تحول تنظيم الدولة منذ وصوله إلى الموصل في حزيران/يونيو 2014، ثم سيطرته على أكثر من ثلث مساحة العراق إلى تهديد دولي، حتى قبل أن يقوم التنظيم بمهاجمة باريس في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ثم بلجيكا في آذار/مارس 2016. وتشكلت بعد هذا مقاربة «دولية» لمواجهة التنظيم لها سياقاتها الخاصة، واهدافها التي تريد تحقيقها عبر تشكيل تحالف دولي لمحاربة التنظيم.
يعد تنظيم الدولة وريثا لتنظيم القاعدة في العراق. بدأ بالإعلان عن نفسه باسم تنظيم الدولة في العراق والشام في نيسان/ أبريل 2013، والذي عرف اختصارا بداعش، ثم تحول الاختصار إعلاميا إلى كنية ذات حمولة هجائية، استخدمت للتعريض، مما حدا بالعديد من قادة المجتمع الدولي إلى استخدامها بصيغتها العربية للغرض نفسه. ووريثا ايضا لـ«دولة العراق الإسلامية» التي اعلنت في تشرين الاول/ أكتوبر 2006. وعلى الرغم من ان هذا التنظيم/ الدولة كان واقعا ملموسا في العراق بداية من آب/ اغسطس 2003، عندما استهدف السفارة الأردنية في بغداد، ومقر الأمم المتحدة في العراق. إلا أنه ظل تنظيما داخليا يستهدف بالخصوص القوات الأمريكية في العراق، والقوات الحليفة لها (هاجم التنظيم في مقر القوات الإيطالية في الناصرية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003)، ولم يتحول إلى تهديد «دولي» آنذاك؛ إذ لم يتم الربط بين هذا التنظيم والعمليات الإرهابية في أوروبا حينها؛ حيث أعلن أن تفجيرات مدريد في آذار/مارس 2004 مثلا كانت عملية قامت بها مجموعات على علاقة بتنظيم القاعدة الأم، والامر نفسه ينطبق على تفجيرات لندن في حزيران/ يونيو 2005 التي اتهم فيها أيضا تنظيم القاعدة الأم.
ولم يقتصر الامر على العراق وحسب، فجبهة النصرة، التي أعلن عنها في سوريا في كانون ثاني/ يناير 2012 لم يصفها المجتمع الدولي بانها خطر دولي، ولم يختلف الامر عندما انشقت عن التنظيم الأم، دولة العراق الإسلامية، في نيسان/ أبريل 2013، اعتراضا على إعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وهو الأمر الذي انتهى إلى القطيعة النهائية بين تنظيم القاعدة الأم، الذي لجأت اليه جبهة النصرة، وبين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من جهة ثانية، خاصة بعد دخول الاخيرة إلى سوريا بشكل مباشر. وعلى الرغم من هذه الخطوة، لم ينظر إلى وجود « الدولة الإسلامية في العراق والشام» على انه تهديد دولي.
و إدراج هذه المنظمات جميعا، تحت تعبير «الكيانات والجماعات والمؤسسات المرتبطة بتنظيم القاعدة» وفقا لقرارات مجلس الامن 1267 لعام 1999، و1333 لعام 2000، و1390 لعام 2002، و1989 لعام 2011، وعدها خطرا يهدد السلم والأمن الدوليين، لم يجعل منها منظمات تمثل تهديدا محتملا للغرب، يستدعي تدخلا عسكريا مباشرا، ومن ثم تم الاقتصار على تدابير تتعلق بمنع توريد الأسلحة، وتدابير مالية، واخرى متعلقة بالأفراد.
في الإطار نفسه كان ثمة تجاهل غير مسوغ للأسباب التي حولت هذه التنظيمات السلفية، من منظمات أيديولوجية إلى ظاهرة اجتماعية/ سياسية، في سياق دول مثل العراق وسوريا! فلم يتم النظر إلى المقدمات التي أدت إلى هذا التحول، وتم التركيز بدلا من ذلك على المقاربة الأمنية البحتة!
لم ينظر الأمريكيون، الفاعل الرئيسي في عراق ما بعد 2003، إلى الأسباب التي دفعت بالتنظيمات السلفية الراديكالية ذات الحضور المحدود جدا تاريخيا، إلى الصعود بالشكل الذي انتهت اليه في مدة زمنية لا تتجاوز ثلاث سنوات! فقد ظلت المقاربة الأمنية هي المقاربة الوحيدة القائمة. بل إن الأمريكيين لم يفيدوا من القطيعة التي حصلت بين المجتمع السني في العراق، وتنظيم القاعدة تحديدا، بعد عام 2006، عندما تم استخدام «الصحوات» أداة لهزيمة القاعدة، مع بقاء المقدمات السياسية التي انتجت الظاهرة دون محاولة للمراجعة. وهي المقدمات نفسها التي اعادت إنتاج تنظيم الدولة في مرحلة لاحقة، بعد تفاقم هذه الاسباب والمقدمات في مرحلة الولاية الثانية لرئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي كان يحظى بدعم أمريكي غير محدود حينها!
