حتى الآن يبدو أن طهران هي الجهة الإقليمية الأقدر على الاستثمار في هزيمة «داعش» في الموصل. أنقرة معنية بالجانب الكردي من هذه المعركة، وواشنطن ستنكفئ ميدانياً فور انجاز المهمة، والعرب غائبون عن هذه الحرب غيبتهم عن الحرب في سورية.
وحدها طهران من تؤمن لها الحرب على «داعش» في العراق ركائز لمد مزيد من النفوذ في أرجاء «دولة الخلافة» المتداعية، ووحدها من يملك تصوراً عما بعد الموصل. والحال أن ذلك ليس جديداً، فمنذ بدء الانسحاب الأميركي من العراق، واتضاح رغبة الرئيس الأميركي باراك أوباما بالإنكفاء عن المنطقة، وطهران لا تفوت فرصة لملء الفراغ الهائل الذي خلفه الغياب الأميركي. طهران كانت المستفيد الأكبر من سقوط نظام البعث في العراق على رغم أنها لم تكن منخرطة رسمياً في الحرب على صدام حسين. وطهران أيضاً انقضت على مدن العراق على نحو لا يتيح عودة إلى ما قبل نفوذ الملالي الايرانيين فيها. واليوم يتكرر المشهد. العالم راغب في هزم «داعش» ولا أحد يمكنه ملء الفراغ سوى طهران على ما يبدو.
يجيد النظام الإيراني هذه اللعبة. الانخراط في الحروب الدولية إلى جانب القوى الكبرى، وإبقاء خطاب شيطنة الغرب والدعوة إلى التيقظ من مؤامراته. ويبدو أن الغرب نفسه مفتون بازدواجية خطاب الملالي الإيرانيين. إنها السياسة على ما يقولون، أي أن تعطينا أفعالاً وأن تأخذ الأقوال إلى حيث ترغب. على هذا النحو تقريباً جرى توقيع الاتفاق النووي بين القوى الكبرى وطهران. فالغرب اعتقد أنه يُجوف الخطاب الإيراني عبر إفراغه من الوقائع. الولايات المتحدة ما زالت «الشيطان الأكبر»، لكنها أخذت ما تريد من طهران. هذا الوهم هو ما تستثمر فيه طهران منذ أمد بعيد. اعتقاد الغرب أن خطاب الشحن والحشد لا قيمة له من دون إسناده بالوقائع. «حزب الله» لا يقاتل اليوم إسرائيل، لكنه يُفرّغ لها آلته الإعلامية والخطابية، وطهران لا تُهدد المصالح الأميركية في العراق، وإن كانت تُطلق على أميركا اسم الشيطان الأكبر.
نحن هنا أمام سذاجة مُضاعفة، فالافتتان بازدواجية الخطاب ينطوي على استعجال الانجاز، لكنه لا يرى أبعد من «الإنجاز». أن تكون طهران القوة الإقليمية الوحيدة القادرة على الاستثمار في النصر على «داعش» في الموصل، فهذا يعني أن الغرب سلم قوة أهلية ومذهبية مهمة حكم جماعة أهلية أخرى هي على أشد الخصومة مع حاكمها الجديد. و «داعش» في هذه الحال لن يكون بعيداً، وستعيد طهران تسليمه المدينة فور شعورها بأن الأمر ليس لها في الموصل. وللمرة الألف علينا العودة إلى وقائع احتلال «داعش» المدينة، وما سبقه من انتفاضات أهلية على نوري المالكي، حيث قال الأخير لـ «داعش» كُنْ فكان.
من الواضح أن الشروط الغربية على مشاركة طهران في حملة الموصل ملتبسة، لكنها شديدة الوضوح في ما يتعلق بمشاركة أنقرة. في الحالة الثانية تم تقييد الدور التركي بحدود ضبط أخطار حزب العمال الكردستاني، أما في الحالة الأولى فطهران حاضرة عبر حلفائها العراقيين، والأرجح عبر «الموقع الاستشاري» الذي يحتله قاسم سليماني في الخريطة الأمنية العراقية، على ما قال وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري ذات يوم.
