تشير التوقعات الاستراتيجية والعسكرية إلى أن سنة 2017 ستكون سنة التراجع المدمر لـ”دولة الخلافة”، على المستوى الميداني، لكن هذه التوقعات لا تحمل معها البشائر بأن خطر الإرهاب سيختفي، بل بالعكس فالقراءات تشير إلى أن القادم أشدّ خطورة في حال بقيت سياسات محاربة الإرهاب في شكلها التقليدي الراهن، فتقلّص قوة تنظيم داعش، أو حتى دحره عسكريا، لم يقابله دحر ثقافي واجتماعي للأرضية التي بنى عليها التنظيم قوته واستقطب من خلالها مقاتليه من كل أنحاء العالم.
تهديد الإرهاب لا ينتهي بمجرّد استعادة منطقة، أو قتل زعيم التنظيم، فداعش ولد من رحم بقايا تنظيم القاعدة في العراق، والقاعدة مستمرة في التهديد رغم مقتل أسامة بن لادن، وبوكو حرام وحركة الشباب في الصومال مستمرتان رغم القصف العسكري المتواصل.
واليوم تحول الإرهاب، في جانبه الأيديولوجي بدرجة أولى، إلى تهديد دولي عابر للقارات، يقتحم السجون الأوروبية ويضرب أعتى العواصم العالمية، ويحوّل منارات الإسلام المعتدل في العالم العربي إلى مناطق رئيسية لتصدير المقاتلين في صفوف التنظيمات المصنفة على قائمة الجماعات الإرهابية الدولية.
ويكشف هذا التمدد أن المواجهة ليست فقط بضربات عسكرية لتحالفات دولية تنتشر من مالي إلى العراق؛ بل بقدر ما تزداد وتيرة تلك الضربات تزداد أيديولوجيا التطرف انتشارا، متغذية من عدة عوامل هي الأولى بالمعالجة والانتباه، تدخل السياسات المحلية والإقليمية والدولية في جزء منها، فيما تسيطر الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية على الجزء الأكبر.
والأخطر من هذا الواقع، ما ذهب إليه الكثير من الخبراء والمشاركين في المؤتمر الدولي الثالث لمكافحة الإرهاب، الذي عقدته مكتبة الإسكندرية من 17 إلى 19 يناير 2017، إلى القول إن التنظيمات الإرهابية باتت تسبق السياسات الحكومية بمراحل، بل إنها تفوقت عليها على مستوى “العمل اللوجستي”.
طرحت هذه المسألة بشكل كبير خلال جلسات المؤتمر الذي اختارت له مكتبة الإسكندرية هذه العام عنوان “العالم ينتفض: متحدون في مواجهة الإرهاب”، وهو عنوان يحمل بعض الضبابية خصوصا فيما يتعلق بفكرة انتفاض العالم واتحاده ضد الإرهاب، وهو اتحاد لم يتحقق بعد ولا يتوقع أن يتحقق لأن الإرهاب في شكله الراهن خلق أساسا لأسباب سياسية واستراتيجية ولخدمة مصالح مختلفة.
أجمع المشاركين على أن الإرهاب “الإسلامي” ظهر خلال الحرب التي رعتها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، بين عامي 1979-1989. ولسنوات بقيت رقعة الخطر محصورة في أفغانستان والمناطق المحيطة بها وفي بعض العمليات المتفرقة، إلى أن جاء التحول الرئيسي الأول في طبيعة هذه الجماعات التي توصف بـ”الجهادية” بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ثم كان الحدث المفصلي الثاني غزو العراق في العام 2003، ليصل إلى المرحلة الأخطر مع تنظيم الدولة الإسلامية.
تنظيم الدولة الإسلامية وعى بأهمية مواقع التواصل الاجتماعي، وقام بتوظيفها في الوقت الذي كانت بعض الحكومات تمنعها ولم تفلح مراقبتها لها في اكتشاف ما كان يتسلل إلى عقول الشباب
كشف تصاعد تنظيم الدولة الإسلامية عن عورات كثيرة في عموم النظام الاجتماعي العالمي، فتجنيد المقاتلين، وإن اتخذ في ظاهره بعدا عقائديا دينيا، فإن أرضيته الرئيسية كانت إحساس الشباب الذين يجري تجنيدهم بالاغتراب ولا علاقة للأمر بالدين، كما قالت الباحثة التونسية بدرة قعلول.