بعد سيطرة داعش على الموصل، وتقدمه السريع في المناطق السنية، ووصوله إلى أطراف بغداد، ثم مهاجمته قضاء مخمور التابع لمحافظة نينوى، والذي تسيطر عليه قوات البيشمركة الكردية، في محاولة منه لتعزيز شرعيته، بوصفة المدافع عن العرب السنة! تغير موقف الولايات المتحدة تغييرا جذريا، وتبعها بذلك المجتمع الدولي، فلم يعد هذا التنظيم مجرد تهديد داخلي حقيقي، وتهديد خارجي محتمل يستدعي «تدابير» غير عسكرية، بل أصبح تهديدا دوليا يستدعي تشكيل تحالف دولي لمواجهته، وهزيمته. ليس في العراق فقط، وإنما في سوريا أيضا! وقد عززت هجمات باريس وبروكسل هذا التوجه، لاسيما في ظل تصاعد الحديث عن الخشية من تحول الجهاديين الأجانب في التنظيم، إلى خطر مستقبلي حقيقي، على غرار الأفغان العرب، الذين شكلوا نواة معظم التنظيمات الجهادية في الدول العربية بعد انتهاء الاحتلال الروسي لأفغانستان.
في مؤتمر باريس الأخير، الذي عقد يوم الثلاثاء الماضي، اتضح الهدف الحقيقي، والوحيد، للتحالف الدولي، وهو هزيمة داعش، أو على الأقل تحجيم قدرته إلى أكبر حد ممكن، لكي لا يشكل خطرا على دول التحالف. وبهذا اصبحت مسألة ما بعد داعش، ومسألة ضمان الاستقرار، مجرد أهداف ثانوية!
يطالب الرئيس الفرنسي بضرورة ان تكون هناك رؤية لمرحلة ما بعد داعش في الموصل، وهو اعتراف صريح بأنه لم تكن ابدا ثمة رؤية او استراتيجية تم وضعها، والاتفاق عليها، لإدارة مرحلة ما بعد داعش! وهو ما أكدنا عليه مرارا وتكرارا. وهذه الدعوة إنما تسوق وهما أمريكيا عن إمكانية الفصل بين مرحلة مواجهة داعش عن مرحلة ما بعد داعش مع علمهم أن علاقات القوة التي ستنتجها مواجهة داعش، هي التي ستحدد ترتيبات ما بعد داعش. تماما كما حكمت علاقات القوة التي انتجها احتلال العراق، ترتيبات النظام السياسي فيما بعد.
فيما يسوق وزير الخارجية الأمريكي وهما آخر عن استراتيجية «القوات المحلية» التي تخوض الحرب ضد داعش، والتي تحظى بالدعم قوات التحالف، فانه لا يحدد لنا معنى «المحلي» هنا، في ظل الانقسام المجتمعي الحاد الذي يحكم كلا من العراق وسوريا اليوم! فهل ميليشيا الحشد الشعبي العقائدية، هي «قوات محلية» في تكريت والفلوجة والموصل؟ وهل قوات سوريا الديمقراطية هي «قوات محلية» في منبج أو الرقة؟
ما لم يقله الوزير آشتون كارتر صراحة هو ان الاستراتيجية الأمريكية تقوم على التعاطي مع أي قوة على الأرض بمعزل عن الحساسيات المحلية التي يمكن أن تستثيرها هذه القوات في مرحلة لاحقة، وبمعزل عن عمليات التغيير الديمغرافي التي قد تحصل، وبغض النظر عن اي هيمنة قد تفرضها هذه القوات على «الآخر» في هذه المناطق!
في حديث شخصي مع مساعد نائب وزير الخارجية الأمريكي، تحدث عن استراتيجية من ثلاث خطوات تعتمدها الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد داعش، هي: إعادة النازحين، وإعادة الإعمار، وضمان الامن! وعندما تحدثت معه عن عمليات تغيير ديمغرافي تجري في المناطق التي تمت استعادتها من داعش، وأن وجود القوات الأمريكية، بكل سطوتها، في العراق لم يمنع عمليات التغيير الديمغرافي التي حصلت في منطقة المدائن عام 2005! وان مسألة إعادة الاعمار تتوقف على العامل الخارجي في ظل العجز الشديد في الموازنة العراقية، ومن ثم لا ضمانة أكيدة على وجود مثل هذه الاموال أصلا، وان مسألة ضمان الأمن مسألة غير مفهومة، فهل هو نفسه الأمن الذي كان قائما في العراق قبل الاحتلال، أي الامن الذي تفرضه السلطة القائمة بالقوة، فأجاب جوابا ديبلوماسيا عبثيا عن الواقعية!
يحيى الكبيسي
صحيفة القدس العربي