قد يستعصي على البعض منا إدراك واستيعاب كل ما يجري من تغيرات في الإقليم، حيث تتسارع الأحداث وتتناقض المواقف للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في منطقتنا نظرا لتضارب المصالح الحاد فيما بينها. ولكن ما يلفت الانتباه هو هذا التمدد الإيراني السريع في المنطقة والذي يتجسد في استحواذ حلفاء إيران في اليمن على السلطة فيها، وكذلك في التواجد العلني لقوات إيرانية في كل من العراق وسوريا. إن لهذا التمدد الإيراني تبعاته الاستراتيجية بالغة الأهمية لعل من أهمها:
1- بالنسبة لفلسطين المحتلة:أصبحت هناك قوات إيرانية موجودة على مقربة من حدود فلسطين المحتلة ولم يعد الأمر مقتصرا على دور استشاري أو تدريبي أو تسليحي. وهو أمر تدركه الحكومة الإسرائيلية على أساس أنه خطر وجودي بالنسبة إليها، فالوجود الإيراني لن يكون مؤقتا على الأغلب مما يدعو للاعتقاد بأن إيران ستكون منخرطة بشكل مباشر في أي نزاع عسكري قد ينشب مستقبلا بين إسرائيل وحزب الله أو الجيش السوري مما سيعرض إسرائيل لكثافة نيران تدميرية غير مسبوقة في أي نزاع محتمل. لقد توحدت بنادق محور إيران وحلفاءها بالقرب من الحدود الفلسطينية لوأد فكرة إيجاد مناطق عازلة تسيطر عليها قوات معارضة سورية في الجولان ودرعا السوريتين لتكون مقدمة لخطة الاستيلاء على دمشق، ولا شك بأن توحيد هذه البنادق سيثير الكثير من المخاوف الإسرائيلية وسيعيد رسم حساباتها من جديد.
2- بالنسبة لسوريا: الوجود العسكري الإيراني يمثل دعامة صلبة بالنسبة للحكومة السورية في وجه قوى المعارضة المسلحة المدعومة من دول إقليمية ودولية وهو تثبيت لمعالم الانتصارات المتوالية التي حققها الجيش السوري في العام الماضي. وهو رسالة واضحة بأن محاولة إسقاط الحكومة السورية بالقوة هو خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
3- بالنسبة للعراق: الوجود العسكري الإيراني هو رسالة أخرى للدول الإقليمية والدولية بأن العراق هي منطقة واقعة ضمن المجال الحيوي الإيراني وأن إيران لن تتوانى عن الانخراط في المواجهة العسكرية للحفاظ على نفوذها ومكتسباتها في العراق.
4- بالنسبة لليمن: إن استيلاء الحوثيين على مناطق واسعة في اليمن بما فيها العاصمة صنعاء يؤكد المدى الذي وصل إليه المجال الحيوي الإيراني، حيث أصبح مضيق باب المندب ليس بعيدا عن القبضة الإيرانية، ليصبح لإيران تواجد قوي على مضيقي هرمز وباب المندب اللذان يعتبران من أهم الممرات المائية في العالم. كما أن هذا الانتشار الحوثي يعد انتصارا مدويا لإيران وانتكاسة لخصومها الخليجيين.
5- بالنسبة للملف النفطي والعلاقة مع دول الخليج: لا شك في أن الوجود الإيراني في العراق الذي يقع شمال المنظومة الخليجية واليمن في جنوب هذه المنظومة إضافة إلى الوجود الإيراني الحقيقي على الشرق من الجزيرة العربية يمثل تطويقا من ثلاث جهات للاتحاد الخليجي، كما أن الورقة البحرينية تمثل مصدر قلق وجودي لدول الخليج وهذا ما يفسر التوجه الخليجي القوي نحو الغرب ومحاولة الاستجارة بالجار المصري كملاذ آمن ومحاولة التقرب منه عن طريق الدعم المالي والإعلامي للحكومة المصرية الحالية.
إن هذا التطويق للمنظومة الخليجية قد يوقف تدهور أسعار النفط، لا بل قد يدفعها للاستقرار التدريجي على اعتبار أن الوجود الحوثي يهدد السعودية التي تدفع بأسعار النفط إلى الأسفل ويضع أكبر مصدر للنفط في العالم تحت خطر نزاع حدودي مسلح مع اليمن، كما أن لإيران نوع من السيطرة على القرار النفطي في العراق واليمن وكذلك تواجد على مضيقي هزمز وباب المندب كما أسلفنا.
6- بالنسبة للمفاوضات النووية مع دول 5+1: يبدو أن الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى على وشك أن ينجز، حيث لم تجد محاولات إسرائيل والدول العربية “المعتدلة” آذانا صاغية لدى الدول الكبرى ويبدو أن المفاوضات تنصب الآن على التفاصيل الدقيقة بعد أن تم الاتفاق على الأطر الأساسية بين الأطراف المتفاوضة. إن عقد هكذا اتفاق من شأنه أن يرتب اعترافا ضمنيا من قبل القوى الدولية بأن إيران هي قوة إقليمية أساسية في المنطقة وأن الدول الغربية ستتوقف عن سياسة عزل واحتواء إيران وهذا ما سيعزز النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، مما سيزيد من قلق إسرائيل والدول العربية “المعتدلة” وقد يدفعها للمزيد من التنسيق فيما بينها.
من حق الجميع الاتفاق أو الاختلاف مع السياسة الخارجية الإيرانية، لكن لا بد من الاعتراف بأن الإنجازات الإيرانية الأخيرة هي نتيجة عمل مؤسسي دؤوب واستقراء جيد للأحداث من حولها، والأهم من ذلك تحرر صانع القرار الإيراني من التبعية لقوى خارجية وهو ما أدى إلى رسم استراتيجية تنطلق من المصالح الوطنية الإيرانية البحتة.
إياس عاشور
راي اليوم