وتوصلت قعلول إلى هذه الخلاصة بعد حديث مع مجموعة من الشباب في منطقة “البودرية”، وهي حي شعبي يعرف بأنه إحدى أشهر بؤر تصدير المقاتلين إلى داعش في تونس. أكد أغلب هؤلاء أن الأمر يتعلق بالحاجة إلى المال أساسا والعيش الجيد، وهو ما توفره في الوقت الراهن هذه الجماعة.
وأكدت بدرة قعلول أن الفقر هو العامل الأول الذي تستغله الجماعات المتطرفة لتجنيد الشباب في تونس، فالظروف المعيشية في الحيّ الذي تم البحث فيه بالغة التدني، كما أن التهميش الاجتماعي والسياسي هو العامل الثاني والأكثر أهمية، فالشباب يشعر بالإحباط والنقص في بلاده، وتقوم تلك الجماعات بإعطائه المكانة الاجتماعية التي يفتقدها. وتساءلت عن دور الدولة في هذا الإطار، مبينة أن دور الباحثين يتمثل في التفكير والتشخيص وإعطاء الحلول العملية، ثم يأتي دور الدولة والمسؤولين. وأضافت أنه يجب العمل على مفهوم “الوقاية”، وإنقاذ الأجيال القادمة من هذا التيار الجارف.
ولم يختلف مشاركون تحدّثت إليهم “العرب”، على هامش المؤتمر، في أن القضاء على الإرهاب يتطلب أوّلا فهم ما يجعل جماعاته تنبض بالحياة، وكيف تمارس نفوذها ولماذا تزدهر، ومن ثمة نعرف كيف تمكن مواجهته.
واعتبروا أن الحرب على الإرهاب لا يزال يخطّط لها على أسس أمنية وعسكرية، رغم أن هذه الأسس تأتي في مرحلة لاحقة، مشيرين إلى أنه وفيما كانت الحكومات والجهات الدينية والنخبوية الرسمية تلقي بالمواعظ وتتحدث كثيرا دون تقديم حلول ملموسة، كان داعش يغرد في تويتر ويتواصل عبر فايسبوك مع هؤلاء الشباب، ويتحدث لغتهم ويطرق مباشرة مكمن الضعف فيهم.
تحديد المصطلحات
كان من أبزر جلسات المؤتمر تلك التي تناولت دور الإعلام في مواجهة الإرهاب، وتستمد هذه الجلسة أهميتها، لا من الحديث عن سلبية الإعلام العربي في التعاطي مع هذه الظاهرة، بسبب اختلاف التوجهات والتمويلات من وسيلة إلى أخرى، بل أساسا من طرحها إشكالية يمكن اعتبارها هي نقطة البداية في تجديد سياسات محاربة الإرهاب، وهي استعمال المصطلحات.
وكان هذا التباين في استعمال المصطلحات واضحا بشكل ملموس خلال المداخلات التي ألقيت على مدى أيام المؤتمر الثلاثة. فمثلا هناك من يقول إرهابيين وهناك من يقول جهاديين، والبعض يضع الفكر المتطرف والإرهاب في بوتقة واحدة، فيما يشاطر البعض الآخر الناشطة الحقوقية اليمنية وسام بساندوه في قولها إنه لا يجب الخلط بين التطرف والعنف، فالتطرف “فكر” يقوده إلى العنف “سلوك”.
وهناك وسائل إعلام وفضائيات ترى من فجّر نفسه داخل كنيسة ضحية، وأخرى تقف حائرة أمام الإجابة على سؤال ماذا لو تبنى داعش عملية ضد مصالح إسرائيلية وهل سيتم توصيف ذلك بالحدث الإرهابي باعتباره عنفا ضد الإنسانية بغض النظر عن التفاصيل.
لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بتحديد المفاهيم والمصطلحات والاتفاق عليها؛ وهي خطوة يعتبرها الخبراء أولى لبنات تجديد الخطاب الديني ومحاربة ما وصفه الباحث العراقي عبدالحسين شعبان بـ”الإسلامولوجيا”، أي استخدام التعاليم الإسلامية ضد الإسلام بما يمنح مبررات للإسلاموفوبيا.
كان عبدالحسين شعبان من أبرز المتحدثين عن ضرورة وجود توصيف دقيق لمصطلحات التعصب والتطرف والعنف والإرهاب؛ فهناك 19 اتفاقية دولية صادرة عن الأمم المتحدة لا تضع تعريفا محددا للإرهاب. وهذا ليس مصادفة، حيث تختلف التعريفات بما يخدم مصالح الدول الكبرى في سياق منحها المبرر القانوني الدولي الذي يعطيها الحق في الغزو وشن حروب استباقية ووقائية ضد بلدان أخرى.
