلوم أن التدخل العسكري الروسي، الذي بدأ قبل عام (أيلول/سبتمبر 2015) غير كثيرا من موازين القوى ومن معادلات الصراع في سوريا، بل منع النظام من الانهيار، وقوى موقفه على الأرض، كما حد من قدرة جماعات المعارضة العسكرية على التمدد، وكلف السوريين ثمنا باهظا في الأرواح والممتلكات، إلا أنه أسهم في تراجع نفوذ إيران في سوريا، واعتبار روسيا بمثابة صاحبة القرار الأول في الشأن السوري أمام العالم، كما أنها استطاعت من خلال ذلك فرض ذاتها كلاعب رئيس في المنطقة وكند للولايات المتحدة، بحسب ما تعتقد.
مع ذلك وبمعزل عن رأينا بما يجري، وبعدم أخلاقيته، سواء من طرف روسيا أو الولايات المتحدة، بالنسبة للسوريين، فإن هذه السياسة الروسية تعبر عن ضيق أفق، وتسرع وتبسيط، إذ تبدو روسيا كأنها استدرجت تماما للصراع السوري، لاستنزافها وإنهاكها، من دون أن تكون لها قدرة على استثمار ذلك سياسيا أو اقتصاديا، فلا إمكانيات سوريا ولا إمكانيات روسيا تسمح، في حين أن هذا الأمر لا يؤثر كثيرا على الولايات المتحدة، التي تبدو غير مبالية لما يجري، وهي تنظر لمزيد من غرق روسيا، ومن تصارع كل الأطراف، في سوريا.
لماذا تقاتل روسيا؟
يبدو واضحا من كل ذلك أن روسيا بوتين تخوض معركة كسر عظم مع الولايات المتحدة، أو أن هذا هو منظورها الإستراتيجي للانخراط في الصراع السوري، إذ من غير المعقول أن تغامر روسيا إلى هذا الحد في بلد صغير بموارده وبحجمه، بدعوى رفضها التدخل الخارجي ودفاعها عن سيادة دولة أخرى، أو بدعوى أن وجودها شرعي كونها مدعوة من قبل النظام، علما أن هذا النظام بات فاقدا للشرعية والسيادة في آن معا، طالما أنه لا يحفظ أمن واستقرار شعبه، بحسب المعايير الدولية، بل ويستهدفه بالقتل ويدمر عمرانه، ويشرده في أنحاء الدنيا.
لكن على ماذا تقاتل روسيا في سوريا إلى هذه الدرجة إذن؟ في الحقيقة ثمة عديد من ملفات الاشتباك بين روسيا والولايات المتحدة، من ضمنها: أولا، محاولتها استعادة مكانتها كدولة عظمى في العالم، أو كند للولايات المتحدة الأميركية، وهذا هو هاجس بوتين المهووس بداء العظمة وميله لاستعراض القوة. مثلا، ففي خطابه في مجلس الدوما (6/10) رفع بوتين شعار: “بناء روسيا القومية” وقال: “قوتنا في داخلنا، في شعبنا وتقاليدنا وثقافتنا واقتصادنا، وفي أراضينا الشاسعة وثروتنا الطبيعية وقدرتنا الدفاعية، والأهم في وحدة شعبنا”.
ثانيا، النزاع على أوكرانيا بعد خروجها من النفوذ الروسي، الأمر الذي رأى فيه بوتين أن الولايات المتحدة نجحت في تحجيم روسيا في فنائها الخلفي، وهو أمر يصعب على شخص مثله هضمه أو تمريره. ثالثا، غضب القيادة الروسية من تراجع أسعار النفط، والذي تحمل مسؤوليته للسياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة والقوى الحليفة لها بغرض الضغط على روسيا وإضعافها. رابعا، إيجاد الأوراق التي تسمح ببذل الضغوط على الولايات المتحدة الأميركية لدفعها إلى التراجع عن العقوبات التي فرضتها على روسيا بخصوص حظر الصادرات التكنولوجية إليها.
خامسا، اعتبار المعركة ضد جماعات الإرهاب أو ضد القوى الإسلامية المتطرفة في المنطقة جزءا من الأمن القومي الروسي، ونوعا من حرب وقائية للحيلولة دون تمدد هذه الجماعات إلى جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية. سادسا، الرد على سعي الولايات المتحدة نشر شبكة “الدرع الصاروخي” في دول الجوار الروسي وبعضها كان ضمن الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا أمر يؤرق القيادة الروسية ويثير مخاوفها. سابعا، ترويج السلاح، إذ تعتبر روسيا ثاني مصدر للسلاح في العالم بعد الولايات المتحدة، حتى أن بوتين ذاته روج بصفاقة للسلاح الروسي باعتباره أثبت فاعليته في سوريا.
احتمالات التجاذب الثنائي
بدورها حملت الولايات المتحدة على روسيا التي تستهدف المدنيين بوحشية، وبارتكاب جرائم حرب -كما باتهامها بقصف قافلة الأمم المتحدة والمستشفيات- مؤكدة ضرورة حظر القصف الجوي على الطيران السوري وإدخال المساعدات الغذائية إلى المناطق المحاصرة وعدم استهداف الجماعات المعتدلة، كشرط للتعاون معها في سوريا في مواجهة الجماعات الإرهابية (تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام)، وأنها ستضطر إلى استخدام وسائل أخرى لفرض سياساتها.