طائرات «الشيطان الأكبر» تقصف مواقع «داعش» في الموصل، وجنود الإمام يتقدمون، وفي هذا الوقت يتنافس مرشحا الرئاسة الأميركية على إطلاق وعود بضبط الدور الايراني في المنطقة، بينما يدعو الولي الفقيه علي الخامنئي شعوب المنطقة إلى عدم الرضوخ لنفوذ «الشيطان الأكبر».
نعم، ثمة من يراوغنا في واشنطن، أما في طهران فالحروب وتناسلها هي الأفق الوحيد لمد النفوذ، وهذا يجعل ما تُقدم عليه واشنطن كارثياً، فهي تفسح في المجال لقوة لن يستقيم نفوذها من دون استمرار الحروب، وكيف لهذه الأخيرة أن تستمر من دون إبقاء «داعش» على قيد الحياة.
لا يمكن طهران أن تُمسك بأقاليم سنّية هائلة الاتساع من دون إشغالها بالحروب. الاستقرار سيعني بداية نهاية النفوذ. سقوط الموصل بيد قوى شيعية حليفة لإيران وتحويل المدينة إلى ممر لقواتها إلى سورية، على ما كتب المبعوث الدولي زلماي خليل زادة، سيعني استئناف جهد لمقاومة القوى الجديدة، وهو ما سيفضي إلى عودتنا إلى دوامة «داعش».
الأرجح أن «الدرس الإسرائيلي» يكمن وراء هذه المراوغة. فنجاعة «ازدواجية الخطاب» في الحالة الإسرائيلية ربما كانت ما جعل الغرب يستكين لهذه المعادلة. البعث حكم سورية خمسين سنة مستعيناً بخطاب الحرب على إسرائيل، وبقيت الحدود آمنة. وها هو «حزب الله» يُكرر المعادلة نفسها منذ أكثر من عشر سنوات في لبنان. ويبدو أن ثمة من يعتقد أن طهران يُمكنها تكرار المعادلة نفسها اذا ما تم تسليمها العراق. أي: خطاب ممانعاتي ناري في وجه الغرب في مقابل سلم وتعاون وضمانات بحماية المصالح والنفوذ. وربما اعتقد أصحاب وجهة النظر هذه، ومن بينهم باراك أوباما، أن الضمانات تشمل الأمن في العواصم الغربية أيضاً. فقد سلم الغرب بالبعث في سورية لأكثر من خمسين عاماً، وها هو يُسلم بـ «حزب الله» في لبنان. والنتائج في عرفه مضبوطة بالخسائر التي تتكبدها مجتمعات هذه الدول، فلا بأس من تكرار التجربة في العراق.
السذاجة بطن ولادة لأفكار هدامة. لبنان وسورية بلدَا حروب أهلية لن تنتهي، وحفظ أمن إسرائيل لا يكفي للإعتقاد بأن الغرب نجا من كوارثنا. أما العراق فانفجاره لم يتوقف ولن يتوقف عند حدود تسليمه للحرس الثوري الإيراني. وخلف الإعتقاد بأن من الممكن أن ننهي «داعش» عبر تسليم الموصل لحلفاء طهران شيء مخيف فعلاً، فالمدينة معقل السنّة الأكبر في العراق وفي سورية، وقرار إسقاط نفوذ شيعي عليها من طائرات التحالف الغربي ينطوي على بعد هذياني، والكارثة تكمن في أن يتحول الهذيان واقعاً، وأن يحصل بموازاة سقوط مدينة سنية أخرى بيد «التحالف الشيعي» هي حلب، وأن تعقب ذلك هزيمة ثالثة للسنّة في الإقليم تتمثل في استسلام سعد الحريري لمرشح «حزب الله» للانتخابات الرئاسية اللبنانية.
هل لأحد أن يُصدق أن ثمة من يرغب بالقضاء على «داعش»؟
حازم الأمين
صحيفة الحياة اللندنية