إذن، فتحديد المصطلحات وتسمية الأسماء بمسمّياتها، في الإعلام وفي البيانات والتصريحات والإدانات، خطوة رئيسية في سياق تشخيص الحالة الإرهابية الراهنة. فالإرهاب شأنه شأن مختلف الممارسات الإنسانية ظاهرة قديمة قدم الإنسان، اختلفت صورتها باختلاف بيئتها وأسبابها ودوافعها وهي اليوم تتخذ من الإسلام والجهاد مطية لتنتشر.
لئن كانت هذه الظاهرة في سياقات تاريخية أخرى محدودة جغرافيا وفكريا فإنها اليوم ظاهرة كونية باتت تساير موجة العولمة وتواكب طفرتها الرقمية وتتغذى من سلبياتها، فيما بقي تعامل الجهات المحاربة لها معها تقليديا، بيانات ودراسات ومؤتمرات فكرية، وفي أقصى تجلياته مشاركة عسكرية ضمن التحالفات الدولية لمحاربة الإرهاب.
فنحن، وكما أشار الباحث المصري عمرو الشوبكي “أمام تحول في طبيعة الجماعات المتطرفة، لكننا لا زلنا نستخدم النموذج القديم في التعامل مع هذه المشكلة”؛ فمؤتمر “العالم ينتفض”، بضيوفه الذين تجاوز عددهم الثلاثمئة، بين باحثين وسياسيين وإعلاميين ورجال دين، ومتخصصين، ورغم ما تضمنه من جلسات ومداخلات ذات قيمة شخّصت بشكل دقيق الحالة الإرهابية، فإن مخرجاته تبقى نخبوية صداها لا يصل حتى إلى الآلاف من طلاب كلية التجارة وكلية الحقوق التي يفصلها عن مكتبة الإسكندرية شارع واحد. وبينما كان الخبراء والباحثون المخضرمون يلقون محاضراتهم داخل قاعات مكتبة الإسكندرية عن دوافع انتماء الشباب إلى التنظيمات الإرهابية، كان كورنيش الإسكندرية، يعج بالشباب.
جماعات تستمع للموسيقى، وأخرى تتحدث عن أمنيات، وعاشقون هنا وهناك يسترقون نظرات حالمة لكنها ضائعة تبحث عن بعض الثقة والتحسيس بالأهمية وسط زحام البطالة والوهن الاقتصادي وغياب العدالة الاجتماعية وتقاليد وأفكار “تحجّره” فكريا ونفسيا.
وبينما كان عدد قليل لم يتعدّ الخمسة عشر شخصا حاضرا في جلسة الشباب والتطرف، كان في ساحة المكتبة العشرات وفي خارجها الكثير من هذا الشباب الذي يتحدث لغة غير لغة المؤتمرات ويتصرف بطريقة لا تعترف ببروتوكولات الملتقيات النخبوية.
مواجهة ناقصة
في عصر “التويتس” لا يمكن أن تؤثّر محاضرة من خمس صفحات في شباب يختزل ما يريد قوله في تغريدة أو في تسجيل لا يتجاوز العشر دقائق ويعرضه على يوتيوب، ولم تعد المجلدات متعددة الأجزاء تجد من يقبل عليها، في عصر الهواتف الذكية، ولعل هذا ما تفطنت إليه مكتبة الإسكندرية في بعض مشاريعها المتعلقة برقمنة محتوياتها لكنها لم تدخل هذه الرقمنة بعد على مستوى طريقة تنظيم الملتقيات والمؤتمرات، حيث غلبت الجلسات التقليدية التي يكثر فيها الحديث عن الظاهرة حتى تتوه المعلومة الضرورية بين ثناياها.
الإرهاب تحول إلى تهديد دولي عابر للقارات، يقتحم السجون الأوروبية ويضرب أعتى العواصم العالمية ويحول منارات الإسلام المعتدل في العالم العربي إلى مناطق رئيسية لتصدير المقاتلين في صفوف التنظيمات المصنفة على قائمة الجماعات الإرهابية الدولية
إسماعيل سراج الدين، مدير مكتبة الإسكندرية، عرض في كلمته في اختتام مؤتمر “العالم ينتفض: متحدون في مواجهة الإرهاب”، صورة جميلة تعود للأيام الأولى لثورة 25 يناير وفيها يظهر شباب يقفون مجندين لحماية مكتبة الإسكندرية من الأعمال التخريبية التي شهدتها المدينة خلال تلك الأيام.