في هذا الإطار بدا لافتا توجه الرئيس أوباما لدعوة كل مساعديه الأساسيين للاجتماع في البيت الأبيض لدراسة الخيارات الممكنة حول سوريا على ضوء التعنت الروسي، ما يفيد ربما بتولد قناعة جديدة في البيت الأبيض بضرورة اعتماد خيارات أخرى.
ومع الميل للاعتقاد بأن الإدارة الأميركية ستمارس ضغوطا سياسية ودبلوماسية هائلة لوضع حد للغطرسة الروسية، وهذا ما جرت محاولته في اجتماع الدول الخمس (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا) لمناقشة الموقف الروسي (6/10)، وفي اجتماع مجلس الأمن الدولي (7/10)، ومع التلويح بفرض عقوبات على روسيا وسوريا من خارج مجلس الأمن الدولي، فإن كل ذلك لا يستبعد لجوء إدارة أوباما إلى استخدام نوع من القوة في الصراع السوري.
وبحسب التسريبات الصحفية فإن البيت الأبيض يدرس جملة من الخيارات: الأول، وينطوي على مراقبة الأجواء والقيام بدوريات روتينية والتعامل مع التهديدات المحتملة والمشاركة في عمليات البحث والإنقاذ. ولا تتوقف عملية فرض منطقة الحظر الجوي عند حد إسقاط الطائرات التي تحلق من دون إذن بل تعني أيضا، تدمير الأنظمة العسكرية التابعة للجيش السوري. وهي مهمة، ستكلف الولايات المتحدة، أربعين طائرة مقاتلة إضافية لتأمينها وتنفيذها.
الثاني، ويشمل إقامة وفرض مناطق آمنة حيث يمكن لمئات الآلاف من المدنيين البقاء فيها مما سيخفف من موجة تدفق اللاجئين على الدول المجاورة. وقد أوصى الكثير من القادة العسكريين بإنشاء منطقة كهذه على الحدود التركية وأخرى على الحدود الأردنية في الجنوب على أن تكون عملية حمايتها مؤمنة من قبل دول التحالف ودول الناتو إضافة إلى استخدام صواريخ باتريوت في الأردن وتركيا.
لثالث، اعتبار أن الحل الأسهل والأرخص لوقف عمليات القصف هو استهداف القواعد الجوية والمطارات العسكرية وغيرها للنظام السوري وتدميرها. مؤيدو هذا الخيار يعتمدون في دفاعهم عنه كونه خيارا من الممكن أن يتم بسرعة شديدة جدا، في غضون أربع وعشرين ساعة فقط، بالإضافة إلى أن تدمير القوة الجوية السورية، لا يتطلب الكثير من الموارد مقارنة بالخيارات الأخرى.
الخيار الرابع: تسليح المعارضة، إذ الممكن والمطروح هو خيار توفير أنظمة مضادة للطائرات لمسلحي المعارضة، وهي أسلحة متطورة وأنظمة صاروخية ستخولهم إسقاط الطائرات الروسية والمقاتلات السورية. ومن الأسلحة التي من الممكن أن تحصل عليها المعارضة وفق هذا الخيار، صواريخ مضادة للطائرات تطلق من الكتف. وهناك خيار خامس، ويتمثل ضرورة تدمير طائرات النظام فقط، فلا داع لتحصل معارضة لا تحبها واشنطن على مضاد طيران قد تضطر لإعطائه وبالتالي يشكل هذا المضاد خطرا عليها لاحقا. وبالتالي تدمير آخر شوكة للنظام أي يصبح الروس والأميركيون حصرا أصحاب السيادة الجوية.
يستنتج من ذلك أن كل الاحتمالات مفتوحة، مع أو بدون وجود جنود أميركيين على الأرض، علما أن هناك مئات من الجنود الأميركيين كقوات خاصة في شمال شرق سوريا، وثمة العديد من الجماعات العسكرية التي تعمل بإشراف أميركي، أي أن الولايات المتحدة ليست بحاجة لأكثر من ضربات صاروخية، وأجهزة تشويش على نظم الإدارة والتوجيه السورية والروسية لشل قدراتهما العسكرية، وفرض الحل السياسي الذي تريده.
طبعا سيكون هذا -ربما- بمثابة رد محدود ومحسوب، وكرسالة ذات مغزى من البيت الأبيض، لكن لا أحد يستطيع التكهن بردة الفعل الروسية، سيما بوجود شخصية مثل بوتين كرئيس متفرد في روسيا، مع شعور بالعظمة وتوهم بالجبروت، وميل لاستخدام القوة واستعداد للقتل، ما يعني أن كل الاحتمالات تبقى مفتوحة، من اشتباكات محدودة، إلى احتمال الانزلاق نحو حرب محدودة، أو ربما حرب عالمية ثالثة، خاصة مع اعتقاد بوتين أن العالم لا يستطيع إزاءه شيئا، وأن الولايات المتحدة أضعف من أن ترد.
على ذلك يبدو أن روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي السابق الذي لم يتفكك بسبب الحرب، وإنما بسبب الإنهاك الاقتصادي الذي تعرض له، وبسبب خسارته في المباراة في مجال التكنولوجيا والعلوم، وبسبب سوء الإدارة، والافتقاد للحريات، معرض لتكرار ذات التجربة، بسبب الطريقة التي يدير فيها بوتين روسيا؛ وهذا ما ستبينه المغامرة البوتينية في سوريا على الأرجح.
ماجد كيالي
صحيفة الجزيرة