مع اقتراب الاستعدادات للانتخابات الرئاسية الإيرانية المقرر إجراؤها في مايو 2017، يعود إلى الواجهة الصراع بين المحافظين والإصلاحيين؛ وتنشط الأذرع الأمنية أكثر للتضييق على الإصلاحيين وملاحقتهم بتهمة “التحريض على السلطة والتواطؤ مع جماعات معادية للنظام الإيراني”.
ورغم أن صدى الصراع بين المحافظين والإصلاحيين يعلو أكثر مع موسم الانتخابات، إلا أن نيرانه مشتعلة منذ ما يناهز أربعين عاما، بعد أن انقلبت الثورة، التي لم تكن دينية في البداية، بل شاركت فيها مختلف الأطياف والتيارات السياسية، بالبلاد إلى “جمهورية إسلامية”.
ترسّخت في إيران، منذ قيام نظام الخميني في نهاية السبعينات، ما أطلقت عليه الكاتبة الأميركية لورا سيكور ثقافة المواطنة السلبية، التي رصدت تفاصيلها وصورها في كتابها “أطفال الجنة: الكفاح لاستعادة روح إيران”.
تتحدث سيكور عن النشطاء والاصطلاحيين الذين مازالوا يناضلون من أجل المصالحة بين المعتقدات الأساسية للإسلام مع مفهوم التنوير القائل إن كل الناس بغض النظر عن معتقدهم أو غياب معتقدهم سواسية ويتمتعون بصفة طبيعية بحقوق ثابتة.
من ثوريين إلى مصلحين
في خضم الكثير من التعقيدات المحيطة بإيران وسياساتها، ضاعت أسماء المفكرين الذين ساعدوا على إسقاط الشاه، ثم سعوا في ما بعد لتحرير إيران من الحكم الديني. برزت أسماء هؤلاء المفكرين في فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين. وكان لهم دور كبير في التمهيد للثورة؛ وهو مفكرون، تقول عنهم لورا سيكور في كاتبها، إن “آثارهم تستمر في تشكيل السياسة الإيرانية”.
ومن بين هؤلاء المفكرين عالم الاجتماع علي شريعتي والناقد الاجتماعي جلال آل أحمد اللذان كانا بارزين ضمن مجموعة من المفكرين المنادين من أجل التعبير عن نظرة معادية للاستعمار ومعادية للغرب. وكان أغلب المفكرين منشقين دينيين في عهد الشاه، حيث اعتقل شريعتي عدة مرات وتوفي في المنفى. وكان آخرون يساريين لهم ميول ماركسية وكان البعض منهم مساندين محافظين للشاه، ورغم ذلك كانت الغالبية تشترك في خاصية مشتركة: رفض للمبادئ الأساسية للفكر التنويري.
وبالنسبة إلى مساندي النظام من المفكرين، وضع مفهوم التنوير الخاص بالحقوق الفردية قيودا غير مقبولة على الدولة. وبالنسبة إلى الماركسيين تغلبت الحاجة إلى الوحدة الوطنية ضد استبداد الشاه والنفوذ الغربي على المطالبة بالحقوق الفردية، أما بالنسبة إلى المنشقين الدينيين فقد “استبدل التفكير التنويري الله بالإنسانية”، ومن ثم فتح الطريق أمام المادية والإلحاد والتسامح مع “الانحرافات” الدينية مثل البهائية. ومثلما عبّر عن ذلك شريعتي فقد اختار اللجوء إلى المسجد لحماية نفسه من ضجيج وألق التنوير.
الكثير من الإصلاحيين لم يكتشفوا فضائل الحقوق الفردية إلا بعد فقدانهم للنفوذ أو إزاحتهم من النخبة الحاكمة
لكن شريعتي وآل أحمد وحلفاؤهما في الفكر كانوا انتقائيين في عداوتهم للغرب، إذ سارعوا إلى اتهام خصومهم “بالتغريب” وفي نفس الوقت مجدوا النقاد الغرب للفكر التنويري مثل مارتين هايدغر ومشيل فوكو، وطوعوا أفكارهم للسياق الإيراني.