كانت ملامح الشباب تنضح تقديرا لهذا الصرح وعكست قلقا كبيرا عليه، في صورة تكشف إلى حدّ ما عن الثغرة التي يتسلل منها المتشددون لتجنيد الشباب واستقطابه. فهؤلاء الشباب وإن كان بعضهم لا يطالع وربما هناك منهم من غادر مقاعد الدراسة في سنوات مبكرة، إلا أنه وعى بأهمية هذا الصرح التنويري وما يحتويه من كنوز معرفية وجبت حمايتها من التخريب، لكن علاقته بالمكتبة وقفت عند هذا الحد، دون أن تتطور لتصل إليه وتبلغه المعارف التي تحتويها والمآثر التي يمكن أن تساعده على تجاوز قتامة واقعه.
تزامن مع انعقاد المؤتمر عرض فيلم “مولانا” لإبراهيم عيسى وإخراج مجدي أحمد علي، وكان لافتا الحضور اليومي لعدد كبير من الشباب في قاعة السينما لمشاهدة الفيلم، في صورة تكشف مدى تفكك سياسات محاربة الإرهاب في العالم العربي، فليس هناك تداخل بين العسكري والثقافي والديني.
يكشف الصدى الذي لقيه فيلم “مولانا” أن المقاربة تبقى ناقصة في غياب دور متزامن للثقافة والسينما والفنون؛ بل وحتى كرة القدم. حضر في المؤتمر، باحثون وسياسون وخبراء وعلماء اجتماع، وكثير منهم في سن الشباب، لكن هؤلاء لا يؤثّرون مثلما يؤثر فنانو الراب والأندر غراوند الذين لا يمكن إنكار أهمية دورهم في هذه المرحلة التي وصفها بدقة الباحث المصري رفعت السعيد بقوله “نواجه ظاهرة صعبة وهي محاولة تجديد وتصحيح الفكر”.
تقول إحدى وثائق موقع ويكيليكس إن تأثير المسلسلات أنجع في الحدّ من النزعة المتطرّفة من مئات ملايين الدولارات التي تنفق على دعايات وحملات لهذا الغرض. وقد اعترف مختصون في الإعلام ممن شاركوا في المؤتمر أنه وفي الوقت الذي ما زالنا ننظر فيه إلى الإعلام على أنه مجرّد مسلسلات وبرامج مسابقات وبرامج طبخ وموضة وبرامج سياسية موجهة وفق تمويل الوسيلة الإعلامية، توفق إعلام تنظيم داعش، وقدم أذرعا إعلامية بتقنيات عالية: مجلة دابق، وأشرطة وتسجيلات موسيقية، بإخراج في غاية التقنية والدقة، ووصل إلى مجال ألعاب الفيديو، وكان ذلك أحد أبرز وسائل الدمغجة والتأثير التي يتّبعها.
في ظل وجود أسباب أخرى جديدة لأعمال الإرهاب، يتوضح أن هزيمة هذا الخطر أضحت معقّدة أكثر ولم تعد تختصر في مقتل أبي بكر البغدادي بل باتت تتطلب مراجعة أكبر تبدأ بتحديث لغة الخطاب وعدم حصر هذه الظاهرة في منظورها الديني فقط، والتحدث بلغة الثورة المعرفية والرقمية لإيصال خطاب ديني متجدد ومتحرر من قيود التراث، التي تنزله إلى أسفل وتبقيه محصورا في أزمان غابرة بينما العالم يتطور ويتقدم وبدأ يجهز مشاريع لاستيطان القمر.
لكن، وعلى أهمية ما جاء في كلمة سراج الدين، ومختلف المداخلات، التي تناولت مواضيع مثل: مقاربة العلوم الاجتماعية للتطرف في العالم العربي، ونقد خطابات التطرّف والإعلام ومواجهة التطرف والتعليم والفضاء الرقمي والتطرف، وغيرها من المواضيع، ستبقى المبادرات من قبيل مؤتمر صناعة التطرّف في تدابير المواجهة الفكرية، قاصرة ومقصّرة إذا ما ظلّت توصياتها حبرا على ورق، وحديث تجمعات نخبوية يصدر جعجعة ويضع يده على الداء لكن دون أن يصنع الترياق المضاد لصناعة التطّرف وينزل معه إلى ساحة المعركة.
حذام خريف
صحيفة العرب اللندنية