يبدو أن العرب أدمنوا فن تجرع الهزائم التي تلاحقهم منذ سنوات طويلة وما زالوا يصرون على أن السبب يعود إلى «مؤامرة كونية» تستهدفهم وتسعى لتمزيقهم، ولذا لم يعودوا قادرين حتى على التوقف والتبين لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أوصلتهم إلى هذا المنحدر. فقد بات العرب يجيدون سبل إلحاق الأذى بأنفسهم ولم يعد بإمكانهم تجنب خوض المعارك الخاسرة، وعليهم من ثم تحمل كامل المسؤولية عما وصلت إليه أحوالهم من تدهور أدى إلى استهزاء العالم بهم وعدم أخذهم على محمل الجد. فالأحرى بمن يتعرضون لمؤامرات خارجية، حقيقة كانت أم وهماً، أن يكونوا أكثر حرصاً على رص الصفوف، واتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لإفشالها، لا أن يتخذوا من تلك المؤامرات شمَّاعة يعلقون عليها أخطاءهم أو تهاونهم في حق أنفسهم.
من المعروف أن منظمة اليونيسكو تضم الآن أكثر من 190 دولة، موزعة بين ست مجموعات أو «أقاليم ثقافية» مختلفة: المجموعة الأولى تضم دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، والمجموعة الثانية تضم دول أوروبا الشرقية، والمجموعة الثالثة تضم دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، والمجموعة الرابعة تضم دول آسيا ومنطقة المحيط الهادي، والمجموعة الخامسة تضم الدول الأفريقية (جنوب الصحراء)، والمجموعة السادسة تضم الدول العربية. وقد سيطرت شخصيات تنتمي إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، أي إلى المجموعة الأولى، على قيادة هذه المنظمة الدولية المرموقة لسنوات طويلة بلغت في مجموعها أكثر من نصف عمر المنظمة الذي تجاوز الآن سبعين عاماً، بخاصة من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة. وحين نجحت الضغوط المطالبة بتدوير منصب المدير العام لليونيسكو بين المجموعات الإقليمية المختلفة، وهي ضغوط تصاعدت منذ بداية السبعينات، تمكنت شخصيات تنتمي إلى مجموعات إقليمية أخرى من الفوز بهذا المنصب الرفيع، فأتيح لشخصيات من المكسيك (المجموعة الثالثة) ومن السنغال (المجموعة الخامسة) ومن اليابان (المجموعة الرابعة) ومن بلغاريا (المجموعة الثانية) قيادة اليونيسكو لفترة ولاية واحدة أو أكثر.
المجموعة الإقليمية الوحيدة التي لم تنجح في تحقيق هذا الهدف هي المجموعة العربية. فلم تتمكن أي شخصية عربية من قيادة منظمة اليونيسكو منذ نشأتها عام 1945 حتى الآن، رغم تقدم مرشحين عرب لشغل هذا المنصب في ثلاث دورات انتخابية، في 1999 و2009 و2013، وهناك شخصيات عربية كثيرة أعلنت ترشحها لخوض الانتخابات التي ستجرى العام المقبل من دون أن يلوح في الأفق أن حظوظ أي منها ستكون أفضل هذه المرة، وهو أمر محير يثير الكثير من التساؤلات. ففي أول تجربة عربية للترشح لمنصب المدير العام لليونيسكو عام 1999 حدثت مفارقة غريبة، حيث تنافس مرشحان عربيان، أحدهما هو الدكتور غازي القصيبي الذي رشحته المملكة العربية السعودية رسمياً، والثاني هو الدكتور إسماعيل سراج الدين الذي لم ترشحه رسمياً أي من الدول العربية وإنما رشحته دولة أفريقية!
ولأن الأصوات العربية انقسمت وتشتت، ومعها بالطبع أصوات الدول الصديقة، فقد كان من الطبيعي أن يخسر المرشحان العربيان وأن يفوز بالمنصب الرفيع مرشح ثالث هو الياباني كويشيرو ماتسورا. ثم تكرر الأمر في انتخابات 2009، حيث خاض السباق في ذلك العام اثنان من العرب أيضاً، الأول هو فاروق حسني الذي رشحته رسمياً مصر والسودان والكويت وليبيا، والثاني هو الدكتور محمد بدجاوي، الذي رشحته دولة كمبوديا! وخسر الاثنان السباق رغم أن مصر ألقت بكل ثقلها وراء مرشحها وتدخل الرئيس حسني مبارك شخصياً لدى الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لسحب المرشح الجزائري. وكانت النتيجة فوز البلغارية إيرينا بوكوفا بالمنصب. وفي انتخابات 2013 ترشح عربيان أيضاً، هما الجيبوتي رشاد فارح واللبناني جوزيف مايلا، لكن المرشحة البرتغالية التي كانت تطمح في ولاية ثانية استطاعت أن تحسم السباق لمصلحتها هذه المرة بسهولة.