بعد تولي الخميني السلطة، سارع بتحييد اليساريين والعلمانيين الذين ضموا قواهم للإسلاميين في معارضة نظام الشاه. وسرعان ما اتضح أن الجمهورية الإسلامية تحت حكم الخميني لن تبشر بحكم الانتلجنسيا مثلما كان يأمل ويتوقع شريعتي ومنشقون آخرون، بل بالعكس من ذلك أسس دستور الخميني الجديد لمفهوم ولاية الفقيه.
بحلول التسعينات، خاب أمل المثقفين الذين شاركوا بشغف في الثورة في الوقت الذي شدد فيه رجال الدين وقوات الأمن قبضتهم على المجتمع والسياسة في إيران. وشرعت هذه الزمرة من الثوريين القدامى في الابتعاد عن الخطاب القديم والبحث عن لغة جديدة للتعبير عن مطالبهم وشكواهم، متمنين أن تكون تلك الخطوة الأولى في اتجاه إصلاح المنظومة، فانتقلوا من الحديث عن الجذور والشهادة والتوحيد ومناهضة الغرب، إلى الترحيب بالديمقراطية والحرية والمساواة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والمواطنة.
وأصبح هؤلاء المثقفون يعرفون “بالمفكرين الإسلاميين الجدد” ومثلوا رفضا للخط السابق للفكر الثوري حتى أن أحدهم، وهو أكبر غانجي، وصل إلى حد الإعلان بأن عمل شريعتي يجب أن يودع في متحف.
ومن بين المفكرين الإسلاميين الجدد تتحدث لورا سيكور عن عبدالكريم سروش، الذي جلبت كتاباته عن العلم والدين اهتمام الكثير من الثوريين والمنشقين، بل الخميني بحد ذاته.
عاد سروش إلى إيران في سنة 1979 بعد الثورة ثم عينه الخميني في لجنة مكلفة بتنفيذ “ثورة ثقافية” إسلامية في التعليم العالي من شأنها أن تخلص الجامعات الإيرانية من التأثيرات الغربية.
لكن، ما إن أدرك سروش أن رجال الدين لم تكن لديهم نية لتقاسم السلطة مع الآخرين، وخاصة مع المثقفين الإصلاحيين، حتى بدّل الاتجاه متجنبا الإسلامية الأصولية لصالح نظرة أكثر انسجاما مع الليبرالية. وفي منتصف التسعينات أصبح هدفا لهجوم المحافظين. ولم يكن أمامه غير المنفى.
بحلول التسعينات، خاب أمل المثقفين الذين شاركوا بشغف في الثورة في الوقت الذي شدد فيه رجال الدين وقوات الأمن قبضتهم على المجتمع والسياسة في إيران
تتعاطف سكور مع سروش ومفكرين إصلاحيين آخرين من جيله، لكن إرفاند أبراهاميان، أستاذ التاريخ في كلية باروخ – منهاتن، في تقديمه لكتاب لورا سيكور، يرى أن ذلك التعاطف يؤدي إلى التقليل من أهمية نقطتي ضعف في حركتهم. النقطة الأولى، أنه لم يكتشف الكثير من الإصلاحيين فضائل الحقوق الفردية إلا بعد فقدانهم للنفوذ أو إزاحتهم من النخبة الحاكمة، وفي الكثير من الأحيان نتيجة للخلافات الشخصية أو الصراعات على السلطة أكثر من أن تكون بسبب خلافات فلسفية حقيقية مع النظام.
ومن أمثلة ذلك، آية الله حسين علي منتظري، الذي يجله الاصطلاحيون على أنه بطل من أبطال الحقوق الفردية، لكن منتظري الذي توفي في سنة 2009 كان ولي عهد الخميني إلى حدود سنة 1989 عندما انفصل عن النظام بسبب حظره للأحزاب السياسية وجهوده لتصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج. ولم يشرع منتظري في معارضة النظام علنا في مسائل كبرى إلا بعد أن اتضح أنه لم يعد مرغوبا فيه. وتتمثل النقطة الثانية في أنه بالرغم من أن الإصلاحيين دعوا إلى الحقوق الفردية المعززة، إلا أنهم لم يتبنوا المثل التنويرية عموما. ويقف مفهوما الحرية والمساواة الكونيان حجر عثرة تمنع الإصلاحيين من التبني الكامل لقيم التنوير. ففي تقاليد الفكر التنويري تنتمي الحقوق الفردية المستمدة من الطبيعة للجميع، لكن أغلب المفكرين الإصلاحيين كانوا دوما مستعدين لقبول مفهومي الحرية والمساواة عندما يتعلقان بالمسلمين “الحقيقيين”، مثلا يقسّم محمد خاتمي (رئيس ايران من 1997 إلى 2005) البشرية إلى ‘خودي’ (“نحن”، أي المسلمون) و’خير الخودي’ (“هم”، أي الكفار). وحتى سروش، الإصلاحي الأقرب إلى قيم التنوير، يميل إلى تبني فكرة التفرقة السياسية بين المؤمنين وما سواهم.
جيل جديد متمرد
بعد سنوات، حل محل المفكرين الإسلاميين الجدد جيل آخر من النشطاء بلغوا سن الرشد أو ولدوا بعد سنة 1979. وشكل هؤلاء العمود الفقري لما يسمى الحركة الخضراء التي تكتلت للاحتجاج على نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 التي أعادت المتشدد محمود أحمدي نجاد إلى السلطة.
النظام قمع الحركة الخضراء بقسوة، وبقي زعماء المعارضة المتحالفون مع الحركة تحت الإقامة الجبرية حتى أثناء رئاسة المعتدل نسبيا حسن روحاني
قام النظام بقمع الحركة الخضراء بقسوة. وبقي زعماء المعارضة المتحالفون مع الحركة تحت الإقامة الجبرية حتى أثناء رئاسة المعتدل نسبيا حسن روحاني. ووبالرغم من أنه يبدو أن الوعد الذي بشرت به الحركة الخضراء خبا، لم تمت روح الإصلاح. ومثلما يكشف كتاب سيكور، هناك خاصية لدى النشطاء والمفكرين الشباب –على عكس أمثال سروش الذين نقدوا السلطة الدينية في إيران دون التخلي عن التفكير واللغة الدينيين- تتمثل في أنهم يتفادون على ما يبدو الخطاب الإسلامي ويستكشفون بدل ذلك خطاب التنوير.
وبهذه الطريقة، يحاكي الإصلاحيون الجدد جيلا سابقا من الإيرانيين الليبراليين، وهو الانتلجنسيا التي كانت وراء الثورة الدستورية الإيرانية بين 1905 و1907 وعارضت ملكية الكجار وأدت إلى إنشاء أول برلمان إيراني. تفادى زعماء الثورة الدستورية عن وعي صياغة مطالبهم في قالب ديني لأنهم كانوا يعرفون بأن فعل ذلك سيستغله رجال الدين الذين قد ينزعون الشرعية عن الثوريين عبر التشكيك في إخلاصهم للإسلام.
في حين أن جيل سروش سمح لنفسه بأن تبتلعه دوامة الخطاب الإسلامي وذلك لأن المزاج الشعبي بعد الثورة بدا وأنه يطلب ذلك ولأن كاريزما الخميني العالية مكّنته من السيطرة على السياسة الإيرانية بشكل كامل حتى أصبح من الصعب المشاركة في مناقشات دون تناول الفكر الديني، لكن نشطاء وإصلاحيي هذه الأيام ليسوا مجبرين على التعامل مع شخصية مثل الخميني، وهم الآن يكتشفون بأن قطاعا متزايدا من السكان في إيران لم يعود مفتونا بالفكرة الخمينية.
ويؤكد الخبراء، اليوم، أن الثورة الإيرانية فقدت الكثير من وهجها الذي انطلقت به، من ذلك ما قاله باهمان نيروماند، الخبير في الشؤون الإيرانية، في حوار صحافي مع موقع “القنطرة” بأن “في البداية كان تسعون في المئة من الإيرانيين يؤيدون الخميني وحتى اليساريون، وذلك بسبب إدراكهم أنهم لن يتمكّنوا من إسقاط الشاه من دون هذه القوة الإسلامية. ولهذا السبب فهو لا يزال يحظى بالاحترام، ولكن في المقابل تتم اليوم مناقشة أفكاره وبشكل صريح حتى في المعسكر الإسلامي”.