فى فبراير 1945، وفى خضم الحرب العالمية الثانية، التقى الرئيس الأمريكى حينها فرانكلين روزفلت، ورئيس وزراء الاتحاد السوفيتى جوزيف ستالين، ورئيس وزراء المملكة المتحدة ونستون تشرشل، فى يالطا، المنتجع الروسى بشبه جزيرة القرم، للتحدث حول اتجاه الحرب والسلام الذى سيتبعها، واتفق الجميع على نظام ما بعد الحرب الذى اقترحه روزفلت، والذى سُمى فى وقت لاحق «رجال الشرطة الأربعة» (وهو مصطلح يشير إلى مجلس ما بعد الحرب الذى كان يتكون من الأربعة الكبار، كضامنين للسلام العالمى، وهم: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا، والصين).
كان روزفلت مقتنعًا بأنه سيتمكن من إقناع ستالين بالحفاظ على التزاماته، التى وعد بها فى يالطا فيما يتعلق بالأمن الجماعى وعدم تقسيم أوروبا، ولكن ستالين كانت لديه رؤية مختلفة للغاية، حيث كان يرى ضرورة وجود عالم تشكله محاور النفوذ، وتسود فيه إرادة الأقوى.
وكانت مسألة احتواء التوسع السوفيتى من نصيب الرئيس الأمريكى الأسبق، هارى ترومان، فقد بنى تحالفات أمريكا الأولى فى وقت السلم، وبدأ من غرب أوروبا، ثم انتقل إلى آسيا، واتخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة فى صياغة المعايير والقواعد والمؤسسات، لما أصبح فيما بعد النظام الدولى الليبرالى، بما فى ذلك الأمم المتحدة، والمؤسسات المالية الدولية، ومشروع مارشال (الاقتصادى لإعادة إعمار أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والذى وضعه الجنرال جورج مارشال، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكى أثناء الحرب العالمية الثانية، ووزير الخارجية الأمريكى منذ يناير 1947).
ورغب النظام الدولى الليبرالى، الذى تقوده الولايات المتحدة، فى وجود عالم مفتوح متصل ببعضه البعض بواسطة التدفق الحر للأشخاص والسلع والأفكار ورأس المال، وارتكزت مبادئه على سيادة الدول والحقوق الأساسية لمواطنيها، ورغم أن هذه المبادئ لم تُطبق فى بعض الأماكن مثل أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، فضلًا عن التوترات الشديدة خلال الحرب الباردة، فإن هذه السياسات أدت إلى عقود من السلام بين القوى العظمى، حيث تشاركوا جميعًا فى الرخاء.
ويواجه الآن نظام ما بعد الحرب، الذى أسسته أمريكا، تحديات جسيمة، بما فى ذلك المنافسون القدماء، فالرئيس الروسى فلاديمير بوتين ليس ستالين، كما أن روسيا الآن ليست الاتحاد السوفيتى، فبوتين يسعى لإعادة نفوذ موسكو مع إنهاء النظام الدولى الليبرالى الذى كان سائدًا فى الحرب الباردة، والصين لاتزال تركز على الاستقرار فى الداخل، كما أن «النموذج الجديد لعلاقات القوى العظمى»، الذى اقترحته على الولايات المتحدة يحملنا على التمسك بجانبنا من المحيط الهادئ، والسماح لبكين بأن تلعب دورًا بارزًا على جانبها.
ويركز حلفاء أمريكا فى أوروبا وآسيا على ما إذا كانت إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب سترفض عودة ظهور محاور النفوذ، أو أنها ستحتضنهم، فهم يشعرون بالقلق من أنه بدا موافقًا على قيادة «الرجال الأقوياء» المستبدين، وتفضيله نهج بوتين، ولم يظهر كثيرا من الاهتمام للتدخل الإلكترونى لروسيا فى الانتخابات الأمريكية، أو لعدوانها فى أوكرانيا، بجانب قوله إن «حلف شمال الأطلسى عفا عليه الزمن»، وإنه يجب على الولايات المتحدة أن تتخلى عن فكرة «الدفاع عن العالم ».
ووعد ترامب بالتخلى عن اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التجارية، ما يعنى تنازله للصين عن القيادة الاقتصادية والنفوذ الاستراتيجى فى آسيا، وبالنسبة لكثيرٍ من الأوروبيين والآسيويين، فإن هذه التصريحات ستؤدى إلى عالم تتراجع فيه الولايات المتحدة لدخول شرنقتها، وهيمنة روسيا والصين على القارتين.
وعمقت إدارة أوباما مجالات التعاون مع بكين من خلال اتفاق باريس للمناخ، والتعامل مع وباء إيبولا، والاتفاق النووى مع إيران، وإقامة مشاريع مشتركة فى البلدان النامية، وتفاوضت مع روسيا على معاهدة «ستارت الجديدة» لخفض الأسلحة النووية، ودافعت عن انضمام موسكو إلى منظمة التجارة العالمية.
ولكن عندما تتحدى أىٌّ من روسيا أو الصين مبادئ النظام الدولى الليبرالى فيجب على الولايات المتحدة التصدى لهما.. ففى أوكرانيا، سعى بوتين إلى تغيير حدود جارة روسيا بالقوة، وتنكَّر لحق شعبها فى أن يقرر مع أى بلد أو اتحاد أو تحالف سينضم، وهذا هو سبب الدعم الأمريكى للأزمة فى أوكرانيا.
وكذلك دعمنا الحازم للقانون الدولى فى بحر الصين الجنوبى، حيث إن سلوك الصين ومطالبتها بأغلبية مساحة المياه الإقليمية للبحر وبناءها ثكنات عسكرية على الجزر الاصطناعية يخاطر بتقويض حرية الملاحة وحرية تدفق التجارة التى يعتمد عليها ازدهارنا، وقد تعهدنا بالدفاع عن الحل السلمى للنزاعات التى يستند الاستقرار وحقوق الحلفاء عليها.
ومن شأن وجود عالم بمحاور نفوذ ألا يكون سلميًا أو مستقرًا، كما أن الولايات المتحدة لن تكون فى مأمن من الاضطرابات العنيفة، فالرغبة فى توسيع مناطق نفوذ بعض الدول ودورات التمرد والقمع داخلها ستؤدى إلى وجود صراعات تضطرنا للتدخل.
ومساهمة أمريكا الأكبر فى السلام والتقدم العالمى هى التى وضعت حجر الأساس لوجود عالم مفتوح مبنى على قواعد ومتصل ببعضه البعض، ولكن الآن علينا أن نقرر ما إذا كنا سنستمر فى الدفاع عن هذا الأساس وتعديله والبناء عليه، أو أن نصبح شركاء فى تفكيكه.
أنتوني بلينكن
ترجمة: فاطمة زيدان
صحيفة المصري اليوم