لم يستخلص العرب دروساً مستفادة من هزائمهم السابقة في الدورات الانتخابية الثلاث، وها هم يكررون الأخطاء نفسها مع اقتراب موعد اختيار مدير جديد للمنظمة، خلفاً لبوكوفا التي ستنهي فترة ولايتها الثانية في 2017. فقد تردد أن عدد الذين أعلنوا رغبتهم في الترشح لهذا المنصب من الدول العربية أربعة حتى الآن هم مشيرة خطاب (مصر) وحمد بن عبدالعزيز الكواري (قطر)، وفيرا خوري، (لبنان) وغسان سلامة الذي أعلن نيته الترشح ولم ترشحه أي دولة رسمياً بعد. ورغم ارتباك الموقف العربي الرسمي كالعادة، فإنني أفضل التكتل وراء اللبناني غسان سلامة. يلفت النظر هنا غياب أي معايير محددة تلتزم بها الدول العربية عند إقدامها على الترشيح رسمياً لهذه المناصب الدولية العليا، ويبدو أن معيار الكفاءة هو آخر ما تفكر فيه السلطات الحاكمة. فالمعيار الأكثر شيوعاً هو المعرفة الشخصية بين الحاكم والمرشح، حيث ينظر الحاكم العربي إلى المنصب الدولي باعتباره جائزة يمكنه تقديمها إلى أحد أتباعه أو أصدقائه أو معارفه، مكافأة له على خدمات قدمها أو مجاملة شخصية من جانبه، وليس لكونه موقعاً إدارياً أو فكرياً مؤثراً يمكن للدولة أو الوطن أو الأمة أو الإنسانية أن تستفيد منه، إذا رشحت له الشخص المناسب.
كان الدكتور اسماعيل سراج الدين في تقديري جديراً بشغل هذا المنصب في الانتخابات التي ترشح فيها عام 1999، وذلك بحكم خبراته الإدارية واتصالاته الدولية وثقافته الموسوعية. ورغم أنه كان وثيق الصلة ليس فقط بالرئيس مبارك وإنما بالسيدة سوزان مبارك التي كانت تولي اهتماماً خاصاً وعناية فائقة ببعض أنشطة مكتبة الإسكندرية وترعاها مباشرة، غير أن المجاملات السياسية المعتادة حرمته من أن يكون مرشحاً رسمياً للدولة المصرية. وفي انتخابات 2009 ألقت مصر بثقلها وراء فاروق حسني وقدمت له دعماً مادياً وسياسياً غير مسبوق، رغم أنه كان بمقدور مصر أن تعثر على مرشح أفضل من وزير الثقافة السابق. كما كان بمقدورها أن تعيد ترشيح إسماعيل سراج الدين وأن تصحح الخطأ الذي ارتكبته في المرة السابقة بالامتناع عن ترشيحه. وها هي ترتكب الخطأ نفسه هذه الدورة بسبب قصور في الرؤية.
لا يوجد في تقديري أي مبرر يحول دون ترشيح شخصية عربية رفيعة المستوى لقيادة منظمة اليونيسكو، خصوصاً في المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظامين الدولي والعربي، وهي مرحلة يبدو فيها العرب في أمس الحاجة إلى تصحيح صورتهم في الخارج. ومن المعروف أن الدول العربية خاضت معركة ضارية في اليونيسكو إبان الخمسينات لكي تصبح مجموعة إقليمية قائمة بذاتها، تأكيداً لخصوصيتها الثقافية في أكبر منظمة عالمية معنية بالشأن الثقافي، ولرفض مفهوم «الشرق الوسط» كأساس للأنشطة الإقليمية التي يتعين أن تقوم بها اليونيسكو. ورغم تقديري لكل المرشحين العرب في هذه الدورة، خصوصاً المرشحين الرسميين لبعض الدول العربية إلا أنني أعتقد أن غسان سلامة هو المرشح العربي الأنسب لقيادة اليونيسكو في هذه المرحلة تحديداً، لأسباب عدة، يتعلق بعضها بخبرته وكفاءته الشخصية، وبعضها الآخر يتعلق بالظروف الموضوعية التي تمر بها المنطقة. فعلى المستوى الشخصي، يمتلك غسان سلامة بحكم تخصصه المهني وخبراته السابقة، رؤية سياسية لطبيعة النظام الدولي وكيفية عمله وللدور الحساس الذي يتعين على منظمة مثل اليونيسكو أن تقوم به لترسيخ قيم التسامح وللعمل بموجب ما ورد في ميثاقها من أن «الحرب تبدأ في عقول البشر، وفي عقول البشر يتعين أن تبنى حصون السلام». أما على مستوى الظروف الموضوعية التي تمر بها المنطقة، فأظن أن وجود شخصية لبنانية على درجة عالية من الثقافة مسألة مهمة لبنانياً وعربياً لإعادة تأكيد قيم التسامح والعيش المشترك في عالم مليء بالكراهية والنزوع نحو التطرف. فهل يمكن للدول العربية أن تتفق على سلامة مرشحاً لقيادة اليونيسكو وأن تلقي بثقلها وراءه؟ أظن أنها تستطيع أن تضمن هذه المرة وجوداً عربياً على رأس منظمة اليونيسكو يمكن أن تفخر به وأن يقوم بدور مفيد ومطلوب في هذه المرحلة.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية