في الشهور القليلة التي سبقت الغزو الأميركي للعراق، انشغلت مراكز بحثية وفكرية، خصوصاً في الغرب، بالسؤال: كيف يمكن إعادة بناء العراق بعد صدام؟ وكمثل على ذلك، كان هذا السؤال عنواناً لدراسة نشرها وقتها «معهد واشنطن للشرق الأوسط» ساهم فيها بمقال كاتب هذه السطور، الى جانب آخرين، عراقيين وغربيين. صيغة السؤال المطروح كانت تشي باقتناعنا بأن القدرة على إعادة بناء العراق كانت أمراً محسوماً وما علينا سوى وضع مشاريع وخطط وأفكار تساعد النظام الجديد في إعادة البناء حالما يتم التخلص من نظام صدام.
طبعاً، كان هناك فريق يرى أن الغزو وإطاحة النظام من شأنهما فتح صندوق باندورا، تنطلق منه أفاعٍ وعقارب وكائنات شريرة أخرى لتعيث بالعراق فساداً، وهو رأي قوبل بالاستهزاء من المقتنعين بأن إعادة البناء مسألة وقت إذا ما تم التخطيط لها بعناية. فريق من هؤلاء اعتبر أن فعل إطاحة النظام وحده كاف لإصلاح العراق عاجلاً لا آجلاً، فيما فريق آخر أكثر واقعية رأى أن عملية إعادة بناء بلد محطم ليست سهلة وقد تستغرق جهداً ووقتاً طويلين، من دون أن يخلو الأمر من انتكاسات وعقبات قبل أن يستقر الوضع ويعود العراق الى أسرة الدول المتحضرة، لأنه يمتلك طاقات بشرية ومادية معروفة تمكّنه من التطلع الى مستقبل زاهر. ونعلم الآن، الخطأ الذي وقع فيه أصحاب تلك القناعة، فالعراق ما زال مريضاً والدواء المطلوب لشفائه لم يُكتشف حتى الآن.
في ضوء الدرس القاسي المستخلص من هذا الماضي القريب، تقتضي الحكمة أن نسأل الآن: كيف يمكن إعادة بناء العراق؟ الأكيد، أن الفرق كبير بين العراق ما بعد صدام في 2003، والعراق الذي سيكون بعد «داعش». في ضوء هذا التطور المرتقب، فإن السؤال عن مستقبل العراق سيــطرح نفسه بقوة أكبر مهما كابر المكابرون بأن الموقف الموحد الحازم، خصوصاً بين بغداد وأربيل، في قتال «داعش»، والعزم المشترك على دحره، يعززان «التلاحم» بين الطرفين، وبالتالي يحييان الآمال بإمكان طي صفحة الدعوات الى انفصال إقليم كردستان عن العراق.
لا يُقال هذا الكلام لإحباط العراقيين في التطلّع الى مستقبل موحد، بل لأن واقع الحال يؤكد أن التطلعات المقابلة الى تغيير جذري للوضع الراهن مضت شوطاً بعيداً بات يصعب التراجع عنه. أمس فقط، ونحن في ذروة التعاون والتنسيق العسكري غير المسبوق بين حكومتي العراق وكردستان في قتال عدو مشترك، أعلن قيادي بارز في حزب بارزاني أن تحرير الموصل مهم للكرد و»أننا أقرب الآن الى الاستقلال أكثر من أي وقت آخر»، فيما أكد قيادي بارز أيضاً في حزب طالباني أن «من حقنا اللجوء الى الاستفتاء في حال لم تبدِ بغداد استعدادها لحل المشاكل بعد انتهاء عملية الموصل». بعبارة أخرى، السؤال عن العراق بعد «داعش» سيطفو الى السطح حالما ينجلي دخان المعارك من أجل تحرير الموصل.
صحيح أن قتال «داعش» علّق الجدل على مستقبل العلاقة بين أربيل وبغداد، لكنْ الى حين. ذاك أن الانتصار العسكري على التنظيم الإرهابي وتحرير الموصل سيصعّدان جدلاً آخر حول مستقبل العلاقة بين بغداد وهذه المحافظة التي هي الثانية بعد العاصمة من حيث عدد سكانها وأهميتها ووقوعها على حدود تركيا، وهي قوة إقليمية كبرى تسعى بإصرار الى الجلوس إلى طاولة أي مفاوضات مقبلة في شأن العراق بذريعة أنها معنية بحماية السنة والتركمان من «عدوان» شيعي محتمل ومدعوم من الخصم الإيراني. وهذا سيكون الجزء المتقدم من صراع أشمل بين سنة العراق عموماً وبغداد. ولتوخّي الدقة، يتعين التوضيح بأن المقصود ببغداد هو الغالبية الشيعية المهيمنة على السلطة المركزية.
ومرة أخرى لا يُقال هذا الكلام لإثارة الضغائن، لكن شئنا أم أبينا هذا هو واقع حال العراق.
من نافلة الكلام تكرار أن العراق تتجاذبه أجندات مختلفة، إقليمية وذاتية، متفقة أحياناً ومتضاربة في معظم الأحيان وفقاً لمصالح دول الجوار و»المكونات» التي يتألف منها المجتمع العراقي المتنوع. وللمرة الألف، يتعين القول أن ما عرف في إطار الاستعدادات لغزو العراق في 2003 وإعادة بنائه كدولة عصرية بـ «مشروع العراق الجديد»، أصبح متقادماً وغير قابل للحياة على رغم كل ما بذل من جهد لإخراجه من محنته، والمحنة بقيت وبقي تجاوزها في إطار الترقيع والحفاظ على الوضع الراهن الذي تشكل الطائفية عماده.
حتى الآن، عبثاً جرب العراقيون ولاعبون خارجيون أدوية مُرة لعلاج العراق بحثاً عن جواب شاف عن السؤال: كيف يمكن إعادة بنائه؟ سؤال يحمل التدهورُ المستمر لأحوال العراق على تغييره الى: هل يمكن إعادة بنائه أصلاً؟ يتعين التأكيد مجدداً أن ما سلف لا يُطرح لإشاعة الإحباط، بل بالعكس يُقال للتنبيه الى أن تحرير الموصل عسكرياً لا يعني أن هذا الانتصار سينهي الجدل في شأن مستقبل العراق عموماً وتطلع الكرد خصوصاً الى الاستقلال. لكن، إذا ما أريد أن نتطلع الى هذا المستقبل بأمل فإنه يتعين التعامل مع عراق ما بعد «داعش» على أساس واقعي وبراغماتي. كل الأدوية الممكنة لعلاج المريض يجب وضعها على الطاولة من دون حظر لاستخدام أي منها في مسعى جديد الى منع العراق من الانحدار نحو مستقبل مجهول.
الزعيم الكردي مسعود بارزاني، لاحظ قبل أيام أنه «للمرة الأولى، تختلط دماء قوات البيشمركة بدماء الجنود العراقيين، ويحاربون عدواً واحداً مشتركاً»، مضيفاً أن «وجود هذه الروح الأخوية أمر في غاية الأهمية».
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن أن تدوم هذه «الروح الأخوية» الى ما بعد «داعش»؟ تجربة العراق بعد صدام لا تدعو الى التفاؤل. لكن لنأمل بأن يختلف الأمر في عراق ما بعد «داعش».
كامران قره داغي
صحيفة الحياة اللندنية